الباحث القرآني

طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف ٥ - ٩]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ [الزخرف ٥] الهمزة هنا للاستفهام المراد به النفي، بدليل أن المفسِّر قدَّر بعد ذلك قوله: (لا)؛ يعني: لن نضرب عنكم الذكر صفحًا، المعنى أننا لا يمكن أن نترككم بدون إنذار لكونكم قومًا مسرفين، بل لا بد من الإنذار، كما تقول: ضربت عن هذا صفحًا؛ يعني: أعرضت عنه ولم ترفع به رأسًا. والمراد بهذا -كما قلت- النفي توبيخًا لهؤلاء القوم الذين أعرضوا عما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والضمير في قوله: (نضرب) يعود إلى الله عز وجل، وأتى بالضمير الدالِّ على الجميع تعظيمًا لله تعالى وليس للتعدد؛ لأن الله عز وجل واحد لا شريك له. والضمير في قوله: ﴿عَنْكُمُ﴾ يعود إلى كفار قريش الذين كذَّبوا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقوله: ﴿صَفْحًا﴾ مصدر معنوي لكلمة (نضرب)؛ لأن معناه: إعراضًا. أظنكم الآن عرفتم المعنى الإجمالي، المعنى: أن أعرضوا عن تذكيركم وإنذاركم، هذا معنى الآية. وهذا الذي سمعتم يفعله العرب في كلامهم، يقول: أعرضت عنك صفحًا؛ يعني: لم أبالِ بك، ولم أتلفت إليك. ﴿أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ (أن) و(ما) دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لأجله؛ أي: لأجل أن كنتم قومًا مسرفين، فهي تعليلية. والإسراف: مجاوزة الحد. * يستفاد من هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى لم يترك عباده هملًا، بل بيَّن لهم الحق ودعاهم إليه، وخوَّفهم من مخالفته، فلم يبق لأحد عذر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان معذور بالجهل إذا لم تبلغه الرسالة. وهذا له أدلة؛ منها قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣] إلى قوله: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء ١٦٥]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء ١٥]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص ٥٩]، والأدلة على هذا كثيرة. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[[أخرجه مسلم (١٥٣ / ٢٤٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فقال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ». فإن قال قائل: وهل يُشتَرَط مع بلوغ الرسالة أن يفهمها المخاطب؟ فالجواب: نعم، يُشترَط هذا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم ٤]، أي فائدة في رسول يأتي إلى قوم لا يعرفون لغته وهو لا يعرف لغتهم؟ أي فائدة تحصل؟ لا فائدة، والله عز وجل أرحم، وأحكم من أن يُعذِّب قومًا بدون أن يفهموا ما جاءت به الرسل. يبقى النظر: إذا كان الإنسان مسلمًا، ولكنه يقوم بأعمال شركيَّة لا يظن أنها شرك، فهل يُحْكَم بشركه؟ فالجواب: لا، حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة فحينئذٍ نحكم بشركه. وإذا قال قائل: رجل في الغابات بعيدٌ عن المدن، بعيد عن الحضارات، لكنه ينتمي إلى دين كفر، فهل هذا معذور؟ فالجواب: أما في أحكام الدنيا فليس بمعذور؛ يعني: أننا نعامله معاملة الكافر؛ لأنه لا ينتمي إلى دين الإسلام بخلاف الأول، نعامله في الدنيا معاملة الكافر، أما في الآخرة فأمرُه إلى الله عز وجل لا ندري ماذا يكون، وقد جاء في الحديث أن أهل الفترة يُرسِل الله إليهم رسلًا يوم القيامة يمتحنهم؛ من أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار[[أخرج أحمد (١٦٣٠١) وابن حبان -واللفظ له- (٧٣٥٧) عن الأسود بن سريع رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة؛ فأما الأصم، فيقول: يا رب، لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق، فيقول: رب، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم، فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب، ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النار، قال: فو الذي نفسي بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلامًا». وأخرجه إسحاق ابن راهويه في مسنده (٥١٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال: «أربع كلهم يدلي على الله بحجة وعذر: رجل مات في الفترة، ورجل مات هرمًا، ورجل معتوه، ورجل أصمُّ أبكم، فيقول الله لهم: إني أرسل إليكم رسولًا فأطيعوه، فيأتيهم فيتأجج لهم نارًا فيقول: اقتحموها. مَن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يقتحمْها حقَّت عليه كلمة العذاب».]]. فإن قال قائل: على قولك هذا يلزم أن تكون الآخرةُ دارَ تكليف، إذا قلت: إن الله يرسل رسولًا فينظر؛ لزم أن تكون الآخرة دار تكليف؟ فالجواب: نعم، نلتزم بهذا، وقد دلَّ القرآن على أن الآخرة دار تكليف، فقال عز وجل: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم ٤٢، ٤٣]، فهنا كُلِّفوا بالسجود، مع أن الآخرة ليست دار تكليف في الأصل، لكن قد يُكَلَّف الناس فيها. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أحكامَ الله عز وجل مُعَلَّلة بعللٍ مناسبة للحكم، وهذا من مقتضى حكمته؛ ألا تجد حكمًا إلا وله حكمة، ولكن هل يلزم من كونه له حكمة أن تكون معلومةً لنا؟ الجواب: لا؛ لأن أفهامنا وعقولنا أدنى من أن تحيط علمًا بحكمة الله عز وجل، لكننا نعلم أنه لا يحكم بشيء قدرًا أو شرعًا إلا وله حكمة، رأيتَ الله عز وجل حكم حكمًا في الكتاب أو السنة فلا تبغ به بديلًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب ٣٦]، ولمَّا سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الحائض تقتضي الصوم دون الصلاة، قالت: «كان يصيبُنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢١)، ومسلم واللفظ له (٣٣٥/٦٩) من حديث عائشة رضي الله عنها.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب