الباحث القرآني

وبَعْدَ ما بَيَّنَ سُبْحانَهُ عُلُوَّ شَأْنِ اَلْقُرْآنِ اَلْعَظِيمِ وحَقَّقَ جَلَّ وعَلا أنَّ إنْزالَهُ عَلى لُغَتِهِمْ لِيَعْقِلُوهُ ويُؤْمِنُوا بِهِ ويَعْمَلُوا بِمُوجِبِهِ عَقَّبَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِإنْكارِ أنْ يَكُونَ اَلْأمْرُ بِخِلافِهِ فَقالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ﴾ أيْ أفَنُنَحِّيهِ ونُبْعِدُهُ عَنْكم عَلى سَبِيلِ اَلِاسْتِعارَةِ اَلتَّمْثِيلِيَّةِ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ اَلْغَرائِبَ عَنِ اَلْحَوْضِ شَبَّهَ حالَ اَلذِّكْرِ وتَنْحِيَتَهُ بِحالِ غَرائِبِ اَلْإبِلِ وذَوْدِها عَنِ اَلْحَوْضِ إذا دَخَلَتْ مَعَ غَيْرِها عِنْدَ اَلْوَرْدِ ثُمَّ اِسْتَعْمَلَ ما كانَ في تِلْكَ اَلْقِصَّةِ هاهُنا، وفِيهِ إشْعارٌ بِاقْتِضاءِ اَلْحِكْمَةِ تَوَجُّهَ اَلذِّكْرِ إلَيْهِمْ ومُلازَمَتَهُ لَهم كَأنَّهُ يَتَهافَتُ عَلَيْهِمْ، ولَوْ جُعِلَ اِسْتِعارَةً في اَلْمُفْرِدِ بِجَعْلِ اَلتَّنْحِيَةِ ضَرْبًا جازَ ومِن ذَلِكَ قَوْلُ طُرْفَةَ: ؎أضْرِبُ عَنْكَ اَلْهُمُومَ طارِقَها ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ اَلْفَرَسِ وقَوْلُ اَلْحَجّاجِ في خُطْبَتِهِ يُهَدِّدُ أهْلَ اَلْعِراقِ: لَأضْرِبَنَّكم ضَرْبَ غَرائِبِ اَلْإبِلِ. و(الذِّكْرَ) قِيلَ اَلْمُرادُ بِهِ اَلْقُرْآنُ ويُرْوى ذَلِكَ عَنِ اَلضَّحّاكِ وأبِي صالِحٍ والكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ إنْزالَ اَلذِّكْرِ وفِيهِ إقامَةُ اَلظّاهِرِ مَقامَ اَلْمُضْمَرِ تَفْخِيمًا، وقِيلَ: بَلْ هو ذِكْرُ اَلْعِبادِ بِما فِيهِ صَلاحُهم فَهو بِمَعْنى اَلْمَصْدَرِ حَقِيقَةً، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ. ومُجاهِدٍ ما يَقْتَضِيهِ، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مَحْذُوفٍ يَقْتَضِيهِ عَلى أحَدِ اَلرَّأْيَيْنِ في مِثْلِ هَذا اَلتَّرْكِيبِ أيْ أنُهْمِلُكم فَنُنَحِّي اَلذِّكْرَ عَنْكُمْ، وقالَ اِبْنُ اَلْحاجِبِ: اَلْفاءُ لِبَيانِ ما قَبْلَها وهو جَعْلُ اَلْقُرْآنِ عَرَبِيًّا سَبَبٌ لِما بَعْدَها وهو إنْكارُ أنْ يَضْرِبَ سُبْحانَهُ اَلذِّكْرَ عَنْهم ﴿صَفْحًا﴾ أيْ إعْراضًا، وهو مَصْدَرٌ لِنَضْرِبَ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ فَإنَّ تَنْحِيَةَ اَلذِّكْرِ إعْراضٌ فَنَصْبُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَلى نَهْجِ قَعَدْتُ جُلُوسًا كَأنَّهُ قِيلَ: أفَنَصْفَحُ عَنْكم صَفْحًا أوْ هو مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أوْ حالٌ مُؤَوَّلٍ بِصافِحِينَ بِمَعْنى مُعْرِضِينَ، وأصْلُ اَلصَّفْحِ أنْ تُولِيَ اَلشَّيْءَ صَفْحَةَ عُنُقِكَ، وقِيلَ: إنَّهُ بِمَعْنى اَلْجانِبِ فَيَنْتَصِبُ عَلى اَلظَّرْفِيَّةِ أيْ أفَنُنَحِّيهِ عَنْكم جانِبًا، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ حَسّانَ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ اَلضَّبْعِيِّ والسُّمَيْطِ بْنِ عُمَيْرٍ وشُبَيْلِ بْنِ عُذْرَةَ (صُفْحًا) بِضَمِّ اَلصّادِ وحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَخْفِيفُ صُفْحٍ كَرُسْلٍ جَمْعَ صَفُوحٍ بِمَعْنى صافِحِينَ، وأبُو حَيّانَ اِخْتارَ أنْ يَكُونَ مُفْرَدًا بِمَعْنى اَلْمَفْتُوحِ كالسَّدِّ والسُّدِّ. وحُكِيَ عَنِ اِبْنِ عَطِيَّةَ أنَّ اِنْتِصابَ صَفْحًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ اَلْجُمْلَةِ اَلسّابِقَةِ فَيَكُونُ اَلْعامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، ولا يَخْفى أنَّهُ لا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ إنْكارُ أنْ يَكُونَ اَلْأمْرُ خِلافَ ما ذُكِرَ مِن إنْزالِ كِتابٍ عَلى لُغَتِهِمْ لِيَفْهَمُوهُ ﴿أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ أيْ لِأنْ كُنْتُمْ مُنْهَمِكِينَ في اَلْإسْرافِ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ عَلى مَعْنى أنَّ اَلْحِكْمَةَ تَقْتَضِي ذِكْرَكم وإنْزالَ اَلْقُرْآنِ عَلَيْكم فَلا نَتْرُكُ ذَلِكَ لِأجْلِ أنَّكم مُسْرِفُونَ لا تَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ بَلْ نَفْعَلُ اِلْتَفَتُّمْ أمْ لا. وقِيلَ: هو عَلى مَعْنى أنَّ حالَكم وإنِ اِقْتَضى تَخْلِيَتَكم وشَأْنَكم حَتّى تَمُوتُوا عَلى اَلْكُفْرِ والضَّلالَةِ وتَبْقَوْا في اَلْعَذابِ اَلْخالِدِ لَكِنَّنا لِسِعَةِ رَحْمَتِنا لا نَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ نَهْدِيكم إلى اَلْحَقِّ بِإرْسالِ اَلرَّسُولِ اَلْأمِينِ وإنْزالِ اَلْكِتابِ اَلْمُبِينِ. وقَرَأ نافِعٌ والأخَوانِ (إنْ كُنْتُمْ) بِكَسْرِ اَلْهَمْزَةِ عَلى أنَّ اَلْجُمْلَةَ شَرْطِيَّةٌ، وإنْ وإنْ كانَتْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمَشْكُوكِ وإسْرافُهم أمْرٌ مُحَقَّقٌ لَكِنْ جِيءَ بِها هُنا بِناءً عَلى جَعْلِ اَلْمُخاطَبِ كَأنَّهُ مُتَرَدِّدٌ في ثُبُوتِ اَلشَّرْطِ شاكٌّ فِيهِ قَصْدًا إلى نِسْبَتِهِ إلى اَلْجَهْلِ بِارْتِكابِهِ اَلْإسْرافَ لِتَصْوِيرِهِ بِصُورَةِ ما يَفْرِضُ لِوُجُوبِ اِنْتِفائِهِ وعَدَمِ صُدُورِهِ مِمَّنْ يَعْقِلُ، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى هَذا لِأنَّ اَلشَّرْطَ اَلْإسْرافُ في اَلْمُسْتَقْبَلِ وهو لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ، ورُدَّ بِأنَّ إنِ اَلدّاخِلَةَ عَلى كانَ لا تَقْلِبُهُ لِلِاسْتِقْبالِ (p-66)عِنْدَ اَلْأكْثَرِ، ولِذا قِيلَ: (إنْ) هُنا بِمَعْنى إذْ. وأُيِّدَ بِأنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ قَرَأ بِهِ وأنَّهُ يَدُلُّ عَلى اَلتَّعْلِيلِ فَتُوافِقُ قِراءَةَ اَلْفَتْحِ مَعْنًى، ولَوْ سُلِّمَ فالظّاهِرُ مِن حالِ اَلْمُسْرِفِ اَلْمُصِرِّ عَلى إسْرافِهِ بَقاؤُهُ عَلى ما هو عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُحَقَّقًا في اَلْمُسْتَقْبَلِ أيْضًا عَلى اَلْقَوْلِ بِأنَّها تَقْلِبُ كانَ كَغَيْرِها مِنَ اَلْأفْعالِ وجَوابُ اَلشَّرْطِ مَحْذُوفٌ ثِقَةً بِدَلالَةِ ما قَبْلُ عَلَيْهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اَلشَّرْطُ في مَوْقِعِ اَلْحالِ أيْ مَفْرُوضًا إسْرافُكم عَلى أنَّهُ مِنَ اَلْكَلامِ اَلْمُنْصِفِ فَلا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ جَوابٍ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ إنَّما يَتَأتّى عَلى اَلْقَوْلِ بِأنَّ إنِ اَلْوَصْلِيَّةَ تَرِدُ في كَلامِهِمْ بِدُونِ اَلْواوِ والمَعْرُوفُ في اَلْعَرَبِيَّةِ خِلافُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب