الباحث القرآني
ثم قال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾ [غافر ٨٢] إلى آخره.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هذا الاستفهام يحتمل أن يكون للحثِّ، وعليه فيكون بمعنى الأمر؛ أي: سيروا في الأرض. ويؤيِّد هذا قول الله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام ١١]، ويحتمل أن يكون للتوبيخ؛ أي: توبيخ هؤلاء على عدم السير في الأرض.
والسير هنا يشمل السير بالقَدَم والسير بالقلب؛ أمَّا السير بالقلب فمرجعه إلى الأخبار الصادقة؛ بحيث يقرأ الإنسان عن الأُمَم السابقة، ولا شيء أصحُّ من كتاب الله عز وجل في الحديث عن الأُمَم السابقة؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩] فلا شيء أصحُّ في الأخبار مما جاء به الكتاب العزيز وصحَّت به السُّنة، هذا نقول: سيرٌ بالقلب.
السير بالقَدَم أن يمشي الإنسان لينظر ما صنع الله تعالى بالمكذِّبين؛ مثال ذلك أن يسير الإنسان إلى ديار ثمود لينظر ماذا صنع الله بهم، ولكن -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- لا يجوز أن يدخلها إلَّا وهو باكٍ خوفَ أن يُصيبه ما أصاب هؤلاء المكذبين[[أخرج البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحِجْر: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين إلا أن تكونوا باكينَ، فإنْ لم تكونوا باكينَ فلا تدخلوا عليهم؛ أنْ يُصيبَكم مثلُ ما أصابهم».]]، وأمَّا مَن ذهب إليها للتنَزُّه والفُرجة فإنَّ ذلك لا يجوز كما يصنع كثيرٌ من الناس اليوم؛ يذهبون إليها لا على سبيل العِظة والاعتبار، ولا أن يدخلوها وهُم باكون، بل على سبيل الاطِّلاع فقط على آثار السابقين وعلى سبيل النُّزهة، وهذا حرامٌ ولا يحلُّ.
وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ إعراب الجملتين أن نقول: إنَّ (لم) حرف نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ؛ حرف نفيٍ لأنها تنفي، جَزْم لأنها تجزم، قلب لأنها تحوِّل المضارع إلى الماضي.
والفاء في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ عاطفةٌ لا شك، لكن هل هي عاطفةٌ على مقدَّرٍ محذوفٍ أو عاطفةٌ على ما قبلها من الجُمَل، في ذلك قولان:
القول الأول: أنها عاطفةٌ على محذوفٍ مقدَّرٍ بعد الهمزة، ويُقَدَّر بما يناسب المقام، وعلى هذا فترتيبها بعد الهمزة ترتيبٌ طبيعي.
والثاني: أنها عاطفةٌ على الجملة السابقة، وبناءً على ذلك تكون الفاء هنا مزحلقةً عن موضعها؛ إذْ إنَّ موضعها يكون قبل الهمزة.
والقولان معروفان لأهل العلم بالنحو. على التقدير الأول أنها عاطفةٌ على مقدَّر بعد الهمزة يكون المعنى: أَغَفَلوا فلمْ يسيروا في الأرض.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ الفاء عاطفةٌ على أيش؟
* طالب: على ﴿يَسِيرُوا﴾.
* الشيخ: على ﴿يَسِيرُوا﴾، وعلى هذا يكون المعنى: أفلمْ يسيروا فلمْ ينظروا. ويحتمل أن تكون منصوبةً بعد فاء السببية؛ أي: انتفَى سيرُهم فينظروا، كما تقول: لم تَزُرني فأُكرمَك، وما أشبه ذلك من الكلام.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر ٨٢]، ﴿كَيْفَ﴾ هذه اسم استفهام، وهي في محلِّ نصبٍ خبرُ (كان) مقدَّم، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها.
﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فما هي العاقبة؟ العاقبةُ ذكرها الله تعالى في سورة القتال في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد ١٠]، هذا هو فائدة النظر أنَّ هؤلاء القوم المكذِّبين كانوا أشدَّ من هؤلاء قوَّةً ومع ذلك دمَّرهم الله عز وجل.
﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ﴾ أي: في العدد، ﴿وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾ أي: في الكيفية، فصاروا متميِّزين عنهم في العدد والكيفية، (﴿وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ من مصانع وقصور)، ﴿فَمَا﴾..
على التقدير الأول أنها عاطفة على مُقدَّر بعد الهمزة يكون المعنى: أَغَفلوا فلم يسيروا في الأرض؟
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ الفاء عاطفة على ﴿يَسِيرُوا﴾، وعلى هذا يكون المعنى: أفلم يسيروا فلم ينظروا، ويحتمل أن تكون منصوبة بعد فاء السببية، أي: انتفى سيرهم فينظروا، كما تقول: لم تزرني فأكرمك، وما أشبه ذلك من الكلام.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر ٢١] ﴿كَيْفَ﴾ هذه اسم استفهام، وهي في محل نصب خبر ﴿كَانَ﴾ مُقدمًا، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها، ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فما هي العاقبة؟ العاقبة ذكرها الله تعالى في سورة القتال في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد ١٠]، هذا هو فائدة النظر أن هؤلاء القوم المكذبين كانوا أشد من هؤلاء قوة، ومع ذلك دمرهم الله عز وجل، كانوا أكثر منهم؛ أي في العدد، وأشد قوة؛ أي في الكيفية، فصاروا متميزين عنهم في العدد والكيفية ﴿وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر ٢١] من مصانع وقصور.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [غافر ٨٢] ﴿مَا﴾ نافية، و﴿أَغْنَى﴾ فعل ماضٍ، و﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾: ﴿مَا﴾، اسم موصول فاعل، و﴿كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ صلة الموصول، ويحتمل أن تكون ﴿مَا﴾ استفهامية، والمعنى: فما الذي أغنى عنهم ما كسبوا؟ والاستفهامية أبلغ؛ لأنها تتضمن النفي مع التحدي، أي: أي شيء أغنى عنهم كسبهم حين دمرهم الله؟ كذا؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: ماذا قلت في ﴿مَا﴾؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ما قلت: نعم نعم؟! طيب، هذا جارك عن اليمين ماذا تقول؟
* طالب: موصولة..
* الشيخ: لا، ما قلنا هذا، هذا ما قلته.
* طالب: أن تكون ﴿مَا﴾ نافية.
* الشيخ: نعم، أحسنت، بارك الله فيك، إن كانت نافية فالمعنى: ما أغنى عنهم كسبهم شيئًا، وإن كانت استفهامية فالتقدير: ما الذي أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، ونظير ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء ٢٠٥ ٢٠٧] أي: أي شيء أغنى عنهم، أو أن المعنى نفي الإغناء.
* الطالب: من ذهب إلى ديار ثمود للعبرة ولكنه ما استطاع أن يبكي فهل يتباكى؟
* الشيخ: لا أعرف في الحديث: «إِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا»[[أخرجه ابن ماجه (١٣٣٧) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ]] ، قال: «لَا تَدْخُلُوهَا إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠/٣٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين، إلا أن تكونوا باكينَ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ أن يُصيبكم مثلُ ما أصابهم». ]] . ورسول الله ﷺ لما مر بها قنَّع رأسه؛ يعني غطاه وخفضه وأسرع.
* الطالب: إذا نقول: ابكِ أو ارجع؟
* الشيخ: نعم، نقول: إما أن تبكي وإما أن ترجع، فإن لم تبكِ وأنت مررت بالبلد فعجِّل وقنِّع رأسك كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام.
* الطالب: شيخ، بهذا نقول بعدم جواز من يصور هذه الصور، ويريها للناس، ينشرها؟
* الشيخ: إي نعم، الظاهر أنه للمنع أقرب، وذلك لأنه إنما يريهم إياها لبيان قوة القوم لا لبيان أن الله أهلكهم مع قوتهم، هذا هو الظاهر من هؤلاء المصوِّرين.
* الطالب: هل يشمل هذا كل الآثار القديمة أم فقط الذين عُذِّبوا؟
* الشيخ: نحن قرأنا آية تدل على المراد: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾.
* الطالب: قلنا: إذا كان للإنسان بقرة يجوز أن يركبها وفي الحديث: «إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا»[[أخرج البخاري (٢٣٢٤) بسنده عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة...» الحديث. ]] ..؟
* الشيخ: هذا الجمع بينهما أن هذه البقرة كُلِّفت ما لا تطيق، أو كان يشق عليها أن تُركب؛ لأن بعض الحيوانات الذي لم يعتد أن يركب يشق عليه هذا حتى وإن كان يستطيع أن يحمله.
* الطالب: بعض الناس يستخدمون هذه الأنعام في السحر (...) وما أشبه ذلك؟
* الشيخ: ما فيها شك، استعمال هذه الحيوانات فيما هو محرم قصدًا أو ذاتًا هذا لا يجوز، حتى لو ركب هذه الأنعام ليصل إلى بلد يفعل فيه الفواحش أو يلعب فيه القمار فإن هذا حرام.
* الطالب: بعض القوم السابقين دمرهم الله سبحانه وتعالى خارج ديارهم مثل الفراعنة، هل نقول: لا ندخل آثارهم كما نقيس على ديار ثمود؟
* الشيخ: لا، وعلى هذا نقول: لنا أن ندخل المكان الذي أغرق فيه فرعون، ولنا أن ندخل مصر أيضًا؛ لأنه لم يهلك فرعون في مصر.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر ٨٢ - ٨٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ذكرنا في هذا التركيب ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ وما أشبهها إعرابين؟
* الطالب: الإعراب الأول: أن نقول: إن الهمزة هنا همزة استفهام، وبعدها جملة مقدرة، فتكون هنا من باب عطف الجمل على الجمل المقدَّرة، ويكون التقدير على حسب السياق.
* الشيخ: يُقدَّر المحذوف بحسبه.
* الطالب: وهنا تقديره: أَفَغَفلوا فلم يسيروا؟
* الشيخ: الوجه الثاني؟
* الطالب: الوجه الثاني: الفاء مؤخرة عن موضعها، والأصل فألم يسيروا، وتكون عاطفة على ما سبق.
* الشيخ: وتكون الجملة معطوفة على ما سبق.
الثاني أسهل؛ لأن الأول قد يتعذر أو يتعسر تقدير المحذوف، فأما هذه فهي سهلة ليس فيها سوى مجرد زحلقة الفاء عن موضعها.
وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: على الأرض؛ لأن ﴿فِي﴾ للظرفية، ولو جعلنا ﴿فِي﴾ للظرفية في هذا السياق لكان معنى الآية: أن يدخلوا في جوف الأرض، وهذا غير مراد قطعًا، فتكون ﴿فِي﴾ بمعنى (على) كقوله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك ١٦] أي من على السماء، وليس المراد أن الله في جوف السماء؛ لأن ذلك مستحيل، وقد وسع كرسيه السماوات والأرض.
وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يشمل السير بالقدم والسير بالقلب، أما السير بالقدم فمعروف، وأما السير بالقلب فمعناه أن يتفكر الإنسان فيما مضى من تاريخ الأمم، وأصح مرجع نرجع إليه فيما مضى من سِيَر الأمم هو القرآن الكريم.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ هذه معطوفة على (يسيروا)؛ يعني أن الله وبَّخهم على أمرين: عدم السير، وعدم النظر، فهم لم يسيروا ولم ينظروا ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، والنظر هنا هل هو نظر البصيرة أو البصر؟ إن قلنا: إن قوله: ﴿يَسِيرُوا﴾ سير القدم فالنظر نظر البصر، وإن قلنا: يسيروا سير القلب فالنظر نظر البصيرة.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أعربنا ﴿كَيْفَ﴾ على أنها خبر مقدم لـ﴿كَانَ﴾، وهنا يتعين التقديم؛ لأن ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام، والاستفهام له الصدارة، فعليه تكون خبرًا مقدمًا لـ﴿كَانَ﴾، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يعني من الأمم. فما هي العاقبة؟ العاقبة أشار الله إليها في سورة القتال في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾.
ثم شرح الله حال أولئك السابقين فقال: ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر ٨٢] أكثر منهم عددًا، وكثرة العدد تُوجب القوة في الكمية، وأشد منهم قوة هي القوة بالكيفية، ثم قال: ﴿وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني من العمران والقصور وغيرها، ومع ذلك لم تنفعهم هذه الكثرة ولا هذه القوة؛ يقول: (من مصانع وقصور) هذه تفسير لقوله: ﴿وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿مَا أَغْنَى﴾: (ما) يحتمل أن تكون نافية، أي: فلم يُغنِ عنهم ما كسبوا، ويحتمل أن تكون استفهامية، والمعنى: فما الذي أغنى عنهم؟ والاستفهام هنا أشد وقعًا؛ لأنه مُشرَب بالتحدي، أي شيء أغنى عنهم؟ الجواب: لا شيء ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي ما كانوا يكسبون من القوة والآثار في الأرض وغير ذلك؛ لأن الله تعالى دمرهم ودمر قوتهم.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ هذا الذي أتى بعد ذكر تدميرهم هو في الحقيقة عود إلى شرح ما حصل، فإن الله أرسل إليهم الرسل بالبينات الواضحة، وأنزل الكتب، ولكن لما جاءتهم رسلهم بالبينات قال المؤلف: (المعجزات الظاهرات)، والصواب أن يقول: الآيات البينات، هو رحمه الله جعل البينات بمعنى الظاهرات، وهذا حق، وجعل (البينات) صفة لموصوف محذوف تقديره: المعجزات، وهذا فيه نظر، بل يُقدَّر الآيات، وذلك لأن المعجزات لم ترد في الكتاب والسنة محل الآيات أبدًا، وأيضًا المعجزات تكون من الرسل ومن غير الرسل، فالسحرة مثلًا تأتي لهم الشياطين بالمعجزات، لكن الآيات -يعني العلامات الدالة على صدقهم- هذه أبلغ؛ ولهذا إذا وجدتم في الكتب، وما أكثر ما تجدون المعجزات، أو معجزة الأنبياء، أو ما أشبه ذلك فاضربوا عنها صفحًا، وقولوا بدلها الآيات كما قال الله عز وجل الآيات، والآيات -كما قلت لكم- أدق من كلمة المعجزات؛ لأن المعجزات يدخل فيها ما يُعجِز البشر مما تصنعه الشياطين مع السحرة وغيرهم.
(﴿فَرِحُوا﴾ أي الكفار ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ أي: الرسل ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ فرح استهزاء وضحك منكرين له) ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا﴾ الواو فاعل، فمن الفارح؟ يقول: (أي الكفار)، وهذا صحيح، فرح الكفار بما عندهم من العلم، وقوله: ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ الضمير يعود على الرسل على حد تفسير المؤلف، بما عند الرسل من العلم، أي: بما جاؤوا به من البينات؛ لكن هل هذا الفرح فرح استبشار أو فرح استهزاء؟ يقول المؤلف: إنه فرح استهزاء وضحك وسخرية.
ولكن هذا التفسير إذا تأملته وجدته تحريفًا وليس تفسيرًا؛ لما فيه من البُعد المعنوي واللفظي، أما البعد اللفظي فلأن فيه تشتيت الضمائر؛ لأن قوله: ﴿فَرِحُوا﴾ الواو للكفار ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ الهاء للرسل، هذا تشتيت للضمائر؛ والهاء في قوله: ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ إذا جعلنا الكلام نسقًا واحدًا لا شك أنها تعود على الكفار، أي بما عند الكفار من العلم.
وأما المعنوي فلأن الفرح في الأصل استبشار، فإذا صرفناه عن معناه الظاهر إلى أن يكون فرح استهزاء كان هذا إخراجًا للمعنى عما يدل عليه ظاهر اللفظ، والحاصل أن هذا التفسير الذي ذكره المؤلف تفسير ضعيف جدًّا بل هو تحريف؛ والصواب أن المعنى: فرح الكفار بما عندهم -أي بما عند الكفار من العِلم- وقالوا: نحن أعلم بما يصلحنا، وما يصلح دنيانا وديننا الذي نحن عليه، فأنتم أيها الرسل سحرة مجانين كما قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات ٥٢]، وإذا كانوا يعتقدون بقلوبهم أو يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدون من أن الرسل سحرة مجانين فإنهم لا شك سيجعلون ما عندهم من العلم هو العلم الحقيقي فيفرحون به.
