الباحث القرآني

قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [غافر ٥] هذا كالتعليل لقوله: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾؛ يعني: فلينظر عاقبة من كان قبلهم حين كذَّبوا. وقوله: ﴿قَبْلَهُمْ﴾ الضمير يعود على الذين كذبوا النبي ﷺ. ﴿قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ نوح هو أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض بعد أن اختلفوا، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة ٢١٣]، ونوح بُعِثَ إلى أهل الأرض؛ لأن أهل الأرض كانوا هم قومه، أما حين تعددت الأقوام فقد كان الرسول لا يُبْعَث إلا إلى قومه خاصة كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ[[أخرج البخاري (٤٣٨) ومسلم (٥٢١ / ٣) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: «أُعطِيت خمسًا لم يعطَهُنَّ أحد قبلي، كان كل نبي يُبْعَث إلى قومه خاصة، وبُعِثت إلى كل أحمر وأسود» الحديث.]]. ﴿وَالْأَحْزَابُ﴾ جمع حزب وهي الطائفة، يعني الطوائف. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد قوم نوح، يقول المفسر: (كعاد وثمود وغيرهما) فماذا أغنى عنهم التكذيب، يقول عز وجل: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾. وقوله: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ يعني كل أمة همت برسولهم؛ أي: بالذي أرسل إليهم. ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ هذه متعلقة بـ(هَمَّت) أي: هموا ليقتلوه، واللام هنا بمعنى الباء أي بأن يأخذوه فيقتلوه، ومنهم من قَتَلهم بالفعل، مَنْ قتل النبيين بغير حق. ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ هذه تُفَسِّر معنى الجدال فيما سبق في قوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فجادلوا بالباطل أي: جعلوا الباطل سلاحًا لهم. ﴿لِيُدْحِضُوا﴾ ليزيلوا به الحق، فكانوا يأتون بالباطل يحتجون به على الحق لإدحاضه. واعلم أن الذي يأتون بالباطل ليدحضوا به الحق لا يأتون بالباطل على وجهه بل يزخرفون القول له كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام ١١٢]؛ ولهذا تجد الذين يجادلون بالباطل يأتون بعبارات إذا رآها الإنسان ظنها حقًّا كأنه السراب للظمآن ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور ٣٩]، وكما قال بعضهم: ؎حُجَجٌ تَهَافَتْ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا ∗∗∗ حَقًّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ فهم يأتون بزخرف القول، الزخرف يعني القول المُنَمَّق المحسن المزين لأجل إدحاض الحق. قال الله تعالى: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ الفاء هنا للسببية أي: فبسبب ما قاموا به من المجادلة بالباطل والتكذيب أخذتهم، والضمير الفاعل يعود على الله سبحانه وتعالى، والمفعول يعود على هؤلاء المكذبين. (﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ بالعقاب ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ ) فسر المؤلف الأخذ هنا بالعقاب لقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ أي: معاقبتي لهم، و(كيف) هنا للتعجب وللتقرير وللتعظيم أيضًا، أي: فكان عقابي عظيمًا في كيفيته وفي وقوعه موقعه وفي شدته، فإنه عذاب لم يُبْقِ أحدًا منهم، وعلى هذا فالاستفهام له عدة معان يعينها السياق. وقوله: ﴿عِقَابِ﴾ قد يُشْكِل على الناظر لأول وهلة كيف كان مجرورًا مع أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ؟ فيقال: إنه ليس بمجرور وأن الأصل عقابي فحذفت الياء تخفيفًا والكسرة قبلها دليل عليها. (أي هو واقع موقعه) وهذا بناء على أن الاستفهام للتقرير، وإذا قلنا: للتعظيم يكون المعنى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ أي: فما أعظم عقابي وأشده حيث أزالهم عن آخرهم. * يستفاد من هذه الآية فوائد: * أولًا: أن الله تعالى أعذر إلى الخلق بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ لقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وهذا يدل على أن هناك قولًا قاله الأنبياء فكذبه هؤلاء. * ومن فوائد الآية: أن نوحًا هو أول الرسل؛ لقوله: ﴿وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ فجعل الأحزاب المكذبين كلهم من بعد قوم نوح، وهذا يدل على أن نوحًا هو أول الرسل، وهذا أمر معلوم متقرر في عدة آيات وفي الأحاديث أيضًا، وبه نعلم أن من زعم أن إدريس قبل نوح فإنه خاطئ ولا وجه لقوله. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان ما تنطوي عليه صدور المكذبين للرسل من الهَمِّ بقتلهم، يعني أن المكذبين للرسل لم يقتصروا على أن يُكَذِّبوا فقط، بل هَمُّوا بالقتل. والقتل والاغتيال وما أشبه ذلك هو سلاح العاجز، وكذلك السجن هو سلاح العاجز؛ ولهذا قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء ٢٩]، وقال أبو إبراهيم آزر: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم ٤٦] فالسجن والقتل والاغتيال والسب والشتم كله سلاح العاجز؛ لأن القادر على دفع الحجة هو الذي يدفع الحجة بمثلها بحجة، أما أن يستعمل سلطته فهذا يدل على عجزه. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ لأن الفاء للسببية، وإثبات الأسباب حق وهو مقتضى حكمة الله عز وجل أن كل شيء له سبب، فالإنسان لا يولد له مثلًا إلَّا بسبب؛ إذا تزوج وجامع وأنزل وُلِد له، فالله عز وجل قَرَن المسببات بأسبابها وهو مقتضى الحكمة. والناس في الأسباب ثلاثة أقسام: طرفان ووسط؛ فقِسْم أنكر الأسباب وقال: لا تأثير لها وما يحصل بالسبب فإنه حاصل عنده لا به، والسبب أمارة على حلول وقت الحادث وعلامة فقط على حصول الحادث أو على حلول وقته، فانكسار الزجاجة بالحجر إذا أُرْسِل عليها ليس هي التي كسرته؛ لكن الله قدر انكسارها عند وجود الصدمة فقط وليس للحجر أي تأثير، فالأشياء تحصل عند الأسباب بغير الأسباب، لكن السبب جعله الله أمارة وعلامة على حلول وقت الحادث؛ ولهذا يقولون: لو أن أحدًا أثبت تأثير الأسباب لكان مُشْرِكًا؛ لأنه أثبت مع الله خالقًا فاعلًا. والقسم الثاني الطرف الثاني يقول: بل الأسباب ثابت تأثيرها وهي مؤثرة بنفسها؛ لأنها هي القوة الفاعلة ولا علاقة لله بها، وهذا يشبه مذهب القدرية وهو قول الفلاسفة، يقولون هكذا المسألة طبائع، من طبيعة هذا الشيء أن يحدث به هذا الشيء، وهذا لا شك أنه خطأ وأنه نوع من الشرك. والقسم الثالث: وَسَط يقول: إن للأسباب تأثيرًا ولكن لا بنفسها، بل بما أودع الله فيها من القوة المؤثرة، وهذا الذي دلَّ عليه المنقول والمعقول وهو الحق. والرد على الطبائعيين الذين يقولون: إن الأسباب مؤثرة بطبيعتها أن الله تعالى قال لنار إبراهيم وهي محرقة قال لها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء ٦٩] فكانت بردًا وسلامًا فخرجت عن طبيعتها، إذن ليست الطبائع قوى مؤثرة بنفسها، ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، والأدلة على تأثير الأسباب أكثر من أن تحصى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [الروم ٤٨] ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف ٥٧]، والأعمال الصالحة سبب للفوز والأعمال السيئة سبب للخسران وهكذا، فالأسباب ثابتة شرعًا ولا شك في الأمور الحسية والأمور الشرعية، الآية التي معنا: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ تفيد إثبات الأسباب وتأثيرها ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائد هذه الآية: تحريم المجادلة بالباطل لإدحاض الحق؛ لقوله: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ ويتفرع على هذا أن هذه العادة من عادات المكذبين للرسل، ومن المجادلة بالباطل لإدحاض الحق أن يجادل الإنسان للانتصار لقوله، وهذا يقع كثيرًا في المتفقهة والمتكلمة وغيرهم يجادلون بالباطل من أجل الانتصار للقول؛ كما قال تعالى: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال ٦]، فمن جادل من أجل أن ينصر قوله لا أن ينصر الحق ففيه شبه من المكذبين للرسل الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ثم إن فيه أي في الذي يجادل لنصر قوله فقط فيه أنه قد عرَّض نفسه لأمر عظيم جدًّا وهو قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام ١١٠] فإن الإنسان إذا جادل لنصرة قوله فإنه يكون لم يؤمن به أول مرة، وحينئذ يُبْتَلى بهذه العاهة العظيمة أن الله يقلب فؤاده وبصره حتى لا يبصر الحق ولا يعي الحق ويفهم الحق؛ لأنه لم يؤمن به أول مرة، والواجب على المؤمن قبول الحق من أول مرة لا يتردد في قبوله، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك إذا قال النبي ﷺ هذا حرام امتثلوا، كفوا عنه فعلًا في الحال، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وهذا شيء له شواهد كثيرة وبذلك حَقَّقوا الإيمان عقيدة وقولًا وعملًا. * من فوائد الآية الكريمة: بيان شدة عقاب الله؛ لقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر ٥] أي: ما أعظمه وما أشده، وما أحسنه؛ لأنه وقع موقعه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يُخْشَى من مُعاجَلَة العقوبة؛ لأن العقوبة جاءت بالفاء: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾، ولأن المسبب يكون بعد السبب مباشرة فالإنسان العاصي عليه الخطر من معاجلة الله له بالعقوبة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب