الباحث القرآني
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنا بَيْتًا دَعائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ، وقِيلَ: أنَّ (ألْ) في الظّالِمِينَ إنْ كانَتْ مَوْصُولَةً واسْمَ الفاعِلِ بِمَعْنى الحُدُوثِ أفادَ الكَلامَ سَبَبِيَّةَ الجَحْدَ لِلظُّلْمِ، وإنْ كانَتْ حَرْفَ تَعْرِيفٍ واسْمَ الفاعِلِ بِمَعْنى الثُّبُوتِ أفادَ سَبَبِيَّةَ الظُّلْمِ لِلْجَحْدِ لا يَخْفى ما فِيهِ، والِالتِفاتُ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ واسْتِعْظامًا لِما قَدِمُوا عَلَيْهِ، وإيرادُ الجُحُودِ في مَوْرِدِ التَّكْذِيبِ لِلْإيذانِ بِأنَّ آياتِهِ سُبْحانَهُ مِنَ الوُضُوحِ بِحَيْثُ يُشاهِدُ صِدْقَها كُلُّ أحَدٍ، وأنَّ مَن يُنْكِرُها فَإنَّما يُنْكِرُها بِطَرِيقِ الجَحُودِ، وهو كالجَحْدِ نَفْيُ ما في القَلْبِ ثَباتُهُ أوْ إثْباتُ ما في القَلْبِ نَفْيُهُ، والباءُ مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَجْحَدُونَ) والجَحْدُ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ والباءِ، فَيُقالُ جَحَدَهُ حَقَّهُ وبِحَقِّهِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ كَلامِ الجَوْهَرِيِّ والرّاغِبِ، وقِيلَ: إنَّهُ إنَّما يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ والباءِ هَهُنا لِتَضْمِينِهِ مَعْنى التَّكْذِيبِ، وأيًّا ما كانَ فَتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ مُراعاةً لِرُءُوسِ الآيِ أوْ لِلْقَصْرِ، ونَقَلَ الطَّبَرْسِيُّ عَنْ أبِي عَلِيٍّ أنَّ الجارَّ مُتَعَلِّقٌ بِـ (الظّالِمِينَ) وفِيهِ خَفاءٌ، وما ذُكِرَ مِن أنَّ الفاءَ لِتَعْلِيلِ ما يُشْعِرُ بِهِ الكَلامُ هو الَّذِي قَرَّرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وقِيلَ أنَّها تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ قَدْ نَعْلَمُ إلَخْ بِناءً عَلى أنَّ مَعْناهُ لا تَحْزَنُ كَما يُقالُ في مَقامِ المَنعِ والزَّجْرِ: نَعْلَمُ ما تَفْعَلُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَحْزَنُ مِمّا يَقُولُونَ فَإنَّ التَّكْذِيبَ في الحَقِيقَةِ لِي وأنا الحَلِيمُ الصَّبُورُ فَتَخَلَّقْ بِأخْلاقِي، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى إنَّهُ يَحْزُنُكَ قَوْلُهم لِأنَّهُ تَكْذِيبٌ لِي فَأنْتَ لَمْ تَحْزَنْ لِنَفْسِكَ بَلْ لِما هو أهَمُّ وأعْظَمُ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا خِلافُ المُتَبادِرِ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ بِقُلُوبِهِمْ ولَكِنَّهم يَجْحَدُونَ بِألْسِنَتِهِمْ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ وغَيْرِهِ ويُؤَيِّدُهُ ما رَواهُ السُّدِّيُّ أنَّهُ التَقى الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وأبُو جَهْلٍ فَقالَ الأخْنَسُ لِأبِي جَهْلٍ: يا أبا الحَكَمِ أخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ -ﷺ - أصادِقٌ هو أمْ كاذِبٌ فَإنَّهُ لَيْسَ هَهُنا أحَدٌ يَسْمَعُ كَلامَكَ غَيْرِي، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: واللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَصادِقٌ، وما كَذَبَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَطُّ، ولَكِنْ إذا ذَهَبَ بَنُو قَصِيٍّ بِاللِّواءِ والسِّقايَةِ والحِجابَةِ والنَّدْوَةِ والنُّبُوَّةِ فَماذا يَكُونُ لِسائِرِ قُرَيْشٍ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، وكَذا ما أخْرَجُهُ الواحِدِيُّ عِنْدَ مُقاتِلٍ قالَ: كانَ الحارِثُ بْنُ عامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافِ بْنِ قَصِّيِ بْنِ كِلابٍ يُكَذِّبُ النَّبِيَّ ﷺ في العَلانِيَةِ فَإذا خَلا مَعَ أهْلِ بَيْتِهِ قالَ: ما مُحَمَّدٌ ﷺ مِن أهْلِ الكَذِبِ ولا أحْسَبُهُ إلّا صادِقًا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ، وقِيلَ: المَعْنى أنَّهم لَيْسَ قَصْدُهم تَكْذِيبَكَ لِأنَّكَ عِنْدَهم مَوْسُومٌ بِالصِّدْقِ، وإنَّما يَقْصِدُونَ تَكْذِيبِي والجُحُودَ بِآياتِي، ونُسِبَ هَذا إلى الكِسائِيِّ، وأُيِّدَ بِما أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحاهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّ أبا جَهْلٍ كانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ما نُكَذِّبُكَ وإنَّكَ عِنْدَنا لَصادِقٌ ولَكُنّا نُكَذِّبُ ما جِئْتِنا بِهِ فَنَزَلَتْ، وكَذا أخْرَجَ الواحِدِيُّ عَنْ أبِي مَيْسَرَةَ، واعْتَرَضَ الرَّضِيُّ هَذا القَوْلَ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُصَدِّقُوهُ ﷺ في نَفْسِهِ ويُكَذِّبُوا ما أتى بِهِ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ما أتى بِهِ وصِدْقِهِ وأنَّهُ الدِّينُ القَيِّمُ والحَقُّ الَّذِي لا يَجُوزُ العُدُولُ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ صادِقًا في خَبَرِهِ ويَكُونُ الَّذِي أتى بِهِ فاسِدًا بَلْ إنْ كانَ صادِقًا فالَّذِي أُتِيَ بِهِ صَحِيحٌ، وإنْ كانَ الَّذِي أتى بِهِ فاسِدًا فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ كاذِبًا فِيهِ، وقالَ مَوْلانا سِنانٌ: إنَّ حاصِلَ المَعْنى أنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ في نَفْسِ الأمْرِ لِأنَّهم يَقُولُونَ إنَّكَ صادِقٌ ولَكِنْ يَتَوَهَّمُونَ أنَّهُ اعْتَرى عَقْلَكَ وحاشاكَ نَوْعُ خَلَلٍ فَخُيِّلَ إلَيْكَ أنَّكَ نَبِيٌّ ولَيْسَ الأمْرُ بِذاكَ وما جِئْتَ بِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وقالَ الطِّيبِيُّ: مُرادُهم إنَّكَ لا تَكْذِبُ لِأنَّكَ الصّادِقُ الأمِينُ ولَكِنْ ما جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ ويُعْلَمُ مِن هَذا الجَوابِ عَنِ اعْتِراضِ الرَّضِيِّ فَتَدَبَّرْ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ أنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ فِيما وافَقَ كُتُبَهم وإنْ كَذَّبُوكَ في غَيْرِهِ، وقِيلَ: المَعْنى لا يُكَذِّبُكَ جَمِيعُهم وإنْ كَذَّبَكَ بَعْضُهم وهُمُ الظّالِمُونَ المَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ، وعَلى هَذا لا يَكُونُ ذِكْرُ الظّالِمِينَ مِن وضْعِ المَظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ولا يَخْفى ما الألْيَقُ بِجَزالَةِ التَّنْزِيلِ
وقَرَأ نافِعٌ والكِسائِيُّ والأعْمَشُ عَنْ أبِي بَكْرٍ: (لا يَكْذِبُونَكَ) مِنَ الإكْذابِ وهي قِراءَةُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، ورُوِيَتْ أيْضًا عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ الجُمْهُورُ: كِلاهُما بِمَعْنى كَأكْثَرَ وكَثُرَ وأنْزَلَ ونَزَلَ، وقِيلَ: مَعْنى أكْذَبْتُهُ وجَدْتُهُ كاذِبًا كَأحْمَدْتُهُ بِمَعْنى وجَدْتُهُ مَحْمُودًا، ونَقَلَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى عَنِ الكِسائِيِّ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: كَذَّبْتَ بِالتَّشْدِيدِ إذا نَسَبَتِ الكَذِبَ إلَيْهِ وأكْذَبْتَهُ إذا نَسَبَتِ الكَذِبَ إلى ما جاءَ بِهِ دُونَهُ.