وعلى هذا فنقول: الفرح هنا فرح بطر واستبشار فيما يظنون، أنهم على علم أعلى من علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر ٨٣]، ويعجب الإنسان أحيانًا فيما يذهب إليه بعض العلماء من تفسير الآيات أو الأحاديث.
الآن لو قرأت هذه الآية على إنسان عامي: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ فعلى أي شيء يتنزل الضمير في قوله: ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ﴾ عند هذا العامي؟ على الكفار، فرحوا بما عندهم، والإنسان يفرح بما عنده لا بما عند غيره.
﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر ٨٣] ﴿حَاقَ﴾ يقول: (نزل) لكنها أعنى ﴿حَاقَ﴾ ليست كـ(نزل) من كل وجه؛ لأن (نزل) تكون بالخير وبالشر ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء ١٩٣، ١٩٤] هذا خير ولا شر؟ خير، لكن (حاق) لا تأتي إلا بالشر، فلا يقال: حاق به القرآن، أو حاق عليه القرآن كما يقال: نزل عليه، فحاق هنا بمعنى نزل لكنها لا تستعمل إلا في نزول الشر، وهو شر بالنسبة لمن نزل به، وقد يكون خيرًا بالنسبة لغيره.
﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر ٨٣] ﴿مَا﴾: فاعل ﴿حَاقَ﴾، ﴿كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾: يعني فيما سبق؛ أي أنهم لما جاءهم بأس الله عز وجل ونزل بهم ﴿حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فيما سبق، حيث كانوا يستهزئون بالرسل، وبما جاؤوا به وبالشرائع، بل ربما يستهزئون بالله عز وجل، انظر إلى قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة ٦٥] يتبين لك أن الكفار يستهزئون بالله، ويستهزئون بآيات الله، ويستهزئون بالرسل.
(﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي العذاب) يعني حاق بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به حين توعدتهم الرسل به، فجعلوا يستهزئون أيش العذاب اللي تقولون؟ أين هو؟ يستفهمون استهزاء.
﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٤] أي شدة عذابنا، ﴿رَأَوْا﴾: بمعنى بأبصارهم، يعني رأوه رؤيا العين، والبأس: أشد العذاب.
﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ [غافر ٨٤] ﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ أي دون شركائنا، ودون ما كنا نعبده، وهذا غاية الإخلاص، ثم أكدوا هذا بقولهم: ﴿وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ ﴿بِمَا﴾: الباء حرف جر متعلقة بـ﴿كَفَرْنَا﴾، و﴿بِهِ﴾: يحتمل أن تكون للسببية؛ أي بما كنا بسببه مشركين، وأن تكون متعلقة بـ﴿مُشْرِكِينَ﴾ تعلق الجار بعامله؛ المعنى: أنهم لما رأوا عذاب الله آمنوا، ولكن هل ينفعهم هذا الإيمان؟ لا.
إن فرعون لما غرق وأدركه الغرق، ماذا قال؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾.
* الشيخ: صح، قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠] ولكن ماذا قيل له؟ قيل له: ﴿آلْآنَ﴾ يعني أتؤمن الآن ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٩١] فلم ينفعه إيمانه. وقال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ [النساء ١٨]، هذا لا تنفعه التوبة؛ لأنه رأى وشاهد، شاهد ما كان غيبًا يكفر به، والإيمان عن مشاهدة لا يفيد؛ لأن كل إنسان يؤمن بما يُشاهد ولو كان أكفر الناس، وإنما الذي يُحمد عليه الإنسان وينجيه من عذاب الله أن يؤمن بالغيب كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة ٣].
﴿قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ [غافر ٨٤]، قال الله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٥] ﴿لَمْ يَكُ﴾: أصلها (لم يكن)، لكن حُذِفت النون تخفيفًا، وقد جاء الحذف والإبقاء في آيتين من كتاب الله، فقال تعالى في إبراهيم: ﴿وَلَمْ يَكُن مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل ١٢٠] وهي جملة واحدة حُذفت فيها النون وأُبقيت، وهذا الحذف تخفيف، وله شروط معروفة في كتب النحو.
﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٥] (إيمانُ) هل تعربونها على أنها اسم (يكن) مؤخرًا أو على أنها فاعل ينفع واسمها مستتر؟ الثاني، والتقدير على هذا: فلم يك إيمانهم ينفعهم، أما على الأول فيكون: فلم يك ينفعهم إيمانهم فيكون اسمها ضمير الشأن، اسم يكن محذوفًا ضمير الشأن.
وقوله: ﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ ﴿لَمَّا﴾: هنا ظرف بمعنى (حين)، واعلم أن (لَمَّا) تأتي في اللغة العربية على أوجه:
الأول: أن تكون ظرفًا بمعنى (حين) كما في هذه الآية، فإن معنى: ﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ أي حين رأوا بأسنا.
وتأتي جازمة، مثل قوله تعالى: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص ٨].
وتأتي شرطية كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة ٨٩].
وتأتي بمعنى (إلا) كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤] وكذلك قوله: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس ٣٢].
فهذه أربعة معانٍ في (لَمَّا)، المعنى الأول؟ بمعنى (حين) كما في هذه الآية: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٥] أي حين رأوا بأسنا، الثاني: بمعنى إلا مثل؟
* طالب: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾.
* الشيخ: آية أخرى؟
* طالب: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾.
* الشيخ: شرطية مثل؟
* طالب: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [غافر ٨٤].
* الشيخ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾. صح، وكذلك: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾. تأتي جازمة، مثاله؟ ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ وهي للنفي أيضًا، جازمة ونافية؛ لكن الفرق بينها وبين (لم) أن (لَمَّا) تفيد قرب مدخولها ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ ولكن سيذوقونه قريبًا، بخلاف (لم) فتأتي للنفي المطلق.
﴿لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ قال الله تعالى: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ [غافر ٨٥] ﴿سُنَّتَ﴾ يقول المفسر: (نَصْبُه على المصدر بفعل مقدر من لفظه) (سُنَّة) بمعنى طريقة، أي: هذه طريقة الله.
و﴿سُنَّتَ﴾ في مثل هذا التركيب يجوز أن تكون مرفوعة أي سُنَّة الله على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه سُنَّة الله؛ ويجوز أن تكون منصوبة، والمؤلف يقول: (إنها منصوبة بفعل مُقدَّر من لفظه) أي: سَنَّ الله بهم سُنَّته.
﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ ويجوز أن تكون مصدرًا عامله محذوف لكنه مُقدَّر من الجملة التي قبلها؛ لأن هذه العبارة بمعنى ما قبلها تمامًا؛ يعني ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ بمعنى ما قبلها وهي أخذ المكذبين بالعذاب، فتكون منصوبة بمضمون الجملة لا بفعل مُقدَّر، وما ذكره المؤلف رحمه الله وجه لا شك فيه، والمهم أن السُّنَّة بمعنى الطريقة. فما طريقة الله؟ طريقة الله تعالى إهلاك المكذبين وتعذيبهم، وأنهم لو آمنوا بعد نزول العذاب لم ينفعهم.
(﴿الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ [الفتح ٢٣] في الأمم أن لا ينفعهم الإيمان وقت نزول العذاب) هذه واحدة، والثانية أن يُعذِّب المكذبين، فالسُّنَّة التي استفدناها من هذه الآية شيئان؛ أولًا: إهلاك المكذبين، والثاني: أنه لا ينفعهم إيمانهم إذا رأوا العذاب.
قال: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر ٨٥] ﴿خَسِرَ﴾ فسرها المؤلف بمعنى: (تبين خسرانهم لكل أحد وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك) ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ معلوم أن (هنالك) ظرف مكان أو زمان؟ مكان، هذا هو الأصل، فهي اسم إشارة إلى المكان، وقد تُستعار إشارة للزمان، فتقول: هنالك أي في ذلك الوقت، ومنه هذه الآية، الآن إذا قلت: فلان هناك، هذا ظرف مكان، وهذا هو الأصل، ولو قلت مثلًا: قدم فلان هناك، تشير إلى الوقت صارت إشارة للزمان لكن هذا خلاف الأصل.
بقي علينا أن يقال: خسر في ذلك الوقت الكافرون، أليس الكافرون خاسرين في كل وقت؟ بلى، لكن تبين خسرانهم وظهر؛ لأنهم كانوا قبل أن ينزل عليهم العذاب يظنون أنهم رابحون؛ ولهذا فرحوا بما عندهم من العلم، لكن إذا نزل بهم العذاب ظهر لهم الخسران.
* من فوائد هذه الآيات: الحث على النظر في أحوال الأمم السابقة، تؤخذ من: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر ٨٢] وجه الدلالة: أن الله وبَّخَهم على عدم السير.
* ومن فوائدها أيضًا: أن السير في الأرض بالقدم إذا لم يصحبه النظر والاعتبار فإنه لا ينفع؛ لقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ﴿فَيَنْظُرُوا﴾.
* يتفرع على هذا: ما يفعله كثير من الناس اليوم من السير إلى ديار ثمود، حيث يسيرون بأبدانهم لكن لا يسيرون بقلوبهم ولا يعتبرون، بل يذهبون إلى هنالك للاطلاع على مآثر القوم بل على آثار القوم الدالة على قوتهم، وهذا لا يجوز، الواجب على من سار إلى تلك الديار أن يدخلها وهو باكٍ؛ لقول النبي ﷺ: «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا». ولا ينفع التباكي؛ لقوله: «فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا» »[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠/٣٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه: قال رسول الله ﷺ. ]] . ولم يقل: فتباكوا، إذن من لم يُوطِّن نفسه على هذا الوصف الذي رخص فيه النبي ﷺ في الدخول في ديار ثمود فإنه لا يجوز أن يدخل، وغالب الناس الذين يذهبون الآن إنما يذهبون للفرجة والنزهة فقط، وهذا حرام.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من الأمم من هو أشد قوة وآثارًا مما كانت عليه قريش؛ لقوله: ﴿كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ [غافر ٨٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى لا يُعجِزه قوة العدو ولا كثرة العدو، فإن الله تعالى أهلكهم مع كثرتهم وقوتهم.
وهل الله عز وجل إذا أراد إهلاكهم يكون إهلاكهم ممتدًّا لمدة من الزمن حتى يقضي عليهم؟ لا، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر ٣١] ﴿الْمُحْتَظِرِ﴾ يعني الذي أحاط أرضه بحِظار، والحِظَار -كما تعرفون- مركب من أعواد خفيفة أو من سعف النخل، وتأكله الشمس والهواء بسرعة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قوة الإنسان، وكثرة عدده لا تغني عنه شيئًا من عذاب الله؛ لقوله الله تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الحجر ٨٤].
* ومن فوائد هذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بالآيات البينات الدلالة على صدقه.
* ويتفرع على هذا فائدتان أو أكثر، وهما: رحمة الله بالعباد، وحكمة الله تعالى في فعله.
أما رحمة الله بالعباد، فلأن الله تعالى لو أرسل إليهم رسلًا بدون آيات لكان في ذلك تكليف بما لا يُطاق؛ لأن الإنسان لا يُمكن أن يُصدِّق برسول بدون آيات تدل على صدقه، وإلا لأمكن كل كاذب أن يقول: إنه رسول.
وأما الحكمة فظاهر أن الله سبحانه وتعالى لما أرسل الرسل لم يتركهم هملًا بل أعطاهم ما على مِثلِه يؤمن البشر، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَنَّ اللَّهَ مَا بَعَثَ رَسُولًا إِلَّا آتَاهُ مَا يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ». » والذي أُوتيه الرسول عليه الصلاة والسلام هو الوحي القرآن؛ ولهذا قال: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٧٤)، ومسلم (١٥٢/٢٣٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». ]] ؛ لأن القرآن آية باقية إلى يوم القيامة، أو إلى أن يأذن الله تعالى بفساد العالم، أما آيات الرسل فغالبها تنقضي في زمانها، لكن آية الرسول باقية.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن آيات الرسل بينة لا تحتمل الشك؛ لقوله: (بينات).
* ويتفرع على ذلك: أنه ينبغي للعالم الذي ينشر شريعة الله عز وجل إذا نشرها بين الناس أن يكون نشره إياها على وجه بين لا اشتباه فيه، لماذا؟ أولًا: اقتداءً بالرسل. وثانيًا: ليزداد المخاطب طمأنينة؛ لأن الطمأنينة لها أثر في قبول ما يُلقى، وفي القيام به، فإن الإنسان إذا لم يُبيَّن له الحق على وجه تحصل به الطمأنينة تجده يمشي أو يأخذ بالحق وهو متردد، لكن إذا زِيد طمأنينة؛ انتفع بذلك، أليس كذلك يا أخ؟ ماذا قلت؟
* طالب: النبي لا بد أن يكون له أتباع؟
* الشيخ: النبي؟ لا، ما قلت. هل أنا قلت هذا؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: الرسول قال: «وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ».
* الطالب: شيخ، بارك الله فيكم، قلنا: إن الهلاك يكون مرة واحدة، أليس هذا باختلاف الأمم، ففي عاد الله سبحانه وتعالى أرسل عليهم ريحًا صرصرا في أيام نحسات، أم أنهم أرسل عليهم الريح فأهلكتهم، ثم استمرت عليهم؟
* الشيخ: لا، عاد، الله سبحانه وتعالى أمَدَّ لهم في العذاب؛ لأنهم يقولون: مَنْ أشدُّ منا قوة؟ فأرسل الله عليهم الريح التي هي أخف وألطف ما يكون فأهلكتهم.
* الطالب: شيئًا فشيئًا؟
* الشيخ: قال: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة ٧] في هذه المدة، قد يكون بعضهم هلك في أول يوم، بعضهم في ثاني يوم، تبعًا لما يكون من الملاجئ أو غيرها.
* الطالب: هذا مستثنى من العقوبة؟
* الشيخ: لا؛ لأنه أرسل عليهم العقوبة على هذا الشكل.
* الطالب: لكن الفائدة لاحظناها أو لا؟
* الشيخ: لا (...)؛ لأن هذا هو الأصل، ويقال: إن هذه وإن امتدت فهي من حين ابتدأ العذاب هلك من هلك.
* الطالب: ما ورد عن الإمام (...) قال: (...) هل يقال: إنه كان عندهم آلات يصنعون بها هذه الأشياء؟ الآن مع وجود هذه الآلات ما يمكن للإنسان..
* الشيخ: هو يحتمل الآلات، أو يحتمل أنه لكثرتهم كل واحد مسك عملًا ويقوم به، وتعرف أن الإنسان إذا اعتاد على عمل معين ولو كان شاقًّا صار سهلًا عليه.
* الطالب: في آخر السورة قال: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر ٨٥] يجوز تغيير يعني (...)؟
* الشيخ: الفائدة من هذا أن بيان أن كل كافر فهو مُبطِل، ليس معه حق، وكل مبطل لا يقول إلا الباطل فهو كافر، يعني المبطل في كل أحواله هذا كافر؛ يعني ليس معه شيء من الحق، والكافر مُبطِل ليس معه شيء من الحق أيضًا، فاختلاف التعبير لزيادة المعنى.
كما يكون أيضًا في اختلاف القراءات أحيانًا، كقول الله تعالى: ﴿لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور ٢٧]. وفي قراءة أخرى: تستأذنوا. ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات ٦] في قراءة: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾؛ فتكون القراءة هذه مفسرة للقراءة الثانية.
* الطالب: في رسم القرآن ﴿سُنَّتَ اللَّهِ﴾ [غافر ٨٥] ﴿سُنَّتَ﴾ التاء مفتوحة، وفي سورة الدخان تكون بهاء التأنيث، ما السبب في هذا؟
* الشيخ: أفهمتم سؤاله؟ يقول: ﴿سُنَّتَ﴾ التاء فيها مفتوحة، والقاعدة أنها مربوطة؛ لأنها لمفرد، فيقال: إن الرسم العثماني ليس على القواعد المعروفة الآن، بل هو توقيفي، وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يجب أن يُرسم القرآن بالرسم العثماني، أو لا يجب، أو يفصل بين أن يُلقَّن التلاميذ الصغار أو الكبار على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجوز أن يُرسم القرآن إلا بالرسم العثماني على كل حال حتى وإن كنت تعلمه الصبيان، فعلى الرسم العثماني، فتكتب: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء ١٠٣] تكتب (الصلوة) بالواو، حتى وإن كنت تدرس صبيًّا اتباعا للرسم. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة ٤٣] الصلاة بالواو و(الزكوة) بالواو؛ لأن هذا هو الرسم العثماني.
وقال بعضهم: بل لا يجب؛ لأن الرسم العثماني حين رُسِم المصحف صادف أنه على هذا الوجه، ولو كان الرسم العثماني على غير هذه القاعدة لكُتِب بحسب القاعدة التي كانت في ذلك الوقت؛ فالمسألة ليست توقيفية لكن صادف أن الرسم في ذلك الوقت على هذا الوجه، فرُسِم القرآن عليه؛ وذلك لأن القرآن لم ينزل مكتوبًا حتى نقول: لا بد أن يكون كما كتب بل نزل مقروءًا، وقاعدة الرسم تختلف من حيث لآخر، وهذا القول له وجه قوي؛ لأنا نعلم عِلم اليقين أنه لو كانت قاعدة الرسم على غير هذا الوجه في ذلك العهد لكُتِب بمقتضى القاعدة المعروفة في ذلك العهد.
والقول الثالث يقول: إن كان القرآن مكتوبًا للصبيان للتعلم فاكتبه على القاعدة المعروفة بينهم، وإن كان للكبار، يعني يكتب الإنسان مصحفًا فليكتبه على حسب الرسم العثماني، وهذا فيه جمع بين القولين؛ لأنك لو ترسم القرآن للصبي على حسب الرسم العثماني لَحَرَّفَه؛ لأن القواعد التي بين يديه تُخالف الرسم فيُحرِّفه، فيقرأ مثلًا: الزكاة - الزكوة، الصلاة - الصلوة، الربا - الربو، وهُلم جرًّا، واضح.
فأنا أميل إلى أنه لا بأس أن يُكتب بمقتضى القاعدة الحاضرة بالنسبة للمتعلم لا شك في ذلك، بالنسبة لغيره فيه احتمال ولكن القول بالمنع فيه نظر.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت ١ - ٤].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
* من فوائد هذه الآية ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾: بيان حِكمة الله عز وجل ورحمته، وذلك أنه جعل الآيات التي تأتي بها الرسل آيات بينات حتى لا يبقى حجة.
* ومن فوائدها: أن الكفار يفخرون بما عندهم من العِلم، ولو كان باطلًا؛ لقوله: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر ٨٣]، وهذا الذي كان فيما سبق موجود الآن، فإن بعض أولئك القوم الذين آتاهم الله من علم الدنيا ما آتاهم تجدهم يفرحون بها، ويقولون: هي خير من عِلم أولئك المقوقعين على أنفسهم، ويعنون بهم علماء الشريعة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير البالغ من رد ما جاءت به الرسل؛ لقوله: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر ٨٣].
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٤] إلى آخره.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن أولئك القوم المكذبين للرسل إذا رأوا العذاب قالوا: آمنا، والمثال على ذلك فرعون لما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس ٩٠].
* ومن فوائدها: أن هؤلاء الذين يؤمنون بعد أن نزل بهم العذاب لا يستفيدون من إيمانهم شيئًا؛ لقوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن سُنَّة الله عز وجل في العباد واحدة، فإنه لا يُحابي أحدًا لغناه أو لفقره أو لغير ذلك، بل إن أكرم الخلق عند الله أتقاهم؛ لقوله: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير من تكذيب الرسل، وأن من كذَّب الرسل فإنه سينالهم ما نالهم من العذاب، أي: ما نال الأمم السابقة من العذاب.
* ومن فوائدها أيضًا: ظهور الخسران لهؤلاء المكذبين قبل أن يموتوا؛ لقوله: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ﴾ أي: حين جاءهم البأس تبين لهم الخسران ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾.
ثم قال تبارك وتعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إلى آخره، البسملة تقدم الكلام عليها كثيرًا، وبينا أنها آية من كتاب الله، ولكنها ليست آية تابعة للسورة التي بعدها ولا التي قبلها، بل هي آية يُؤتى بها لابتداء السور ما عدا سورة براءة.
أما معناها فإن الإنسان يقول: أبتدئ بكل اسم من أسماء الله، وإنما جعلنا المعنى بكل اسم من أسماء الله؛ لأن (اسم) مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم، كل مفرد مضاف إلى معرفة فإنه يفيد العموم، ألم تروا إلى قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨] ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ لو نظرنا إلى لفظها لقلنا: إنها واحدة لكنها كثيرة لا تُحصى، فيكون هذا المفرد الذي أُضيف يكون للعموم، وهذه هي القاعدة: كل مفرد مضاف لمعرفة فإنه مفيد للعموم؛ ولهذا قلنا: بكل اسم من أسماء الله.
و(الرحمن الرحيم) صفتان للفظ الجلالة، لكن الأولى رُوعِي فيها الوصف، والثانية رُوعِيَ فيها الفعل وهو إيصال الرحمة، أما مُتعلَّق هذا الجار والمجرور فإنه محذوف، ويُقدَّر مؤخرًا مناسبًا للمقام، فإذا كنت تريد أن تقرأ فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قَدِّر أَقْرَأ، وإنما اختير ذلك؛ أي اختير أن يكون فعلًا؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، ولهذا يعمل الفعل بلا شرط، والأسماء التي تعمل عمل الفعل لا بد لها من شروط كما هو معروف في علم النحو، وإنما اخترنا أن يكون متأخرًا لفائدتين:
الفائدة الأولى: تيمنًا بذكر اسم الله.
والفائدة الثانية: إرادة الحصر؛ لأنه إذا تأخر العامل كان ذلك حصرًا، فإذا قلت: زيدًا أَكْرِم، المعنى لا تُكْرِم غيره، لكن لو قلت: أكرم زيدًا، لم يمتنع عن تكريم غيره، إذن أخَّرناه لفائدتين: الفائدة الأولى: تيمنًا بذكر الله عز وجل، والثاني؟
* طالب: الحصر.
* الشيخ: إفادة الحصر. وقدَّرناه مناسبًا؛ لأنه أبين المقصود، فلو قال قائل: باسم الله أبتدئ، قلنا: صحيح، لكن لا تبين المراد مثل ما تبينه: باسم الله أقرأ، وذلك لأن الابتداء يكون للقراءة ولغير القراءة؛ ولهذا اختير أن يكون مناسبًا للمقام، والخلاصة الآن أن متعلق الجار والمجرور هو محذوف، فعل، متأخر مناسب للمقام.
قال الله تعالى: ﴿حم﴾ وقال المفسر: (الله أعلم بمراده به)، وهذا هو الأدب مع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ أن الذي لا تعرف معناه قل: الله أعلم بمراده به؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء ٣٦].
ولكن قد يقول قائل: إننا نعلم أنه لا معنى لهذه الحروف الهجائية التي تُوجد في كثير من السور، نعلم ذلك بدلالة القرآن، فقد قال الله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء ١٩٣ - ١٩٥].
واللسان العربي لا يكون التعبير بمثل هذه الحروف له معنى في حد ذاته، لو قلت: (أ، ب، ج، ح، خ) ما لها معنى، فإذا لم يكن لها معنى بمقتضى اللسان العربي قلنا: إن قوله: ﴿حم﴾ ﴿والم﴾ ﴿والر﴾ وما أشبهها ليس لها معنى في حد ذاتها.
يرد على هذا إذا لم يكن لها معنى صارت لغوًا، وكلام الله تعالى لا لغو فيه، فيقال: إنها ليست لغوًا، وإنما المراد إقامة الْحُجَّة على أولئك المشركين حيث عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ولا بآية واحدة، عجزوا، مع أن هذا القرآن هل أتى بحروف لا يعرفونها حتى يعتذروا ويقولوا: إنه جاء بحروف ليست معروفة لنا؟ الجواب: لا، القرآن جاء بحروف يعرفونها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ولذلك لا تكاد ترى سورة مبدوءة بهذه الحروف إلا وبعدها ذكر القرآن) وابدأ من أول البقرة إلى أن تأتي إلى آخر السور المبدوءة بهذه الحروف، تجد أن بعدها ذِكْر القرآن، إشارة إلى أن هذا القرآن الذي أعجزكم معشر العرب كان من هذه الحروف التي تكونون منها كلامكم، وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله واضح جدًّا، وأما القول بأنه ليس لها معنى فقد قاله مجاهد بن جبر أعلم التابعين بكتاب الله عز وجل.
قال: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت ٢، ٣] قال المؤلف رحمه الله المفسر: (﴿تَنْزِيلٌ﴾ مبتدأ ﴿كِتَابٌ﴾ خبره) ولو قيل بالعكس لكان أوضح، لو قيل: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؛ لأنه يُخبَر بالمعنى عن الذات، ولا يُخبَر بالذات عن المعنى، هذا الأصل، فتقول: زيد قائم، (قائم) خبر، ولا تقول: (زيد) خبر، لكن ما ذهب إليه المؤلف من الإعراب له وجه؛ يعني ليس باطلًا، لكن لو قيل إن: ﴿تَنْزِيلٌ﴾ هو الخبر مقدم و﴿كِتَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر لكان أوضح وأبين.
﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ مَنْ يعني به؟ يعني به الرب عز وجل؛ أي: تنزيل من الله الرحمن الرحيم، لكنه أتى بهذين الاسمين الكريمين إشارةً إلى أن القرآن رحمة؛ لأن إنزاله من مقتضى رحمة الله عز وجل.
أليس من الممكن أن يقال: تنزيل من الله؟ نعم، كما جاء في آية أخرى لكنه قال: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إشارة إلى أن هذا القرآن نَزَلَ بمقتضى رحمة الله عز وجل، وأن الله رَحِمَ به العباد.
و(الرحمن الرحيم) اسمان من أسماء الله، من أشرف أسماء الله عز وجل، ويأتيان مقترنين، ويأتيان منفصلين بعضهما عن بعض، فإن انفصلا فكل واحد متضمن معنى الآخر، فقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه ٥] هذا منفرد عن (الرحيم)، فيتضمن الصفة والفعل، أي أن الله تعالى موصوف بالرحمة الواسعة، وهو سبحانه وتعالى يرحم بهذه الرحمة من شاء من عباده.
وفي قوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ أيضًا نقول: ﴿الرَّحِيمُ﴾ هنا تشمل الوصف والفعل؛ لأنها انفردت عن الرحمن، أما إذا اجتمع (الرحمن) و(الرحيم) كانت (الرحمن) للصفة و(الرحيم) للفعل؛ ولهذا جاءت (الرحمن) على وزن (فَعْلَان)، وهذا الوزن في اللغة العربية يقتضي الامتلاء..
{"ayahs_start":82,"ayahs":["أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤا۟ أَكۡثَرَ مِنۡهُمۡ وَأَشَدَّ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَمَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ","فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرِحُوا۟ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","فَلَمَّا رَأَوۡا۟ بَأۡسَنَا قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِینَ","فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡا۟ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ"],"ayah":"فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡا۟ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق