الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ﴿فَاطِرُ﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوف، والتقدير: هو فاطر، وإنما قلنا هذا لأن اللغة العربية لا يمكن أن يتركب فيها كلام إلا من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل أو ما ينوب مناب الفعل، ﴿فَاطِرُ﴾ أي: هو فاطر، والفاطر بمعنى الخالق على غير مثال سبَقَ، فهو بمعنى بديع السماوات. والسماوات والأرض معروفتان، السماوات هي هذه السماوات السبع التي أخبرنا الله عنها وبيَّن أنها سبع شداد، وبيَّن أنه سبحانه وتعالى بناها بأيد، فقال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات ٤٧] أي: بقوة، وليس المراد بالأيد في هذه الآية يدَ الله عز وجل؛ لأن الله لم يضفها إلى نفسه لم يقل: بأيدينا، قال: ﴿بِأَيْدٍ﴾ و(أيد) مصدر: آد يئيد؛ إذا قوي، فهو كقوله: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ [النبأ ١٢]، هذه السبع الشداد إذا كان يوم القيامة فقد قال الله عنها: إنها تكون واهية، ﴿فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ [الحاقة ١٦] أي: ضعيفة. أما الأرض فهي أرضنا المعروفة، و(السماوات) مجموعة لأنها سبع، و(الأرض) مفردة يُراد بها الجنس، وقد بيَّن الله عز وجل في سورة الطلاق أنها سبعٌ، فقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] فقال: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾، ومن المعلوم أن المماثلة هنا ليست مماثلة في الذات؛ إذ إنَّ بين السماوات والأرض بونًا شاسعًا، لكن المراد مثلهن في العدد، ويؤيد ذلك ما جاءت به السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣١٩٨)، ومسلم واللفظ له (١٦١٠/١٣٧) من حديث عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه ولفظه: «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين». ]]. يقول المفسر: (﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مبدعهما) يريد أن يفسِّر ﴿فَاطِرُ﴾ بمعنى مُبْدعٍ، ولكننا فسرناها بمعنى بديع، وتفسيرنا لا ينافي تفسيره، المعنى واحد، لكن مطابقة اللفظ لما جاء به القرآن أولى، والذي جاء في القرآن بديع ولَّا مبدع؟ بديعٌ. ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾؛ أي: صيَّرَ لكم من أنفسكم أزواجًا، قال الشارح: (حيث خلق حواء من ضلع آدم) فكأنه يميل رحمه الله إلى أن المراد بالأزواج هنا حواء، ولكن هذا غير صحيح، بل جعل لنا من أنفسنا أزواجًا؛ يعني نساء مشاكلات لنا، لم تكن الأنثى بعيدة عن شكل الرجل؛ لأنها لو كانت بعيدة عن شكل الرجل ما ألِفَها ولا جعل الله بينهم مودة ورحمة. وقوله إذن: ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: من جنسكم، وليس المراد من نفس الإنسان جعل له زوجة، لا، لو كانت من نفسه لم تكن زوجة؛ لأنها تكون بنته، لكن المراد ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي: من جنسكم، كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم ٢١]. وجعل لكم أيضًا ﴿مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾، الأنعامُ جمع نَعَمٍ كبهيمة الأنعام، ﴿أَزْوَاجًا﴾ أي ذكورًا وإناثًا من أجل الإنتاج والتنمية وغير ذلك من المصالح. (﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ بالمعجمة يخلقكم) ويش معنى المعجمة؟ هل في القرآن شيء عجميٌّ؟ لا، لكن يعبِّرون عن المنقوط بأنه مُعْجم من باب تسمية الشيء بضده، وإلا فهو مُعْرَب في الواقع؛ لأنه لولا هذه النقط -مثلًا- لأشكل ولم يُفْهَم المعنى، إذا المُعْجَم المنقط، وسُمِّيَ بذلك من باب تسمية الشيء بضده، كما يسمون التعبُّد بالتحنث، كما في حديث بدء الوحي يتحنَّث فيه؛ أي يتعبد[[حديث بدء الوحي متفق عليه؛ البخاري (٣) ومسلم (١٦٠/٢٥٢) من حديث عائشة رضي الله عنها. ]]. طيب، المعجمة ضدها المهملة؛ الشين ضد السين، الذال معجمة ضد الدال. أما الحركات فيسمونها مثلثة أو بالوجهين، أو ما أشبه ذلك. وأحيانًا يقولون: إذا كانت الكلمتان المشتبهتان كلتاهما معجمة قالوا: بالمثلثة؛ مثل التاء والثاء، لو قالوا: معجمة ما زال الإشكال ولكن يقولون: بالمثلثة. الطاء والظاء يقولون: بالظاء المُشالة يعني اللي فيها ألف، احترازا من الضاد؛ لأنها غير مشالة. المهم اصطلاحات معروفة عند العلماء. وقوله: (يخلقكم) فسَّر (يذرأ) بيخلق، وهو تفسير ناقصٌ؛ لأن (يذرأ) لها معنًى زائد على الخلق وهو البَثُّ والانتشار، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [البقرة ١٦٤]، فالذرء أخص من الخلق، فمعنى ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ إذن: يبثكم وينشركم. (﴿فِيهِ﴾ أي: الجعل المذكور) ثم قال: (أي يُكثِّركم بسببه). شوف فسَّر أولًا ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ بيخلقكم ثم قال: (أي يُكثِّركم)، والتفسير الثاني هو الأصح؛ التكثير والبث والنشر بالتوالد، قال: (والضمير للأناسي والأنعام للتغليب) ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يقول: (إن الضمير) وهو الكاف والميم (للأناسي والأنعام)، الأناسي يعني البشر، والأنعام البهائم، (للتغليب) كيف للتغليب؟ لأن الضمير هنا جاء ضمير العاقل، والأنعام لا يأتي لها ضمير العاقل؛ لأنها غير عاقلة، لكن جاء ذلك للتغليب، لما كان الذرء للإنسان والبهائم قال: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ ولم يقل: يذرؤكنَّ. إذن -يا إخوان- انتبهوا أن التغليب قد يكون بتغيير الاسم، قد يكون بالضمير، وما أشبه ذلك. القمران للشمس والقمر؛ تغليب بتغيير الاسم؛ لأن القمران لو فكيتها عن التثنية لكانت (قمر وقمر) وليس كذلك، المراد قمر وشمس، فهنا بتغيير الاسم. الضمير في قوله: ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾ يعود على ما سبق ذكره من بهائم وأَناسي على سبيل التغليب، لولا التغليب لوجب أن يكون الضمير ضمير المؤنث للبهائم، وضمير مذكر للأَناسي. قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (﴿السَّمِيعُ﴾ لما يقال، ﴿الْبَصِيرُ﴾ لما يُفْعَل) جل وعلا، قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ﴾ الكاف زائدة؛ لأنه تعالى لا مثل له، وزيادة الكاف ليس غريبًا، تأتي دائمًا زائدة، ولهذا قال ابن مالك رحمه الله في الألفية التي ينبغي لطالب النحو ألَّا يترك حفظها: (شبِّه بكاف) هذا تشبيه، (وبها التعليل قد يُعْنَى) أي: قد يُراد بها التعليل، (وزائدًا لتوكيدٍ ورد) يعني: وقد تأتي زائدة. في هذه الآية الكاف زائدة، بمعنى أنها لو حُذِفَت لاستقام الكلام، لو قيل: (ليس مثله شيء) يستقيم الكلام أو لا؟ يستقيم الكلام لا شك، لكن لماذا جاءت الكاف؟ جاءت الكاف للتوكيد، كأنه نفى المثْلَ مرتين: ليس كهو، ليس مثله، فالزيادة هنا فيها زيادة معنًى، وهو كأنه نفى المثلية مرَّتين؛ مرة عن طريق الكاف، ومرة عن طريق (مثل). وبعضهم يقول: إن الزائد (مثل) وإن التقدير: ليس كهو شيء. لكن هذا قول ضعيف؛ لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الزيادة حرفًا أو اسمًا فالواجب أن تكون الزيادة حرفًا؛ لأنه لم يأت في اللغة العربية زيادة الأسماء، ولأن الحرف معناه في غيره فمجيئه زائدًا ليس بغريب، والاسم يدل على معنًى في نفسه فإتيانه زائدًا بعيد. إذن عندنا قولان: الأول: أن الكاف زائدة. وهذا سهل، وجرى في اللغة العربية مثله، وتكون الزيادة هنا للتوكيد. وبعضهم قال: الزاد (مثل)، وهو قول ضعيف. بعضهم يقول: إن المثل هنا بمعنى الصفة؛ يعني: ليس كصفته شيء، و(المِثل) تأتي بمعنى الصفة، مثل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرعد ٣٥]؛ أي: صفتها. وهذا أيضًا ضعيف؛ لأننا نقول: إن الله ليس مثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته. بعضهم يقول: إن هذا على سبيل المبالغة؛ يعني إذا لم يكن لمثله مِثلٌ لو فُرِضَ أن له مِثْلًا، فمن باب أَوْلى ألَّا يكون له هو مثل، وأن هذا مما جرى على لسان العرب للمبالغة في الوصف، وأنشدوا على ذلك: ؎لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرِ ∗∗∗ ....................... من المبالغة؛ يعني هذا لا نظير له إطلاقًا. وهذا الأخير والأول هما أقرب الأقوال في إعراب هذه الجملة، لكن من حيث المعنى والاعتقاد نؤمن بأن الله تعالى ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ليس كمثله شيء في كل شيء، يجب علينا أن نؤمن بهذا، فذاته مخالفة لجميع الذوات، نحن نرى الذوات مختلفة؛ الإنسان مركب من عظمٍ ولحمٍ وعصبٍ ودمٍ، هناك أشياء مركبةٌ من جواهر أخرى، الرب عز وجل مباين لكل شيء موجود في الكون في ذاته، لا تقل مثلًا: إنه مثل الذهب، مثل الفضة، وما أشبه ذلك، لا، ولهذا لما قال المشركون للرسول: يا محمد، هل ربك من ذهب أو من فضة أو من كذا أو من كذا؟ أنزل الله قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص ١ - ٤][[ذكر البغوي في تفسيره (٥/٣٢٩) عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي ﷺ فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى الله»، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة. فأهلك الله أربد بالصاعقة وعامر بن الطفيل بالطاعون.]]. فلا تتصور ذات الرب عز وجل أبدًا؛ لأنك مهما تصورت على أي شيء تتصوره؟ لا مثيل له ولا نظير له. كذلك في صفاته ليس له مثيل، ليس له نظير في أي صفة من صفاته. ولنأخذ العلم؛ العلم من صفات الله عز وجل، هل له نظير في هذه الصفة؟ لا نظير له في هذه الصفة أبدًا، علم كل ذي علمٍ محدود، أعلَمُ الناس علمُه محدود، أليس كذلك؟ قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ﴾ [لقمان ٣٤]، أنت بنفسك لا تدري ما تكسب غدًا، قد تقدِّر أنك ستعمل كذا وكذا ولكن لا تعمل؛ إما لصرف الهمة، أو لمانعٍ خارجي. كلنا نقدِّر أن غدًا سنفعل كذا وكذا لكن ما نفعل، ولا ندري ما يكون، قد يصرف الله همَّتنا عن هذا الفعل، أو توجد موانع خارجية من مرض أو سفر أو حيلولة بيننا وبين مرادنا، ما ندري عنه. أيضًا علمك محدود بالمشاهدة، الغائب لا تفكر أن عندك علمًا منه حتى في المشاهد علمُك ناقص، الإنسان لا يعلم ماذا يفعل ولده في بيته ولا أهله في بيته. بل أشد من هذا وأضعف في العلم أنك لا تعلم عن نفسك، سبحان الله! روحُك التي بها حياتك وهي في جسمك ما تدري عنها، لما سألوا النبي ﷺ عن الروح أنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء ٨٥]، ثم وبَّخهم على هذا السؤال فقال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥]، كأنه يقول سبحانه وتعالى: تسألون عن الروح وأنتم ما أحطتم بالأشياء، ما علمتم عن الأشياء إلا قليلًا، ما بقي عليكم إلا علم الروح حتى تسألوا عنها؟! فإذا كان الإنسان لا يعلم روحه التي بين جنبيه وبها حياته فهو دليل على نقصان العلم. علم الله عز وجل، اسمع ماذا يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق ١٦]، كل إنسان كل حيوان فالله عز وجل يعلم ما في نفسه، هل علم المخلوق مثل هذا؟ في القدرة، القدرة ليس أحد، بل لو اجتمع الخلق كلهم بقدرهم ما ساووا شيئًا من قدرة الله؛ فإن الله عز وجل على كل شيء قدير، اسمع قال الله عز وجل: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس ٥٣] يعني: البعث صيحة واحدة يصيح الله بهم، ﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ كلهم في أقطار الدنيا، ولو في الغابات والكهوف وأعماق البحار كلهم يأتون في آن واحد، ﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾. هذه القدرة هل يمكن أن يشابهها أو يماثلها قدرة؟ لا يمكن أبدًا، لذلك نقول: إن الله ليس كمثله شيء. واعلم أن هذه الآية استدلَّ بها المعطِّلة والممثِّلة وأهل السنة، كل الثلاثة؛ الممثلة قالوا: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ إثبات يدل على المماثلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى -هذه شبهتهم- خاطبنا بالقرآن، والقرآن جعله الله بلسان عربي من أجل أن نعقل ونفهم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف ٣]، قالوا: فإذا خاطبنا الله بشيء مما وصف به نفسه وجب أن نحمله على ما نفهم، ونحن لا نفهم إلا ما نحس به، فيجب أن تُحْمَلُ كل صفة لله على ما كان معلومًا، ولذلك قالوا: إن الله تعالى مثل خلقه. نسأل الله العافية، والله لو كان مثلنا ما عبدناه، ولا يمكن أن يعبد الإنسان مثله، لكن هم بعقولهم الضالة قالوا: يلزم مما أخبر الله به عن نفسه من الصفات أن تكون مثل صفاتنا، والشبهة أن الله خاطبنا بما نفهم ونعقل، ونحن لا نفهم إلا ما نشاهد، فإذا خاطبنا عن شيء غائب وجب أن نحمله على المعلوم عندنا. المعطِّلة استدلوا بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وقالوا: كل صفة أثبتها الله لنفسه فإنها تدل على التمثيل، فيجب أن تكون منفيةً، واللي فتح لهم الباب هم الممثلة يقولون: كل صفة أثبتها الله لنفسه فإنها تستلزم التمثل، والتمثيل ممتنع، إذن يجب أن تمتنع كل صفة. مثال ذلك يقولون: إن الله عز وجل لم يستوِ على العرش الاستواء الحقيقي؛ لأنه لو استوى على العرش لكان جسمًا، فيكون مماثلًا للمخلوق، فتصوروا الآن، هم تصوروا أن استواء الله على عرشه كاستواء الإنسان على الأنعام، فلمَّا فهموا هذا الفَهم أنكروا الاستواء، الإنسان يستوي على البعير كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف ١٢، ١٣]، هم فهموا أن استواء الله على العرش كاستواء الإنسان على البعير؛ على الأنعام، وقالوا: هذا تمثيل، والتمثيل مستحيل على الله، فيجب إنكاره. وهذا قول المعتزلة والجهمية ومن ضاهاهم، نفوا كل صفةٍ للهِ، وقالوا: لا يمكن أن نصف الله بشيء، الحُجَّة أن الإثبات يستلزم التمثيل، والله عز وجل قد نفى أن يكون له مِثْلٌ، وأيضًا المماثلة مستحيلة عقلًا، فيكون دل العقل على زعمهم، دل العقل والشرع على أن الله ليس له مثيل، فيجب أن ننفي جميع الصفات، فهؤلاء حقيقة أمرهم أنهم مثَّلوا أولًا ثم عطلوا ثانيًا؛ مثَّلوا أولًا حيث اعتقدوا أن الأدلة تدل على التمثيل، وهذا اعتقاد فاسد، ثم بعد ذلك عطَّلوا وأنكروا. ولكن هذه الشبهة دفعها يسير، نقول لهم: هل تثبتون لله وجودًا؟ إما أن يقولوا: لا، وإما أن يقولوا: نعم، أليس كذلك؟ ما يمكن يحيصون، إما أن يقولوا: نعم، أو يقولوا: لا. فإذا أثبتوا لله وجودًا، نقول: هل هو وجود حقيقي أو وهمي؟ إن قالوا: وهمي، كفروا ما فيه إشكال، وإن قالوا: حقيقي، قلنا: طيب هل تثبتون لأنفسكم وجودًا؟ إما أن يقولوا: نعم، أو يقولوا: لا. إن قالوا: لا، قلنا: لا نخاطب أشباحًا بلا شيء، لكن لن يقولوا: لا، يقولون: نعم نثبت لأنفسنا وجودًا، نقول: إذن يلزمكم التمثيل؛ لأنكم أثبتم لله تعالى صفة هي ثابتة للمخلوق، فيلزمكم التمثيل. شوف الباطل لا بد أن يندحر. لكن انفك قوم عن هذا الإلزام من الغلاة قالوا: لا نقول: إن الله موجود، أعوذ بالله تعبدون من؟ قالوا: لا نقول: إن الله موجود، قلنا: معدوم، إذا قلتم: غير موجود لزم أن تقولوا: إنه معدوم، إن قلتم: إنه معدوم مثَّلتم؛ لأن الموجود من الخلق يكون معدومًا قبل وجوده وبعد وجوده؛ قال الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان ١]، وهذا حقيقة، الواحد منا قبل ولادته بسنتين ليس بشيء معدوم، فإن قلتم: إن الله معدوم شبَّهتم ومثَّلتم على قاعدتكم، قالوا: إذن نقول: لا موجود ولا معدوم، أعوذ بالله! لا موجود ولا معدوم، نقول: الله أكبر، هل يمكن أن يكون الشيء لا موجودًا ولا معدومًا؟ كل شيء فهو إما موجود أو معدوم؛ لأن تقابل الوجود والعدم تقابل تناقض، والمتناقضان لا بد من وجود أحدهما، لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يمتنعا. فإذا قالوا: لا موجود ولا معدوم، نقول: شبهتموه الآن بالمستحيلات والممتنعات، فأهل الباطل لا مفرَّ لهم من لوازمه الباطلة. تكايس قوم وقالوا: نحن لا نقول: إنه لا يتصف بصفةٍ لكننا نصفه بما نحكم به عليه ولا يحكم به على نفسه، انتبهْ، قالوا: لا ننكر الصفات، لكن نصفه بما نحكم به عليه لا بما يحكم به على نفسه، وهؤلاء المتكايسون هم الأشعرية، أثبتوا من الصفات سبعًا وأنكروا الباقي؛ فأثبتوا الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام، وأنكروا الباقي، قالوا: لا نثبت من الصفات على وجه الحقيقة إلا هذه الصفات السبع، فهذه ثابتة حقيقة، على اختلاف بينهم وبين أهل السنة في بعضها، الكلام عندهم غير الكلام عند أهل السنة، والباقي لا نثبته. أيش تعملون به؟ قالوا لنا: فيه طريقان: إما التفويض بأن نقول: لا ندري ما معناه، وإما التأويل الذي يسمونه تأويلًا وهو في الحقيقة تحريف. والأشاعرة هم أكثر الناس انتشارًا في البلاد الإسلامية، ولهذا يجب أن نعرف مذهبهم تمامًا، ونعرف الرد عليهم حتى يتقلص هذا المدُّ أو يزول بالكلية. ونسأل الله تعالى أن يزيله إلى الحق، نسأل الله تعالى أن يشملنا وإياكم برحمته، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. والأشاعرة هم أكثر الناس انتشارًا في البلاد الإسلامية، ولهذا يجب أن نعرف مذهبهم تمامًا، ونعرف الرد عليهم، حتى يتقلص هذا المد أو يزول بالكلية، ونسأل الله تعالى أن يزيله إلى الحق. يقولون: نثبت هذه الصفات السبع، وغيرها لا، ولذلك يقولون في استعمالهم للنصوص: ما سوى هذا إما أن نُفَوِّضه ونقول: لا ندري معناه، وإما أن نؤوله، ونحن نسمي تأويلهم تحريفًا؛ لأن التأويل الذي لا دليل عليه تحريف، وفي ذلك يقول ناظم عقيدتهم: ؎وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ∗∗∗ أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ تَرُمْ تَنْزِيهَا والله عجيب! إن فَوَّضْنَاه أو أَوَّلْنَاه بمعنى التحريف فإننا لم نَرُم التنزيه، بل وقعنا في العيب، وجهه لأنا إذا قلنا: لا نعلم هذا المعنى، فهذا يعني أن الله أنزل علينا كتابًا مجهولًا لا يُدْرَى ويش معناه، وليته لا يدرى ويش معناه في أمور تتعلق بفعل العبد كالصلاة والطهارة، في العقيدة، وإن حَرَّفْنَاه وقعنا أيضًا في بلاء، في اتهام الله عز وجل أنه لم يُبَيِّن لعباده إلا ما كان خلاف الحق، وكلاهما شيء كبير، حتى إن شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إن قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد، وأنه هو الذي فتح للفلاسفة القَدْح في الدين، وقالوا: إذا كنتم لا تعرفون المعنى وأنتم عجم بالنسبة للقرآن العربي نحن اللي نعرف، وصاروا يخبطون خبط عشواء. الآن نعود إلى مذهب الأشاعرة يُثْبِتُون لله سبع صفات: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، ومع ذلك إثباتهم لها ليس كإثبات أهل السنة والجماعة، نضرب مثلًا بالكلام، الكلام يقولون: إن الله عز وجل ما هو بيتكلم، ما يتكلم بصوت مسموع أبدًا، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه، وما يسمعه العباد فإنما هو عبارة عن الكلام مخلوق، فلما قال الله لنبيه ﷺ: «إِنِّي فَرَضْتُ عَلَيْكَ خَمْسِينَ صَلَاةً»[[هو بمعناه، ولفظه أخرجه النسائي (٤٥٠) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «فرضتُ عليك وعلى أمتك خمسين صلاة..» الحديث.]]، بهذا اللفظ أو معناه، الله ما قاله؛ لأن الكلام هو المعنى القائم بنفسه، لكن خلق أصواتًا سمعها النبي ﷺ تعبر عما في نفسه، سبحان الله! الآن لو تَفَكَّرْنَا لوجدنا قولهم هذا أخبث من قول الجهمية، سمعتم؟ ليش؟ الجهمية عندهم صراحة، قالوا: كلام الله مخلوق ومسموع، لكنه مخلوق، هؤلاء قالوا: كلام الله غير مخلوق لكنه غير مسموع، هو المعنى القائم بنفسه، ويخلق أصواتًا تُسْمَع تعبر عما في نفسه، أيهم أصرح؟ الجهمية، ما بين أيدينا القرآن هذا، الجهمية يقولون: هذا كلام الله حقيقة لكنه مخلوق، الأشاعرة يقولون: لا، هذا ما هو كلام الله حقيقة، هذا عبارة عن كلام الله، وكلام الله هو المعنى القائم بالنفس، أيهم أحسن؟ الأول، وكلاهما غير حسن، لكن إحنا نقول: أحسن كما قال عز وجل: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفرقان ٢٤]، مع أنه ما فيه خير مستقر أهل النار. على كل حال الأشعرية أثبتوا سبع صفات، قيل لهم: ما هو الدليل على إثبات الصفات السبع ونفي ما سواها؟ قالوا: الدليل العقل، العقل دَلَّ على إثبات هذه الصفات، ولم يدل على إثبات غيرها، إذن حَكَّمُوا العقل فيما يُثْبِتُون لله، ولم يُحَكِّمُوا الله فيما يُثْبِتُ لنفسه، وهذا عدوان، عدوان في حق الله عز وجل، مَن الذي يحكم على نفسه لنفسه؟ الله عز وجل، أنتم تحكمون على الله؟ قالوا: الله خَاطَبَنَا ولنا عقول، لا بد أن نُعْمِل العقول. قلنا: طيب، ادونا دليلًا عقليًّا على هذه الصفات السبع، قالوا: نعم، نعطيكم أدلة عقلية، الإيجاد يدل على أيش؟ على القدرة؛ لأن العاجز ما يُوجِد شيئًا، ومعلوم أننا نرى المخلوقات تتواجد شيئًا فشيئًا، قالوا: إيجادها يدل على القدرة. طيب المخلوقات الكائنة بعضها إنسان، وبعضها حصان، وبعضها جمل، وبعضها شمس، وبعضها قمر، وبعضها سماء، وبعضها أرض، هذا التخصيص يدل على أيش؟ يدل على الإرادة، لولا الإرادة ما صار هذا كذا وهذا كذا، إذن أثبتنا الإرادة والقدرة، هذه المخلوقات مُحْكَمَة مُتْقَنَة ما فيها تناقض ولا تصادم، لم نَرَ الشمس يومًا من الأيام اصطدمت بالأرض، أو بالقمر، أو بالنجوم، مُحْكَم مُتْقَن يدل على العلم، إذن ثَبَتَ ثلاث صفات عن طريق العقل، وهي: العلم، والإرادة، والقدرة، قالوا: وهذه الصفات لا يمكن أن تقوم إلا بِحَيٍّ، فثبتت بذلك صفة الحياة، قالوا: والحي إما أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، أو أصم أعمى أخرس، والأول كمال، والثاني نقص، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن النقص، فوجب أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا. ونحن قد نوافقهم على هذا، ونقول: العقل دَلَّ على ذلك، لكن ما سوى هذه دَلَّ عليها الشرع، ونحن نتنزل معهم إلى آخر شيء، نقول: ما سوى ذلك دَلَّ عليه الشرع، ومن المعلوم أن انتفاء الدليل الْمُعَيَّن لا يستلزم انتفاء المدلول؛ لأن الأدلة قد تتعدد على مدلول واحد، فإذا قَدَّرْنَا أن العقل لم يدل على الصفات التي أثبتها الله لنفسه سوى السبع فقد دل عليها الشرع، والشرع يَثْبُت بدليل واحد، وبدليلين، وبثلاثة، المهم أن يكون له دليل، هذه واحدة، هذا جواب. جواب آخر: أن نمنع مِن كَوْن العقل لم يدل على بقية الصفات، ونقول: بقية الصفات منها ما دل عليه العقل، ومنها ما دَلَّ عليه السمع فقط، فمثلًا إنزال المطر، إنبات النبات، رَفْع الوباء، بَسْط الرزق، ممن هذا؟ من الله عز وجل، ماذا يدل عليه هذا؟ يدل على الرحمة دلالة واضحة أقوى من دلالة التخصيص على الإرادة؛ لأن دلالة التخصيص على الإرادة لا يفهمه إلا ذاك عن ذَيَّاك، إلا طالب العلم المختص، حتى طلبة: العلم أحيانًا ننشب إحنا وإياهم، نقول: كيف دَلَّت التخصيص على الإرادة؟ لكن كَوْن هذه الأمور النافعة؛ حصول النعم، واندفاع النِّقَم، تدل على الرحمة، هل هو خفي أو واضح؟ واضح، حتى العامي، العامي يخرج من بيته في الصباح وقد جاء المطر في الليل، فيقول: مُطِرْنَا بفضل الله ورحمته، وهو عامي، فنقول لهم الآن: ما نفيتموه زاعمين أن العقل لا يدل عليه فلنا عنه جوابان: الجواب الأول: أننا لا نُسَلِّمُ أن العقل لا يدل عليه، بل نقول: إن العقل يدل عليه، وإن كان لا يدل على كل صفة لكن في جملة. ثانيًا: أن نقول: هَبْ أن العقل لا يدل عليه، لكن دل عليه السمع؛ القرآن والسنة، ولا يلزم من انتفاء دلالة العقل أن لا يثبت الشيء بدليل آخر؛ لأن انتفاء الدليل الْمُعَيَّن لا يستلزم انتفاء المدلول، وهذه قاعدة مفيدة، وأضرب لكم ذلك بشيء محسوس، مكة كم لها من طريق؟ طرق متعددة، فإذا قُدِّرَ أن هذا الطريق يمتنع السير معه لوجود قُطَّاع طريق، أو وجود أمطار أفسدته، أو ما أشبه ذلك، ألا يمكن أن نصل إلى مكة من طريق آخر؟ بلى، هكذا المعاني، إذا انتفى دليل من الأدلة لكن وجدنا دليلًا آخر هل ننكر هذا المدلول لأن أحد الأدلة غير قائم؟ لا، نقول: ما دام هذا الدليل غير قائم هناك دليل آخر. ولذلك هدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الوسط؛ لا تمثيل، ولا تعطيل، قالوا: نُثْبِتُ لله عز وجل جميع ما وصف به نفسه في القرآن، أو فيما صَحَّت به السنة، لاحظوا، لازم من القيد بالنسبة للسنة، فيما صحت به السنة؛ لأن من الأحاديث ما هو ضعيف أو موضوع، القرآن لا تقل: ما صَحَّ في القرآن؛ ليش؟ كله صحيح، في السنة لا بد أن تقيد، أو ما صحت به السنة، نثبت كل صفة، ولا نتحاشى ولا نَتَهَيَّب، إذا كان الله عز وجل أثبت لنفسه يدًا وقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة ٦٤]، هل علينا أن نَتَهَيَّب من إثبات اليد؟ بل هل لنا أن نَتَهَيَّب؟ لا يجوز أبدًا، بل الهيبة أن نخالف، أَثْبِت اليد ولا تبالِ، أثبت ربك لنفسه وجهًا، تتهيب من إثبات الوجه؟ لا، التهيب حقيقة مِن نَفْيِ الوجه، أما ما أثبته الله فيجب أن نثبته، لكن على هذه القاعدة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١]، فنقول: لله وجه وليس كوجه المخلوق، يقينًا أنه ليس كأوجه المخلوقين. فإن قال قائل: ما دليلك؟ لماذا لا تحمل الوجه على الوجه المعروف؟ دليله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. أثبت الله سبحانه وتعالى أنه يأتي يوم القيامة: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر ٢٢]، أتتهيَّب أن تصف الله بالمجيء؟ لا، ما نتهيب، نقول: نصف الله بالمجيء، لكن هل هو كمجيء الْمَلِك على فرس، أو سيارة، أو ما أشبه ذلك؟ لا، يقينًا ليس كذلك، لكنه مجيء يليق بجلاله، أثبت الله لنفسه أنه استوى على العرش في عدة مواضع من القرآن تبلغ سبعة بهذا اللفظ: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف ٥٤]، هل تتهيب أن تثبت ذلك لله؟ لا، بل هو مُسْتَوٍ حقيقةً، أتهيَّب أن أقول: ﴿اسْتَوَى﴾ بمعنى: استولى؛ لأن استوى بمعنى استولى تحريف للكَلِم على مواضعه، لكنني أؤمن إيمانًا لا شك فيه أن هذا الاستواء لا يماثل استواء المخلوقين بأي حال من الأحوال، استوائي على الفُلْك أو على البعير لو أُزِيلَ ما استويت عليه لسقطت لا شك، لكن استواء الله على العرش ليس كذلك، ليس استواء احتياج إلى العرش؛ لأن الله غَنِيٌّ عن العرش وعن غيره، لكنه استواء عظمة وسلطان، أفهمتم يا جماعة؟ حَقِّقُوا العقيدة، لا تغركم الأوهام، وما ذنب الإنسان إذا قال: أنا أؤمن بكل ما أثبته لنفسه؟ ليس ذنبًا، بل هذا حقيقة الانقياد والاستسلام لله عز وجل، لكن يجب شيء واحد، وهو أن تؤمن بأنه لا مثيل له؛ لأن الله قال: ﴿لَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل ٧٤]، وقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة ٢٢]، وأشبه ذلك، وأنت لا تعلم الغيب، الله عز وجل هو الذي يعلم، وهو أخبرك عن نفسه بكذا فقل: آمنا وصَدَّقْنَا. وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الْمُعَطِّلَة أقسام: قسم عَطَّلُوا البعض، وقسم عَطَّلُوا الصفة دون الاسم، وقسم عَطَّلُوا الصفة والاسم نفيًا لا إثباتًا، يعني بمعنى قالوا: لا نصف الله بشيء ثابت، لكن نصفه بالنفي، وقسم قالوا: لا نصفه لا بالنفي ولا بالإثبات، إن وصفناه بثابت شَبَّهْنَاه بالموجودات، وإن وصفناه بِمَنْفِيٍّ شَبَّهْنَاه بالمعدومات. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ نرى في بعض الكتب: (إن الله لا شبيه له)، فهل هذا التعبير يماثل قولنا: إن الله لا مَثِيلَ له؟ لا، ولهذا التعبير بقولنا: نؤمن بإثبات ذلك بلا تمثيل، خير من التعبير بقولنا: نثبت ذلك بلا تشبيه، مع أننا نرى أكثر الكتب التي بأيدينا أنهم يقولون: بلا تشبيه، لكن هذا نقص، التعبير بلا تمثيل أولى؛ أولًا: لأنه تعبير القرآن، وكلما أمكنك أن تعبر بالقرآن أو السنة عن المعاني التي تريد فهو أولى. ثانيًا: أن التشبيه عند قوم يعنون به إثبات الصفات، ويقولون: كل مَن أثبت لله صفة فهو مُشَبِّه، فإذا قلت أنت: بلا تشبيه، وكان هذا المخاطب لا يفهم من التشبيه إلا الإثبات، فَهِمَ منك أنك لا تثبت شيئًا، ثم إن التشبيه أيضًا له احتمالات؛ إن نفيت التشبيه من كل وجه فهذا لا يمكن؛ لأنه لا بد أن يشترك الخالق والمخلوق في أصل الصفة، فالحياة -مثلًا- عندنا حياة، والله تعالى حي، أصل الحياة موجود، لكن المنفي هو أن تكون حياتنا مماثلة لحياة الله، السمع موجود فينا والا غير موجود؟ موجود نعم، وموجود عند الله عز وجل، فإن الله تعالى سميع، فلا بد من اشتراكٍ في الأصل، وجودنا نحن موجودون، والرب عز وجل كذلك واجب الوجود، وهَلُمَّ جَرّا، فصار التعبير بنفي التمثيل أولى من التعبير بنفي التشبيه. قال تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١] هذا رد على مَن؟ الْمُعَطِّلَة، والجملة الأولى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ على الْمُمَثِّلَة، ﴿السَّمِيعُ﴾ أي: ذو السمع، وسَمْع الله عز وجل له معنيان؛ المعنى الأول: الاستجابة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم ٣٩]، معنى سميع أي: مستجيب، وليس المراد أنه يَسْمَعُه فقط؛ لأن مجرد كونه يسمعه ولا يستجيب قليل الفائدة، لكن: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ أي: مُسْتَجِيبُه، واستجابته إياه تستلزم سماعه لا شك، ومن ذلك أيضًا –أي: من كَوْن السماع بمعنى الاستجابة- قول المصلي: سمع الله لمن حمده، ويش معنى سمع؟ يعني أنه سمع صوته، أو استجاب له؟ استجاب له؛ لأنه كما قلت لكم: مجرد سماع الصوت لا يفيد شيئًا بالنسبة للداعي، ولهذا لو قال لك إنسان: يا فلان أرجو أن تساعدني، تقول: أسمع، يعني: أسمع بأذني، هل يستفيد من هذا ولَّا ما يستفيد؟ ما يستفيد؛ لأنه سيقول لك: إذا كنت تسمع أعطني، فصار كل ما أُضِيفَ للدعاء من السمع فمعناه أيش؟ الاستجابة. النوع الثاني من السمع: إدراك المسموعات، بمعنى أنه لا يخفى على الله أي صوت، قَرُب أم بَعُد، خَفِي أم بَانَ، فإن الله يسمع كل شيء، أرأيتم قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة ١]، أين الله؟ في السماء على العرش، وأين المكان الذي كانت هذه تشتكي فيه؟ في الأرض، تقول عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ، لقد كانت تجادل الرسول عليه الصلاة والسلام وإني لفي الحجرة يخفى عَلَيَّ بعض حديثها[[أخرج النسائي (٣٤٦٠) وابن ماجه (١٨٨) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الحمدُ للهِ الذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقد جاءتْ خولة إلى رسول الله ﷺ تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: ١] الآيةَ.]]، والله عز وجل لم يَخْفَ عليه شيء، سمع المجادلة وسمع التحاور، وأنزل حل المشكلة. إذن السمع بمعنى سَمْع الإدراك شامل لكل صوت، ثم هذا السمع إما أن يكون للتأييد، أو للتهديد، أو للإحاطة، كم؟ ثلاثة أقسام: إما أن يكون للتأييد، أو للتهديد، أو للإحاطة؛ التأييد مثل قوله تبارك وتعالى لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، لماذا قال الله عز وجل: ﴿أَسْمَعُ وَأَرَى﴾؟ تأييدًا لهما، يعني: أسمع ما تقولان وما يُقَالُ لكما، والأمر أَمْرُه عز وجل، هذا سماع يراد به التأييد. الثاني: ما يراد به التهديد، مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف ٨٠]، ما المراد بهذه الآية؟ ليس المراد مجرد أن الله يُخْبِرُ أنه يسمع سِرَّهم ونجواهم، المراد بذلك التهديد، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران ١٨١]، بس مجرد سمع، أو هذا تهديد؟ هذا تهديد، بدليل قوله: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾ [آل عمران ١٨١]، فهذا تهديد. الإحاطة: أن يُخْبِر مثل: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، هذه إخبار بأنه تعالى محيط بكل شيء سمعًا، وكما في قصة المجادلة، فإن الله تعالى أخبر بذلك ليُعْلِمَنَا أنه محيط بها. أعود مرة ثانية في السمع، ينقسم إلى سَمْع بمعنى الاستجابة، وسَمْع بمعنى إدراك المسموع؛ الأول مثاله قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، وقول المصلي: سمع الله لمن حمده. والثاني ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يراد به التأييد. والثاني: ما يراد به التهديد. والثالث: ما يراد به الإحاطة، وعرفتم الأمثلة. ﴿الْبَصِيرُ﴾ لها معنيان؛ المعنى الأول: إدراك الشيء بالبصر، والثاني: العلم، فهنا ﴿الْبَصِيرُ﴾ تشمل المعنيين، فبَصَرُ الله تعالى محيط بكل شيء لا يخفى عليه، والدليل على أن (بصير) تتضمن البصر قوله في الحديث الصحيح: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»[[أخرجه مسلم (١٧٩) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.]]، يعني: لأحرقت كل شيء؛ لأن بصر الله ينتهي إلى كل شيء، فالمعنى: لأحرقت هذه السُّبُحَات -والسُّبُحَات هي البهاء والعظمة- كلَّ شيء، لا إله إلا الله. بصير بمعنى عليم، مثل قوله تعالى: ﴿بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات ١٨]، ومعلوم أننا نعمل أشياء لا تُرَى، في قلوبنا أشياء لا تُرَى والله يعلمها، فإذن البصير من أسماء الله عز وجل أي: ذو البصر، وله معنيان: بصير بمعنى إدراك المرئيات ببصره، والثاني: بمعنى العليم. إخوتنا إذا سمعتم أسماء الله وصفاته فليس المقصود أن نعلم المعنى فقط، بل أن نتعبَّد لله بها، فإذا عَلِمْنَا أنه سميع أوجب لنا أن نخاف من قولٍ يُغْضِب الله؛ لأن الله يسمع، إذا علمنا أنه بصير أوجب لنا أن نَحْذَر من كل فعل يُغْضِب الله؛ لأن الله تعالى يبصره ويراه، ففي هذه الأسماء التي يخبرنا الله بها تربية للإنسان أن يَحْذَر الله عز وجل من أن يخالفه بقول أو فعل. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، ولعلنا أشبعنا إن شاء الله الكلام في هذا، وأهم شيء أن تبني عقيدتك على أمرين: إثبات ما أثبته الله لنفسه في القرآن أو السنة، والثاني: نَفْي المماثلة؛ أنه لا مثيل له. بقي شيء آخر، هل علينا أن نُكَيِّف الصفة بدون أن نذكر مماثلًا؟ الجواب: لا، لا يجوز أن نُكَيِّف الصفة، لماذا؟ لأن الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء ٣٦]، وقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف ٣٣]، هل أنت علمت كيفية الله عز وجل، كيفية صفاته، لا، أنا أؤمن بأنه ينزل لكن لا أدري كيف ينزل، أؤمن بأنه استوى على العرش، ولكن لا أدري كيف استوى، فالكيفية لا يجوز للإنسان أن يتخيلها، ولا يجوز أن ينطق بها؛ لأن الله أعظم من كل تخيُّل تتخيله، ولأنك لو تخيَّلت فإنك سوف تعبد صنمًا؛ لأن هذا الْمُتَخَيَّل لا بد أن يكون عندك تصور أنك تعبد هذا الذي تخيلته، فتكون من جنس الْمُمَثِّلِين، وفي مقدمة النونية لابن القيم قال: الْمُعَطِّل يعبد عَدَمًا، والْمُمَثِّل يعبد صنمًا، إذن لا تتخيل الكيفية، ولهذا جاء في الأَثَر: «تَفَكَّرُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ»[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٦١٨) من قول ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: تفكَّروا في كلِّ شيء، ولا تفكَّروا في ذات الله.]]، الآيات تفكَّر فيها، السماء، الأرض، النجوم، البشر، المخلوقات الأخرى تفكر فيها بقدر ما تستطيع لتستدل بها على الخالق عز وجل، لكن في ذات الله لا، لا تتفكر. هل لنا أن نتفكر في معاني أسماء الله وصفاته؟ نعم، بل يجب أن نتفكر في المعنى، والمعنى غير الكيفية، سُئِلَ الإمام مالك رحمه الله قيل له: يا أبا عبد الله –وهو يدرس في الحلقة- ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه ٥]، كيف استوى؟ أتدرون ماذا حصل للإمام مالك؟ قام يتصبَّبُ عرقًا، وأطرق رأسه حياءً وخجلًا، ومَن كان بالله أعرف كان منه أَخْوَف، نحن تمر علينا هذه الكلمة مَرَّ الرياح لا تؤثر في القلوب شيئًا، لكن أهل المعرفة بالله الذين هم أهله لا بد أن يتأثَّرُوا، أطرق برأسه وقام يتصبَّبُ عرقًا، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا، الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أُرَاكَ -يعني ما أظنك- إلا مبتدعا. ثم أمر به فأُخْرِج لا مقام له عندي، هؤلاء هم الرجال. فالمعاني معلومة، ولا يمكن أن يخاطبنا الله عز وجل بما لا نعلم أبدًا، لكن الكيفيات مجهولة. فإن قال قائل: كيف أتصور المعنى ولا أتصور الكيفية؟ قلنا: هذا سهل، الآن لو أقول لك: فلان صعد على السطح، تعرف معنى صعد؟ نعم، لكن هل تعرف كيف صعد؟ مع أنه مثلك، ما تعرف كيف صعد، يمكن صعد على يديه ورجليه، يمكن صعد بعربية، يمكن صعد محمولًا، يمكن صعد يمشي على يديه، ما فيه ناس يمشون على أيديهم الآن؟ شاهدنا مَن يمشي على يديه يا جماعة من هذا الطرف للطرف الثاني، ويمكن يمشي على رأسه؟ هذه ما أظن؛ لأنه ما يمكن أن ينقز على الرأس. لكن على كل حال نحن الآن إذا قِيلَ: فلان صعد على السطح، أنا أعرف معنى الصعود، لكن كيف صعد؟ ما تدري، فإذن عَقْلُ المعنى دون الكيفية أمر واقع، فنحن نؤمن بأن الله عز وجل استوى على العرش، لكن لا نُكَيِّف ذلك، ولا ندري كيفيته، وما لا ندري كيفيته لا يجوز أن نتكلم فيه، كما قال عز وجل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء ٣٦]. أرجو الله تعالى أن ينفع بهذا الكلام؛ لأنه كلام مهم جدًّا، كلام في العقيدة، ولا يمكن أن يستريح الإنسان راحة نفسية، ولا أن يتخلى عن الشُّبُهَات إلا إذا لزم مذهب أهل السنة والجماعة، نُثْبِت لله ما أثبته لنفسه، وننفي ما نفاه عن نفسه، وإثباتنا إثبات تنزيه لا إثبات تمثيل، ونَفْيُنا نفي أيضًا تنزيه لا نفي تعطيل، والله الموفق. * طالب: أحسن الله إليك، ما الفرق بين قول عبارة عن كلام الله وحكاية، ما هو الفرق؟ * الشيخ: الفرق العبارة أنه لا علاقة بين ما في نفسه وما خَلَقَهُ، قد يكون في نفسه شيء الآن ويخلقه بعد ساعة أو ساعتين، فهمت؟ الحكاية كحكاية الصدى، الصدى الآن إذا كنت بين جبال وتكلَّمْتَ تسمع يرد عليك، هذا يُسَمَّى حكاية، وهذا يلزم منه أن يكون ما يُسْمَع في الحال، واضح؟ إي نعم. هذه العبارة للموفق رحمه الله في عقيدته هي التي جاء بها الإمام أحمد، نفس الإمام أحمد فَسَّر، قال: نؤمن بذلك لا كيف ولا معنى، ومراده (لا معنى) ما ذهب إليه أهل التحريف الذين يجعلون لآيات الصفات معنى يُعَيِّنُونَه هم؛ لأنه قال: (لا كيف) رَدًّا على الْمُمَثِّلَة، (ولا معنى) رَدًّا على الْمُعَطِّلَة، فالمراد بالمعنى الذي نفاه الإمام أحمد وتبعه ابن قدامة -رحمه الله- المراد به المعنى الذي ابتكره هؤلاء الْمُعَطِّلَة. * طالب: ظاهر آيات الصفات التمثيل إلا أن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يمنع ذلك؟ * الشيخ: قل: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران ٨]، بس يكفي، القلب إذا زاغ -والعياذ بالله- انقلب الحق عنده باطلًا، وانقلب الباطل حقًّا، وإلا كيف نقول: يقتضي التمثيل؟! أنت لو أخبرتني أنك رأيت الفيل، هل أتصور أن الفيل مثل الإنسان؟ ما أتصور هذا، إن كنتُ قد رأيت الفيل عرفت الفرق، وإن لم أكن رأيته فأنا أعلم أن بينهما فرقًا؛ لأنه لو لم يكن فرق لكان الفيل آدميًّا، ولا تستغرب، الإنسان -والعياذ بالله- إذا طمس الله على قلبه رأى الباطل حقًّا والحق باطلًا، الآن أعظم كلام كلام الرب عز وجل، وقد قال الله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [القلم ١٥]، سواليف لا يتصور لها معنى يوجب الإيمان، قال الله عز وجل: ﴿كَلَّا﴾، يعني: ليست أساطير الأولين، ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين ١٤]. * طالب: الْمُفَوِّضَة والواقفة الفرق بينهما؟ * الشيخ: الواقفة في الكلام فقط، يَقِفُون يقولون: لا نقول: كلام الله حق ولا عبارة، وأما الْمُفَوِّضَة يُفَوِّضون كل الصفات، كل الصفات مُفَوِّضَة فيها. * طالب: ثَمَّ مَن يقول: إن أهل السنة قسمان: مُفَوِّضَة ومُؤَوِّلة؟ * الشيخ: هذا كَذِب، مَن قال: إن أهل السنة أهل تفويض على وجه الإطلاق فهو كاذب، بل أهل السنة مُفَوِّضَة للكيفية غير مُفَوِّضة للمعنى، فهمت؟ وكلام مالك الذي سمعتموه واضح، قال: الاستواء غير مجهول، معلوم، الكيف غير معقول، هنا نُفَوِّض. * طالب: متى خرجت، والرد على مَن يقولون: إن الإمام مالك كان يُفَوِّض، وبعض الصحابة: أَمِرُّوهَا كما جاءت؟ * الشيخ: الظاهر أن الْمُفَوِّضَة أنهم خرجوا بعدما خرجت بدعة التعطيل، عَجَزُوا أن يقابلوا أهل التعطيل فقالوا: إذن نُفَوِّض؛ لأن أهل التعطيل -تعرف الجهمية صار لهم شأن كبير- فضغطوا على علماء السنة وعجزوا عن مقاومتهم، فقالوا: إذن لا نقول بهذا ولا بهذا، نُفَوِّض الأمر، وأما مَن زعم أن الإمام مالكًا رحمه الله مُفَوِّض فقد كذب، هذا كلامه، قال: الاستواء غير مجهول، يعني هو معلوم، ولا يجهله أحد، وأما: أَمِرُّوهَا كما جاءت، فنعم، والله قالوا هكذا، أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف، هذا حق، إذا أَمْرَرْناها كما جاءت فهل نثبت اللفظ فقط دون المعنى؟ الجواب: لا؛ لأنها ألفاظ جاءت لمعانٍ، لم يُنْزِلها الله عز وجل ألفاظًا جوفاء لا معنى لها، أو لها مئة معنى ولا ندري ما المراد، أبدًا. فنقول: أَمْرَرْناها كما جاءت، أي: ألفاظًا لمعانٍ، ثم قوله: بلا كيف، يدل على إثبات المعنى؛ لأنه لولا ثبوت المعنى ما صح أن يقولوا: بلا كَيْف؛ إذ نَفْي الكيف عما ليس بموجود لَغْوٌ من القول يُنَزَّه عنه كلام السلف، فمن استدل بقول السلف هذا قلنا: هذا دليل عليك وليس لك. وأنا أعطيكم فائدة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: كل إنسان يستدل بدليل صحيح ثبوتًا فإنه سيكون دليلًا عليه، سبحان الله! كل إنسان يستدل بدليل صحيح ثبوتًا على باطل فسيكون دليلًا عليه، هذه قاعدة، وشيخ الإسلام التزم بها، قال: أنا ألتزم أن كل إنسان يأتي بدليل صحيح ثبوتها -يعني ثابتًا ثبوتًا لا شك فيه- على باطل ألتزم أن أجعله دليلًا عليه، ليش؟ لأن استدلال أهل الباطل بالدليل الصحيح معناه يُشَمُّ منه رائحة المعنى، هل يمكن أن يكون المعنى الذي يُشَمُّ من هذا الاستدلال أن يكون باطلًا؟ لا يمكن. ولذلك تأمل إذا فتح الله عليك جميع الأقوال الباطلة التي يستدل قائلوها بدليل صحيح من الكتاب والسنة فسترى أن ما استدلوا به دليل عليهم، هذه الجملة التي ذَكَرْتُ: أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف، الآن فهمنا أنها ترد عليهم من وجهين؛ الوجه الأول: أننا إذا أَمْرَرْنَاها كما جاءت لزم من ذلك إثبات المعنى؛ لأننا نعلم أن الله لن يخاطبنا بشيء لا نعرف معناه أبدًا، ما يكن هذا، لا سيما في أسماء الله وصفاته التي هي العقيدة، الثاني: قولهم: بلا كيف، ويش يدل عليه؟ على أن المعنى موجود، ولولا ثبوت أصل المعنى ما صح أن يقولوا: بلا كيف. * طالب: (...) العقل على قدرة الله عز وجل؟ * الشيخ: لا، هذه شواهد، يعني العقل قد يكون عنده شواهد كثيرة على القدرة، لكن أصل القدرة توقيفية. * طالب: (...) في قوله: ﴿كَمِثْلِهِ﴾ أن (مثل) هنا بمعنى نفس (...). * الشيخ: ذكرنا هذا، وقلنا: لا حاجة له، بعضهم قال: (مِثْل) بمعنى (ذات)، لكن ما لها حاجة، أحسن ما قيل التخريج الأول الذي ذكرناه والأخير. * طالب: هل يمكن أن يقال: إن التفويض هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادَر منه؟ * الشيخ: لا، الْمُفَوِّض لا يُدْرِج معنى أصلًا، الْمُفَوِّض لا يُثْبِت معنى، يعني هؤلاء الْمُفَوِّضَة نقرأ عليهم قول الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر ٢٢] إلى آخر السورة سبعة عشرة اسمًا، ويش معناها؟ قال: والله ما ندري، ما نُثْبِت، تثبت أن له رحمة؟ قال: ما أدري، تثبت أنه مَلِك له الملك؟ قال: ما أدري، أنا عَلَيَّ أن أقرأ القرآن وبس، وفكَّنِي من شَرِّك، عرفت؟ هل يُعْقَل أن يكون هذا مذهبًا لأهل السنة؟ هذا مذهب للجُهَّال، وعلماء السنة -والحمد لله- فيهم العلماء الفحول الذين جَمَعُوا بين العلم بالمعقول والمنقول. ثم يا سبحان الله! هل يمكن أن نقول: إن أبا بكر وعمر وعثمانًا وعليًّا ابن مسعود وابن عباس وغيرهم يقرؤون القرآن وهم لا يعرفون معناه في أسماء الله وصفاته؟! إن كنا نعتقد هذا فهو أكبر قَدْح في الصحابة، بل إنهم يقولون: إن الرسول ﷺ يُحَدِّث بالحديث ولا يدري أيش معناه، قالوا: إنه قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١١٤٥)، ومسلم (٧٥٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، أيش معناه يا رسول الله؟ قال: والله ما أدري، هل يُعْقَل هذا؟ لكن عند المضايقات في المناظرة تجد الإنسان يرتقي مرتقى صعبًا هو نفسه يعرف أنه غير صواب لو تأمل. * طالب: (...). * الشيخ: أيش؟ * الطالب: (...). * الشيخ: يقول؟ * الطالب: فيه رد على الْمُعَطِّلة؟ * الشيخ: فيه رد على الْمُعَطِّلة. * الطالب: (...). * الشيخ: إي صحيح؛ لأن الْمُعَطِّلَة يشبهونه بالعدم، لكن ما دام عندنا: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ واضح، ليش نروح نجيب معنى بعيدًا، فـ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ رد على الْمُمَثِّلَة، واضح ولا يحتاج تعبًا في الفهم، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ رد على الْمُعَطِّلَة أيضًا واضح. * طالب: (...). * الشيخ: الرد عليهم سهل يا أخي، نقول: هل أثبت الله لنفسه يدًا أو لا؟ فسيقولون: نعم، ليش ما تثبتها أنت؟ قال: أخشى أن تكون مماثلة ليد الإنسان، نقول: لا تخشَ هذا، كيف تخشى هذا والله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ثم نقول له: ألست تُثْبِت لشاتك يدًا؟ يقول: نعم ولَّا لا؟ يقول: نعم، هل يد شاتك مثل يدك؟ خلاص، إذا انتفت المشابهة بين المخلوقات فيما تتفق فيه بالأسماء فانتفاء المشابهة في حق الخالق من باب أَوْلَى، بل انتفاء المشابهة في حق الله واجب، وفي حق المخلوق غير واجب، أفهمت؟ الآن القط، أتعرف القط؟ ما هو؟ * طالب: (...). * الشيخ: عندنا الآن اثنان، واحد يقول: البَسّ، والصواب طبعًا البَسّ بالفتح، إذا قلت: البِسّ، فأنت لاحن، الصواب: البَسّ. * طالب: تغيير معنى (...). * الشيخ: لا، ما هي تغيير المعنى، المهم أنت قلت: البَسّ، والأخ قال: الْهِرّ، وثالث يقول: القط والسِّنَّوْر، ما هنا أكثر من أسماء الهر والأسد، وسبحان الله أيدي الْهِرّ وأيدي الأسد متشابهة تمامًا. * طالب: الْمُفَوِّضَة يستدلون على مذهبهم ويُلَبِّسُون على العامة، ويقولون: إن أشد الناس تمسكًا بالسنة وهو الإمام أحمد لجأ إلى التفويض في ثلاث مواضع، وهو «الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ»[[أخرجه عبد الرزاق (٨٩١٩) من قول ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: الركنُ -يعني الحجر- يمينُ الله في الأرض يصافحُ بها خلقَهُ مصافحةَ الرجلِ أخاه....]]، و«إِنِّي لَأَجِدُ نفَسَ الله مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ»[[أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (١٠٨٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «وأجد نفَسَ الرحمنِ من قِبَل اليمن...» وأخرجه أحمد (١٠٩٧٨) عنه أيضا بلفظ «وأجد نفَسَ ربِّكم من قبَلِ اليمن...».]]، و«الْقَلْبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ»[[أخرجه الترمذي (٢١٤٠) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: «إنَّ القلوبَ بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء».]]، فقالوا: إنه فَوَّضَ، هل هذا الكلام صحيح؟ * الشيخ: ما هو صحيح أبدًا، والحجر الأسود يمين الله في الأرض ما صح عن الرسول أبدًا، ما صح، كما قَرَّرْنَاه في كتاب القواعد الْمُثْلَى، كل الأمثلة التي ذكرتها هذه موجودة في القواعد الْمُثْلَى، وموجود الرد عليها. * طالب: (...). * الشيخ: الطريقة الْمُثْلَى، أما إذا كان لهم سلطة، بمعنى أنك لو جادلتهم علنًا لكان عليك خطر، فَدَعْ هذه المجادلة، لكن لك أن تتكلم في المجالس الخاصة، أو في المجالس التي لا يوجدون فيها، وتعرض المذهب وتُبَيِّن بطلانه، لو لم يكن من هذا العرض إلا تشكيك العامة في هؤلاء لكان كافيًا، وزحزحة العقيدة والتشكيك فيها مهم جدًّا، أفهمت؟ فأنت -مثلًا- إذا رأيت أناسًا على باطل وبَيَّنْتَ الحق، لو لم يكن من الفائدة إلا أن يَشُكُّوا في الأمر حتى عند زعمائهم يشكون في قولهم، ما دمت أنت أتيت بالحق وبَيَّنْتَ، ولهذا سمعت عن بعض دعاة النصرانية -قاتلهم الله ولعنهم إلى يوم القيامة- سمعت أنه يقول لقومه: يا قومنا إنكم لن تنقلوا المسلم إلى النصرانية، هذا مستحيل؛ لأن ديننا النصرانية الموجود الآن كل يعرف أنه خرافة، وليس على شيء، لكن يكفيكم أن تُشَكِّكُوا المسلم في دينه. شوف الخبثاء، يكفيكم أن تُشَكِّكُوا المسلم في دينه، خَلُّوه يشك بس، وإذا شك كَفَرَ ولَّا ما يكفر؟ نعم، إذا شك الإنسان فيما يجب الإيمان به فهو كافر، ما يجب الإيمان به يجب الجزم به، فانظر كيف أساليبهم، ونحن -والحمد لله- عندنا من الأساليب أقوى منهم، لكن بس عندنا أن الإنسان إذا رأى هذا العالَم يمكن يخاف، وشجاعة خالد بن الوليد وحمزة بن عبد المطلب غير موجودة الظاهر إلا في قليل من الناس. عاد هذا بدأ قبل أن نعلم، مَن أدرك ركعة من الصلاة. * طالب: شيخ الله يعفو عنك، الأشاعرة خطباؤهم يحببونهم في المذهب بحيث تكون علماؤهم مثل ابن حجر والنووي والعز بن عبد السلام وكذا. * الشيخ: سهلة هذه، إذا قالوا: ابن حجر والنووي، أما ابن حجر -رحمه الله- فأنا رأيي فيه أنه ليس على طريق الأشعري، الرجل متذبذب، أحيانًا يتكلم بكلام هو كلام أهل السنة مئة بالمئة، وأحيانًا ينقل كلام الأشاعرة، هو أحيانًا ينقل عن شيخ الإسلام مُقَرِّرًا قوله، النووي صحيح -رحمه الله- على مذهب الأشاعرة في جميع ما قرأت له من كتبه، لكن إذا قابلونا بفلان وفلان نقول: هل أنتم تعرفون الحق بالرجال ولَّا الرجال بالحق؟ إن قالوا: نعرف الحق بالرجال قلنا: عندنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والإمام أحمد، وغيرهم من العلماء الفحول، فهؤلاء مقابل هؤلاء، ثم لدينا شيء فوق الجميع؛ الصحابة رضي الله عنهم، ائتوا لنا بدليل واحد يؤيِّد مذهب الأشاعرة، يقول: ﴿اسْتَوَى﴾ بمعنى استولى، ما منهم أحد قال: استوى بمعنى استولى، كلهم يقولون: استوى بمعنى عَلَا، من أين علمنا هذا؟ علمنا هذا بأنهم يقرؤون القرآن ويعرفون معناه، ولم يأتِ عن أحد منهم قول بصرف اللفظ عن ظاهره، أفهمت؟ الحمد لله، الحق واضح. فلو قال لنا قائل: إن الصحابة أجمعوا أن معنى قوله تعالى: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ يعني: عَلَا عليه، أجمعوا، هل يمكن لأحد أن ينازع يقول: ما أجمعوا؟ ما يمكن؛ لأنا نعلم أن الصحابة يقرؤون القرآن ويُنَزِّلُون معناه على اللغة العربية، واللغة العربية في جميع مواردها أنه إذا تعدَّت استوى بـ(على) فالمراد العلو. قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى ١١] إلى آخره. * من فوائد هذه الآية: أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض ابتداءً على غير مثال سبق. * ومن فوائدها: تمام قدرة الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه السماوات العظيمة لا يقدر عليها أحد إلا الله، ثم إنه خلقها في ستة أيام، جاءت مُفَصَّلَةً في سورة فصلت. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن السماوات جمع، كم هي؟ سبع، والأرض سبع، لكن من غير هذه الآية. * ومن فوائدها: حكمة الله عز وجل ورحمته، حيث جعل لنا من أنفسنا أزواجًا، فإن هذا حكمة حيث كانت من أنفسنا، ورحمة حيث جعل لنا أزواجًا نتمتع بهن من جهة، وننمو ونزداد من جهة أخرى. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: رحمة الله تعالى بنا، حيث جعل لنا من الأنعام أزواجًا؛ لأن هذا لا شك من مصلحتنا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى ينشر ويبث ويُكَثِّر بني آدم وما خلق لهم من أنعام بسبب التزاوج؛ لقوله: ﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾ [الشورى ١١]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الرد على المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر، حيث قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فهو سبحانه وتعالى لا مثل له، لا في الخلق، ولا في الصفات، ولا غيرها. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على أهل التمثيل في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. * ومن فوائدها: إثبات اسمين من أسماء الله هما السميع والبصير. * ومن فوائد الآية: إثبات السمع والبصر وصفًا لله عز وجل؛ لأن السميع من السمع، والبصير من البصر. وهنا قاعدة نشير إليها: كل اسم من أسماء الله فإنه مُتَضَمِّن لشيئين: الأول: إثبات كونه اسمًا من أسماء الله، والثاني: إثبات الصفة التي دَلَّ عليها، فمن قال: إن الله سميع ولكن بلا سمع، فإنه لم يؤمن بالاسم؛ لأنه لا بد أن تؤمن بما دَلَّ عليه من صفة، وإلا لم تؤمن به، أيضًا إثبات أن هذه الصفة متعدية للغير إذا كانت متعدية؛ فمثلًا السميع نؤمن بأن الله من أسمائه السميع، ومن صفاته السمع، ونؤمن بأمر زائد، وهو أنه يسمع كل شيء، ولهذا قال أهل العلم: الاسم إذا كان لازمًا لم يتم الإيمان به إلا بشيئين: الأول: إثبات كونه اسمًا من أسماء الله، والثاني: إثبات الصفة التي دَلَّ عليها، وإذا كان متعديًا فلا بد في الإيمان به من أمور ثلاثة: الأول: إثبات كونه اسمًا لله، والثاني: إثبات الصفة التي دَلَّ عليها، والثالث: إثبات تعدي هذه الصفة إلى ما تتعلق به، بمعنى أن السمع يتعلق بكل مسموع، والبصر بكل مُبْصَر. فيه أيضًا يقولون: الأسماء تتضمن الدلالات الثلاث: دلالة المطابقة، ودلالة التضمُّن، ودلالة الالتزام، وإن شئت فقل: دلالة اللزوم؛ فدلالة الاسم على الذات وحدها دلالة تَضَمُّن، وعلى الصفة وحدها دلالة تَضَمُّن، وعليهما جميعًا دلالة مطابقة، ودلالة ذلك الاسم على معنى لازم له دلالة التزام، هذه من القواعد المهمة، الدلالات كم؟ * طالب: ثلاثة. * الشيخ: ثلاثة؛ مطابقة وتَضَمُّن والتزام، فدلالة الاسم على الذات وحدها؟ * طالب: تَضَمُّن. * الشيخ: وعلى الصفة وحدها؟ * الطالب: تَضَمُّن. * الشيخ: وعليهما؟ * طلبة: مطابَقة. * الشيخ: مطابقة، وعلى أمر لازم؟ التزام. نضرب لهذا مثلًا: الخالق، من أسماء الله تعالى الخالق، فدلالته على الذات وحدها تَضَمُّن، وعلى صفة الخلق وحدها تَضَمُّن أيضًا، وعليهما جميعًا مطابقة. إذن فهمنا أن دلالة اللفظ على جميع معناه دلالة مطابقة، وعلى بعضه تَضَمُّن، على اللازم الخارج الذي يلزم منه دلالة التزام، -مثلًا- المثال اللي معنا الآن لا يزال باقيًا، الخالق يدل على صفة الخلق، وعلى الخالق نفسه، ويدل أيضًا على شيء لازم، من لازم الخلق القدرة، من لازم الخلق العلم؛ إذ مَن ليس بقادر لا يمكن أن يخلق، ومَن ليس بعالم لا يمكن أن يخلق، فتكون دلالة الخالق على العلم والقدرة دلالة التزام. * من فوائد هذه الآية الكريمة: الرد على أهل التعطيل في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. نحن ذكرنا السميع، من فوائد الآية الكريمة إثبات السميع اسمًا لله، والبصير اسمًا لله، وإثبات البصر صفة لله، وإثبات السمع صفة لله. فإن قال قائل: أيهما أوسع الصفة أو الاسم؟ فالجواب: الصفة أوسع؛ لأن الله يوصَف بما لا يُسَمَّى به، ولكن كل ما سُمِّيَ به فهو مُتَضَمِّن للصفة، أفهمتم؟ افهموا القاعدة بعدين ييجي المثال، أيهما أوسع الصفات أو الأسماء؟ الصفات، وجه ذلك أن كل اسم مُتَضَمِّن لصفة، وبهذا يكون الاسم والصفة متوازِيَيْنِ، هناك صفات لا يمكن أن يُسَمَّى الله بها، فالصفة أوسع، ألسنا نقول: عَبَّرَ الله بكذا وكذا؟ * طالب: بلى. * الشيخ: ألسنا نقول: تَحَدَّث الله عن كذا، ومع ذلك لا نُسَمِّي الله تعالى متحدثًا، ولا نسميه مُعَبِّرًا؛ ليش؟ لأن الوصف أوسع من الاسم، وهذه فائدة أيضًا مهمة عكس ما يقولون: إن الأسماء لا تتضمن الصفات.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب