الباحث القرآني

(p-٣٨٣)ولَمّا أفْهَمَ تَكْرِيرَ هَذا التَّأْكِيدِ أنَّهم يَطْعَنُونَ في عُلاهُ، ويَقْدَحُونَ في بَدِيعِ حُلاهُ، فَعَلَ مَن يَكْرَهُهُ ويَأْباهُ، إرادَةً لِلْإقامَةِ عَلى ما لا يُحِبُّهُ اللهُ ولا يَرْضاهُ، قالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: ﴿أفَنَضْرِبُ﴾ أيْ نُهْمِلُكم فَنَضْرِبُ أنْ نُنَحِّيَ ونَسِيرَ مُجاوِزِينَ ﴿عَنْكُمُ﴾ خاصَّةً مِن بَيْنِ بَنِي إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿الذِّكْرَ﴾ أيِ الوَعْظِ المُسْتَلْزِمِ لِلشَّرَفِ ﴿صَفْحًا﴾ أيْ بِحَيْثُ يَكُونُ حالُنا مَعَكم حالَ المُعْرِضِ المُجانِبِ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ، فَلا نُرْسِلُ إلَيْكم رَسُولًا، ولا نُنْزِلُ مَعَهُ كِتابًا فَهو مَفْعُولٌ لَهُ أيْ نَضْرِبُ لِأجْلِ إعْراضِنا عَنْكُمْ، أوْ يَكُونُ ظَرْفًا بِمَعْنى جانِبًا أيْ نَضْرِبُهُ عَنْكم جانِبًا، قالَ الجامِعُ بَيْنَ العُبابِ والمُحْكَمِ: أضْرَبْتُ عَنِ الشَّيْءِ: كَفَفْتُ وأعْرَضْتُ، وضَرَبَ عَنْهُ الذِّكْرَ وأضْرَبَ عَنْهُ: صَرَفَهُ، وقالَ الإمامُ عَبْدُ الحَقِّ في الواعِي: والأصْلُ في ضَرَبَ عَنْهُ الذِّكْرَ أنَّ الرّاكِبَ إذا رَكِبَ دابَّتَهُ فَأرادَ أنْ يَصْرِفَهُ عَنْ جِهَتِهِ ضَرَبَهُ بِعَصاهُ لِيَعْدِلَهُ عَنْ جِهَتِهِ إلى الجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُها، فَوَضَعَ الضَّرْبَ في مَوْضِعِ الصَّرْفِ والعَدْلِ، قالَ الهَرَوِيُّ: قالَ الأزْهَرِيُّ: يُقالُ: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأضْرَبْتُ بِمَعْنًى واحِدٍ، ونَقَلَ النَّواوِيُّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ المُجَرَّدَ قَلِيلٌ، فالحاصِلُ أنَّ الضَّرْبَ (p-٣٨٤)إيقاعُ شَيْءٍ عَلى آخَرَ بِقُوَّةٍ، فَمُجَرَّدُهُ مُتَعَدٍّ إلى واحِدٍ، فَإنَّ عُدِّيَ إلى آخَرَ بِ ”عَنْ“ ضِمْنَ مَعْنى الصَّرْفِ، وإذا زِيدَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَقِيلَ: أضْرَبْتُ عَنْهُ، أفادَتِ الهَمْزَةُ قَصَرَ الفِعْلِ، وأفْهَمَتْ إزالَةَ الضَّرْبِ، فَمَعْنى الآيَةِ: أفَنَضْرِبُ صارِفِينَ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا، أيْ مُعْرِضِينَ إعْراضًا شَدِيدًا حَتّى كَأنّا ضَرَبْنا الذِّكْرَ لِيَنْصَرِفَ عَنْكم مَعْرِضًا كَإعْراضِ مَن ولّى إلى صَفْحَةِ عُنُقِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ إرادَتَهم هَذا الإعْراضَ بِما يَقْتَضِي الإقْبالَ بِعَذابٍ أوْ مَتابٍ فَقالَ: ﴿أنْ﴾ أيْ أنَفْعَلُ ذَلِكَ لِأنْ ﴿كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ أيْ لِأجْلِ أنْ كانَ الإسْرافُ جِبِلَّةً لَكم وخَلْقًا راسِخًا، وكُنْتُمْ قادِرِينَ عَلى القِيامِ بِهِ في تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والقَدْحُ فِيما يَأْتِي بِهِ والِاسْتِهْزاءُ بِأمْرِهِ بِتَرْكِكم خَشْيَةً مِن شِدَّتِكم أوْ رَجاءً مِن غَيْرِ تَذْكِيرٍ لِتَوْبَتِكم وقَدْ جَعَلَ حِينَئِذٍ المُقْتَضى مانِعًا، فَإنَّ المُسْرِفَ أجْدَرُ بِالتَّذْكِيرِ وأحْوَجُ إلى الوَعْظِ، هَذا إنْ كانَ مُقَرَّبًا، وأمّا البَعِيدُ فَإنَّهُ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ مِن أوَّلِ الأمْرِ، بَلْ لَوْ أرادَ طَرْد، وعَلى قِراءَةِ نافِعٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ بِكَسْرِ ”إنَّ“ عَلى كَوْنِها شَرْطِيَّةً يَكُونُ الكَلامُ مَسْبُوقًا عَلى غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ الإنْصافِ، فَيَكُونُ المَعْنى: (p-٣٨٥)أنَتْرُكُكم مُهْمِلِينَ فَنُنَحِّي عَنْكُمُ الذِّكْرَ والحالُ أنَّكم قَوْمٌ يُمْكِنُ أنْ تَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالإسْرافِ، يَعْنِي أنَّ المُسْرِفَ أهْلٌ لِأنْ يُوعَظَ ويُكَلَّمَ بِما يَرُدُّهُ عَنِ الإسْرافِ، وأنْتُمْ وإنِ ادَّعَيْتُمْ أنَّكم مُصْلِحُونَ لا تَقْدِرُونَ أنْ تَدْفَعُوا عَنْكم إمْكانَ الإسْرافِ فَكَيْفَ يَدْفَعُ عَنْكم إنْزالَ الذِّكْرِ الواعِظِ وأنْتُمْ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أنْ تَكُونُوا مُسْرِفِينَ فَتَحْتاجُوا إلَيْهِ - هَذا ما لا يَفْعَلُهُ حَكِيمٌ في عِبادِهِ، بَلْ هو سُبْحانَهُ لِلُطْفِهِ وزِيادَةِ بِرِّهِ لا يَتْرُكُ دُعاءَ عِبادِهِ إلى رَحْمَتِهِ وإنْ كانُوا مُسْرِفِينَ قَدْ أمْعَنُوا في الشِّرادِ، والجَحْدِ والعِنادِ، فَيَدْعُوهم بِأبْلَغِ الحُجَّةِ، وهو هَذا القُرْآنُ الَّذِي هو أشْرَفُ الكِتابِ عَلى لِسانِ هَذا النَّبِيِّ الَّذِي هو أعْظَمُ الرُّسُلِ لِيَهْتَدِيَ مَن قُدِّرَتْ هِدايَتُهُ وتَقُومُ الحُجَّةُ عَلى غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب