الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [النساء ٦٠] الاستفهام هنا للتعجيب، يعني ألا تتعجب إلى هؤلاء؟ والخطاب في قوله: ﴿تَرَ﴾ يجوز أن يكون موجهًا إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويجوز أن يكون موجهًا لكل مخاطب بهذا الكتاب العزيز، وإذا دار الأمر بين هذا وهذا فالأولى الثاني أو الأول؟ الأولى الثاني؛ أن يكون محمولًا على العموم. وعلى الأول، وهو أن المخاطب بها الرسول ﷺ لا يعني أن الأمة لا تخاطب به؛ لأن ما خوطب به الرسول، فهو خطاب للأمة؛ إما عن طريق الأُسوة وإما لأنه القائد، والخطاب للقائد خطاب له ولمن يتّبعه في قيادته. فهاهنا أمور ثلاثة: أولًا: هل الخطاب عام للرسول وللأمة؟ قلنا: إذا لم يكن مانع فهذا هو الأصل، وهو الأصح. ثانيًا: إذا قلنا: خاص بالرسول هل هو خاص به وغيره من الأمة يكون تبعًا له عن طريق الأسوة، أو أنه وجّه للرسول خطابًا لا حكمًا بمعنى أنه لما كان هو القائد الإمام لهذه الأمة وجّه إليها الخطاب والخطاب الموجه للقائد يكون خطابًا له ولمن وراءه؟ فيه احتمالان، وأيًّا كان فإن الخطاب واضح، نقول: للعموم، يعني: ألم تر أيها المخاطب إلى الذين يزعمون. الآن هذا التقدير كله سوف يهدمه قوله: ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ مما يجعلنا نقول: إن الصحيح أنه خطاب للرسول ﷺ، لكن كلامنا الأول باق على القاعدة أنه إذا لم يوجد مانع فالأصل حمله على العموم، هنا وجد مانع وهو قوله: ﴿إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ ومعلوم أنه لم يُنزل إلى كل واحد منا وحي، فيكون هذا خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، والأمة تبع له، إما عن طريق التأسي، أو لأنه القائد، والخطاب للقائد خطاب لمن تبعه ﴿إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾، ﴿يَزْعُمُونَ﴾ أي يقولون، وهذه المقولة يُنظر هل تكون صحيحة أو لا، ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كاليهود مثلًا يقولون: نحن نؤمن بما أنزل إليك يا محمد، ونؤمن بالتوراة، والنصارى يقولون: نؤمن بما أنزل إليك ونؤمن بالإنجيل والتوراة، ولكنهم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ هذا محل التعجب، يزعمون وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والطاغوت كل ما خالف الشرع، في هذه الآية كل ما خالف الشرع؛ لأن ما خالف الشرع فهو طغيان، فيريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ أي يكفروا بالطاغوت، ومن الآمر لهم؟ الآمر هو الله عز وجل، لكنه أتى بصيغة الاسم المفعول ليكون هذا الأمر وإن كان أصله من الله فهو أيضًا صادر من الرسول ومن كل مؤمن، كلُّ مؤمن يأمر أن يكون التحاكم إلى الله ورسوله وأن يكفر الإنسان بالطاغوت، ﴿وَقَدْ أُمِرُوا﴾ أي من قبل الله ومن قبل أولياء الله ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ أي بالطاغوت. وإنما قلنا: إنه من قبل الله ومن قبل أوليائه؛ لأنه نظير قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٧] يعني: ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ لأن طريقة هؤلاء تغضب الله وتغضب أولياء الله، ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، إذن فهم تابعون للشيطان الذي يملي عليهم التحاكم إلى الطاغوت، فالشيطان يريد أن يضلهم ضلالًا بعيدًا، أي بعيدًا عن الحق؛ لأن التحاكم إلى الطاغوت يوجب للإنسان أن يبتعد عن الحق، وأن يعلق قلبه بهذا الطاغوت. فإذا قال قائل: مثاله؟ نقول: المثال: دعي أحد من الناس إلى القرآن الكريم، ولكن قال: لا، نتحاكم إلى التوراة، نتحاكم إلى الإنجيل، نتحاكم إلى القانون الفلاني، نقول: كيف تزعمون أنكم تؤمنون بالله؟ أو مثلًا يقول: نتحاكم إلى المحاكم التجارية والقوانين التجارية، وهو يدعى إلى التحاكم إلى الله ورسوله، فيقول: لا، نرجع إلى أعراف التجارة ولو كانت تخالف الشرع، هذا يدخل في هذه الآية. ثم قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ من القائل؟ أي واحد من الناس، أي واحد من الناس يقول: ﴿تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، هنا قال: ﴿إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي القرآن، ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ إلى سنته؛ ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾ والرؤية هنا رؤية بصر، رؤية عين، وعلى هذا فيكون ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ مفعولًا به و﴿يَصُدُّونَ﴾ حال، وهنا قال: ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾، ولم يقل: رأيتهم، فأظهر في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار له فوائد: الفائدة الأولى: الحكم على هؤلاء بالنفاق؛ لأنه لو قال: رأيتهم، لم يتبين أنهم منافقون. * طالب: (...). * الشيخ: هذا المفروض، من الذي أعطاني (...) فهمت؟ عندك يقول: الخالق اسم والصفه الخلق، وخرج من الصفه أنه يخلق، وبعدين كانت تحت دلالة المطابقة تضمن ولزوم، ما ذكرت دلالة اللزوم؟ دلالة اللزوم هي دلالته على العلم والقدرة. * الطالب: أنا عرفت (...). * الشيخ: سمعنا، أظن ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ [النساء ٦٠ - ٦٣]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، ماذا تستفيد من قوله: ﴿يَزْعُمُونَ﴾؟ * طالب: يعني معناها يا شيخ؟ * الشيخ: لا، ماذا تستفيد منها؟ * طالب: بطلان ما ادعاه.. * الشيخ: أن إيمانهم ليس حقيقة ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾، جملة ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ محلها من الإعراب؟ * طالب: حال. * الشيخ: حال منين؟ * الطالب: في ﴿يَزْعُمُونَ﴾ الواو. * الشيخ: من الواو في ﴿يَزْعُمُونَ﴾. ما المراد بالطاغوت هنا؟ معنى الطاغوت هنا لأن في كل مكان بحسبه؟ * طالب: من حكم بغير ما أنزل الله. * الشيخ: نعم. لا، هنا، الطاغوت هنا؛ لأن في كل مكان بحسبه؟ * طالب: من حكم بغير ما أنزل الله. * الشيخ: نعم، وقوله: ﴿أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء ٦٠] الحكمة من كونه نكَّر ﴿ضَلَالًا﴾ ووصفه بالبعد؟ * طالب: (...) أنهم بلغوا مبلغًا عظيمًا في الضلال. * الشيخ: في الضلال، طيب. * * * ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ [النساء ٦١]، ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ الضمير يعود إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وما أُنزل من قبل، وهم المنافقون من أهل الكتاب الذين نافقوا من أهل الكتاب، ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾: أقبلوا، ﴿إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني القرآن، ولم يقل: إلى القرآن، إشارة إلى بيان منزلته وعلو مرتبته، وهو أنه منزّل من عند الله؛ لأن ما نزل من عند الله تقوم به الحجة على كل أحد. ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾، ولم يقل: إلى قول الرسول؛ لأنهم يُدعَون إلى الحضور إلى حضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يأتون إليه ليناقشهم ويبيّن لهم، و(أل) في قوله: ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ للعهد الذهني؛ وذلك لأن العهود ثلاثة: ذهني، وذِكْري، وحضوري؛ فإن كانت (أل) تشير إلى شيء مذكور فالعهد ذكري، مثل قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل ١٥، ١٦]، مَن الرسول هنا؟ موسى الذي أُرسل إلى فرعون. وتكون للذهني إذا كان معلومًا بالذهن، كما يقول القائل لخصمه: اذهب بنا إلى القاضي، أي قاضٍ هو؟ قاضي البلد المعهود، وكما في هذه الآية الكريمة وأمثلتها كثيرة. وتكون للعهد الحضوري مثل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة ٣]، أي: اليوم الحاضر، ومن ضوابط هذه أن تأتي بعد اسم الإشارة، مثل: هذا الرجل، هذا اليوم، هذا الأسبوع، فما تأتي بعد اسم الإشارة فهي أيش؟ للعهد الحضوري؛ لأن اسم الإشارة يدل على شيء حاضر مشارٍ إليه، فتكون (أل) الواقعة بعدها تكون للعهد أيش؟ الحضوري. إذن ﴿الرَّسُولِ﴾ يعني محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسُمي رسولًا؛ لأن الله أرسله وجعله واسطة بينه وبين عباده في تبليغ شرعه، وإرسال الله إياه أكبر دليل على تزكيته، وأنه أهل لتحمل الرسالة، كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤]، فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الأمانة وبين القوة في إبلاغ الرسالة؛ ولهذا لا أحد أشد وأقوى أمانة منه، ولا أحد أشد صبرًا منه على ما يناله من تبليغ رسالة الله عز وجل. ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾، جملة ﴿رَأَيْتَ﴾ جواب الشرط في قوله: ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾ ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾، والتاء في قوله: ﴿رَأَيْتَ﴾ للخطاب، ومَن المخاطَب؟ إما الرسول؛ لقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؛ لأن السياق كله في خطاب الرسول، ويحتمل أن تكون للعموم، لكن كونها للرسول أقرب إلى السياق. ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ اسم فاعل من (نافَق)، وهو مأخوذ من نافِقَاء اليربوع، أي جحره، وجحر اليربوع مبني على الخداع؛ لأن الجربوع أو اليربوع ذكي، يجعل له بابًا في جحره يدخل منه، ويجعل له بابًا من قشرة الأرض في أقصى الجحر، فإذا زاحمه أحد من الباب المعهود المفتوح خرج من الباب الخفي فخادع، فلهذا أُخذ منه كلمة (منافق). وقد قيل: إن هذه الكلمة كلمة محدَثة شرعية، أي: لا يُعرف معناها في اللغة بهذا المعنى؛ لأن الجاهلية كفر ما فيه إيمان، والمؤمن يكون مؤمنًا بما بقي من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو يكون متنصّرًا كورقة بن نوفل، أو ما أشبه ذلك، لكن بعد أن ظهر خُبث هؤلاء أنهم يُظهرون للناس أنهم مؤمنون وهم كافرون جاءت هذه الكلمة. وقوله: ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾ فيها نكتة بلاغية وهي؟ * طالب: (...) كان من الممكن أن يُضمر. * الشيخ: الإظهار في موضع الإضمار، هذه النكتة البلاغية؛ لأن مقتضى السياق أن يقول: وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم، هذا مقتضى السياق، لكن قال: ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، وإذا جاء الإظهار في موضع الإضمار فإن له ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: عِلِّية الحكم؛ لأن هذا المظهر يفيد أن العلة في هذا الحكم هذا الشيء، فالعلة في صده هو أيش؟ النفاق. الفائدة الثانية: التسجيل على مرجع الضمير بهذا الوصف، أي أن مرجع الضمير لو كان متصفًا بهذا الوصف، وهو أيش؟ وهو النفاق، لكن لو قال: رأيتهم، لم نعرف أنهم كانوا منافقين. الفائدة الثالثة: العموم، أي أنه يعم هؤلاء وغيرهم من المنافقين، ولو قال: رأيتهم، فقط، لم يشمل غيرهم، إذن الإظهار في موضع الإضمار له ثلاث فوائد. * طالب: التسجيل والعموم.. * طالب آخر: علّية الحكم. * الشيخ: والعموم، هذه ذكرها خالد. * الطالب: مرجع للضمير. * الشيخ: لا. * طالب: التسجيل عليهم بالوصف. * الشيخ: صح، يعني التسجيل عليهم بالوصف، أي أن هذا الوصف ينطبق عليهم، أي على من يرجع عليه الضمير. ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، هنا ﴿يَصُدُّونَ﴾ نفس الفعل يصح أن يكون متعديًا ويصح أن يكون لازمًا، يقال: صد بنفسه، ويقال: صد غيره، هنا من الأول أو من الثاني ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾؟ * طلبة: الثاني. * طالب: يشمل الاثنين. * الشيخ: يا إخواني، ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾ ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، من الأول الذي هو اللازم، أي: يُعرضون عنك. وقوله: ﴿صُدُودًا﴾ هذا مصدر مؤكِّد، ويجوز أن يكون مصدرًا نوعيًّا؛ المصدر المؤكِّد هو الذي يؤكد عاملَه لينتفي المجاز؛ وذلك لأن الفعل قد يراد به المجاز، أي أنه أُسند إلى الفاعل مجازًا، فإذا أُكد زال احتمال المجاز، ويحتمل أن يكون مصدرًا نوعيًّا، أي أنه صدود عظيم، فهو موصوف بوصف محذوف، والتقدير: صدودًا عظيمًا، وأيهما أبلغ؟ الثاني أبلغ؛ لأنه ينتظم الأول، ولا عكس. فهؤلاء -والعياذ بالله- إذا قيل: تعالوا إلى ما أنزل الله إلى القرآن لنتحاكم إليه، وإلى الرسول لنتحاكم إليه، ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، يعني رأيتهم في نفاقهم وانغماسهم في النفاق يصدون عنك صدودًا. وهنا قال: ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ﴾، ولم يقل: يصدون عن الذي قال لهم؛ لأنهم لا يهمهم من قال لهم، الذي يهمهم هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد يصدون عن الرسول ولا يأتون، ولكن لا يصدون عن الذي دعاهم، ربما يقابلونه بوجه طلق وحسن لكن يصدون عن الرسول، فلهذا لم يقل: يصدون عنه، أي: عن القائل، بل قال: ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ﴾؛ لأن هذا هو مرادهم. ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [النساء ٦٢]، (كيف) هذه تكون للتعجب، يعني: اعجب لحالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، وهذه المصيبة هي أن يُطلع على نفاقهم وعلى صدودهم وإعراضهم، فإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله، تعالوا إلى الرسول، وصدوا وأعرضوا ثم اطُّلع على ذلك فهذه هي المصيبة، وإنما كانت مصيبة بالنسبة إليهم؛ لأنهم لا يريدون أن يُطلع على عوارهم وعلى كفرهم فهم منافقون يستترون غاية الاستتار لما يُخفون من الكفر، فإذا عُثر عليهم صار هذا العثور أيش؟ مصيبة عظيمة، فإذا أصابتهم هذه المصيبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾، أي: بسبب ما قدمته أيديهم من الكفر والنفاق. ﴿ثُمَّ جَاءُوكَ﴾ أي جاؤوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾، جملة ﴿يَحْلِفُونَ﴾ فاعل حال من الواو في ﴿جَاءُوكَ﴾، جاؤوك متلبسين بهذا الحلف. ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا﴾، (إن) هنا نافية، وقرينة كونها نافية أيش؟ أداة الاستثناء، ﴿إِلَّا إِحْسَانًا﴾ أي ما أردنا إلا إحسانًا، و(إن) هنا نافية، وتأتي (إن) شرطية يقولها لنا الأخ؟ * طالب: إن تقم أقم. * الشيخ: إن تقم أقم، طيب، وتأتي مخففة من الثقيلة، يلّا أجب. * طالب: إنْ زيدًا قائمٌ. * الشيخ: أيش؟ * الطالب: إن الزيدانُ قائمٌ. * الشيخ: إن الزيدانِ؟ * الطالب: إن الزيدانُ قائمٌ. * الشيخ: إنِ الزيدان؟ كذا، أفصح أفصح يا أخي ما فيه شيء. * الطالب: إن الزيدانُ قائمٌ. * الشيخ: أيش يقول؟ * طلبة: إن زيدًا قائم. * الشيخ: إن زيدًا قائم؟ لا. * طالب: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. * الشيخ: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران ١٦٤]، أي: وإنهم كانوا من قبل، وقول الشاعر: ؎......................... ∗∗∗ وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَالْمَعادِنِ وتأتي زائدة. * طالب: قول الشاعر: ؎بَنِي غُدَانَةَ مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ ∗∗∗ وَلَا صَرِيفٌ وَلَكِنْ أَنْتُمُ الْخَزَفُ * الشيخ: ؎بَنِي غُدَانَةَ مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ ∗∗∗ وَلَا صَرِيفٌ وَلَكِنْ أَنْتُمُ الْخَزَفُ وهذه ثلاثة، الرابع تأتي نافية كما في هذه الآية: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾. قوله: ﴿إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ ما هو الإحسان؟ الإحسان هو أن ينبسطوا إلى المؤمنين، ﴿إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة ١٤]، وإلى الكفار؛ إذا لقوا الذين كفروا قالوا: إنا معكم، فيريدون الإحسان، أي السير بدون عداوة لهؤلاء ولا هؤلاء. ﴿وَتَوْفِيقًا﴾ أي بين الناس، حيث نظهر لهؤلاء أنّا معهم فنوافقهم، وهؤلاء أنّا معهم فنوافقهم أيضًا، وهذا -والعياذ بالله- غاية النفاق، يعني: ما أردنا إلا الإحسان ألا يحصل بيننا تضارب وبين غيرنا؛ لأنه لا يحتمله المنافقون، والتوفيق بين الناس، نوفِّق، وسيأتي إن شاء الله في الفوائد بيان ذلك. قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [النساء ٦٣]، ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليه هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله، وأتى باسم الإشارة الدالّ على البعد لعلوّ مرتبتهم أو لانحطاط مرتبتهم؟ * طلبة: انحطاط. * الشيخ: لانحطاط مرتبتهم، وذلك أن الإشارة بالبعيد قد تكون إشارة إلى البعيد الحسي، كما تقول: هذاك فلان بعيد، وقد تكون إشارة إلى البعيد المعنوي، البعيد بعدًا معنويًّا؛ إما علوًّا، وإما أيش؟ نزولًا، حسب ما يقتضيه السياق، فهنا ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ هذا نزول، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة ٧] علو، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة ٦] هذا نزول، فجمعت الآيتان بين العلو والنزول. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾، ﴿يَعْلَمُ﴾، ولم يقل: علِم؛ لأن علم الله فيه مستمر سابقًا وحاضرًا ولاحقًا، ولهذا أتى بالفعل المضارع الدال على الاستمرار. وقوله: ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي: ما تضمره من النفاق والكفر، يعني وأما أنتم فلا تعلمون ما في قلوبهم؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، لكننا نعلمهم بالقرائن، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ بعدها؟ ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد ٣٠] أي إشارته ومفهومه، وهذا يكون لأهل الفراسة، وكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا بالله كان أشد فراسة، حتى إن بعض الناس ليقرأ ما في قلب الإنسان من على صفحات وجهه؛ لذلك نقول: المنافقون لا يعلمهم إلا الله، هذا الأصل، ولكن ربما نعرفهم في لحن القول أو بفراسة يعطيها الله تعالى من شاء من عباده. ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ يعني: لا تتعب نفسك معهم، ولا تعاملهم معاملة الكافرين فتقاتلهم، لأنهم لم يعلنوا بالعداوة؛ ولهذا لما استُؤذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قتل مَن استُؤذن في قتله منهم قال: لَا «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٥١٨)، ومسلم (٢٥٨٤ / ٦٣)، من حديث جابر بن عبد الله.]]، وهذا هو عين الحكمة؛ لأننا لو سلّطنا سيوفنا على أمثال هؤلاء لقتلنا عالَمًا وقد يكونون مؤمنين. وإذا كان الرجل المشرك الذي لحقه أسامة وأدركه بالسيف قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٢٦٩)، ومسلم (٩٦ / ١٥٩)، من حديث أسامة بن زيد.]]، مع أن الظاهر أنه قالها أيش؟ تعوذًا، إذا كان هذا الرجل عصم دمه بهذه الكلمة فكيف بهؤلاء المنافقين الذين يذكرون الله ويأتون معنا ويصلون ويتصدقون؟! فالكف عنهم هو عين الحكمة. ﴿وَعِظْهُمْ﴾ الموعظة هي التذكير المقرون بالترغيب والترهيب، هذه الموعظة أن تذكّر الإنسان بما يلزمه من فعل أو ترك مع أيش؟ الترغيب أو الترهيب؛ ترغيب فيما تأمره به، وترهيب فيما تنهاه عنه. ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ أي: قل لهم قولًا يصل إلى قرارة نفوسهم؛ ولهذا جعل ظرف القول هو النفس، ويحتمل أن يراد أن يكون المعنى: ﴿قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: في شأنهم وحالهم. ﴿قَوْلًا بَلِيغًا﴾ يبلغ قلوبهم، والمعنيان لا يتنافيان، وعلى هذا فيكونان جميعًا حقًّا، أي قل لهم في شأنهم وفي أنفسهم بأنكم فعلتم كذا وفعلتم كذا وفعلتم كذا، أو قل لهم قولًا في النفس يصل إلى النفوس وإلى قرارة القلوب ﴿قَوْلًا بَلِيغًا﴾ أي ذا بلاغة، أو ﴿بَلِيغًا﴾ بمعنى بالغًا غايته، وكلاهما صحيح؛ لأن القول كلما كان بليغًا كان أشد تأثيرًا، ولهذا جاء في الحديث: « إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً»[[أخرجه أبو داود (٥٠١١) من حديث ابن عباس.]]. وكم من إنسان يعبر عن المعنى بعبارة بليغة غاية في البيان والفصاحة فيؤثر، ثم يأتي إنسان آخر يعبر عن هذا المعنى نفسه ولكن لا يؤثر شيئًا بسبب عدم البلاغة؛ ولهذا من نعمة الله على العبد أن يعطيه بلاغة وفصاحة حتى يستطيع أن يعبر عما في نفسه مؤثرًا على غيره، وضد ذلك مَن لم يكن بليغًا. والبلاغة صارت فنًّا مستقلًّا ألَّف فيه العلماء الكتب، وهي فن لذيذ جدًّا، وليت أنه يتسهل لنا أن نقرأ منه؛ لأنه مفيد من وجه، وله ذوق طيب من وجه آخر، ونرجو الله أن ييسر. هذه الآيات كما سمعتم نزلت في قوم منافقين يزعمون أنهم مؤمنون بالله ورسوله، وليسوا كذلك. فنرجع الآن إلى استنباط الفوائد من هذه الآيات، يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾. * يستفاد من هذه الآية فوائد، منها: التعجب من هذه الحال الشاذة، التعجب من هذه الحال الشاذة، من أين علمنا ذلك؟ من الاستفهام ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ لأن المراد بذلك التعجيب، يعني أن نتعجب من حالهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان قد يدّعي ما ليس صادقًا فيه؛ لقوله: ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾. * ومن فوائدها: وجوب الإيمان بما أُنزل إلى الرسول وما أُنزل من قبله؛ لقوله: ﴿أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وهذا يدل على أن الإيمان بما أُنزل من قبله يساوي الإيمان بما أُنزل إليه، وإن كان يخالفه من حيث المنهاج والشِّرعة، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة ٤٨]، وإلا فأصل الأديان واحد من حيث الإيمان والمعتقدات، لكنه يختلف في الشرعة والمنهاج؛ لأن الله حكيم يشرع لكل أمة ما يناسبها، وما تقتضيه حالها من الصلاح والإصلاح. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: كمال الإسلام والمتمسكين به؛ لأن الإسلام يأمر الناس بالإيمان بكل ما أنزل الله، والمتمسكون به كذلك يؤمنون بكل ما أنزل الله، الذين اعتنقوا غير الإسلام كاليهود والنصارى لا يؤمنون بكل ما أنزل الله، أليس كذلك؟ أما السابقون منهم فإنما يؤمنون به إيمانًا حكميًّا، يعني يؤمنون بما تأخر عن شرائعهم إيمانًا حكميًّا؛ لأنهم لم يدركوه ولكنهم يؤمنون به، يعني أن المؤمنين بموسى في وقته والمؤمنين بعيسى في وقته يؤمنون بالقرآن؛ لأنهم يجدون أن الرسول مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، لكنه إيمان حكمي، أما إيمان المسلمين بالقرآن وبالشرائع السابقة فهو إيمان حقيقي؛ لأن دين الإسلام هو المتأخر. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات علو الله، من أين يؤخذ؟ * الطلبة: من جهة الإنزال. * الشيخ: من جهة الإنزال؟ إذا قال القائل: لم يذكر المنزِل ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، ﴿أُنْزِلَ﴾ ما قال: بما أنزلنا؟ * طلبة: معلوم. * الشيخ: لأنه معلوم، والمعلوم كالمذكور، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨]، لو قال قائل: من الذي خلق الإنسان؟ قلنا أيش؟ الله، ما في الآية: خلق الله الإنسان، نقول: لأنه معلوم أنه لا خالق إلا الله، وهذا معلوم كونًا، ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾، وإنزال الوحي معلوم شرعًا؛ لأن الذي يُنزل الوحي هو الله عز وجل، إذن فيستفاد من هذا علو الله عز وجل، وهذا ما يدل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل الصريح، والخامس الفطرة، وهذا شيء معلوم والحمد لله. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله تحاكم إلى الطاغوت؛ لقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾. * ومن فوائدها: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله كفر، من أين يؤخذ؟ من تكذيبهم في دعوى الإيمان في قوله: ﴿يَزْعُمُونَ﴾؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين لأرادوا التحاكم إلى الله ورسوله. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه إذا كانت إرادة التحاكم إلى الطاغوت مخرِجة من الإسلام فالتحاكم إليه فعلًا من باب أولى، فمن كان يهوى ويريد أن يكون التحاكم إلى الطاغوت وإن لم يتحاكم إليه فإنه ليس بمؤمن، فكيف بمن حقق هذه الإرادة وتحاكم إلى الطاغوت فعلًا؟! ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء ٦٥]، قيود عظيمة مؤكَّدة، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هذه جملة مؤكَّدة بقسم وبحرف زائد لفظًا؛ القسم ﴿وَرَبِّكَ﴾، والحرف الزائد ﴿لَا﴾؛ لأن هذه ليست نافية. ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ هذا الفعل، ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾ أي: لا يجدوا ضيقًا فيما قضيت، الثالث: ﴿يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي: تسليمًا كاملًا بدون تردد، الإنسان قد يجد بنفسه حرجًا من الحكم الشرعي، وقد لا يجد لكن لا يستسلم ويبادر، لكنه لا يؤمن حتى ينتفي عنه الحرج وحتى يسلم تسليمًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أننا مأمورون بأن نكفر بالطاغوت، ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾، ولا يتم إيماننا إلا بالكفر بالطاغوت؛ لقوله: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة ٢٥٦]، فلا بد من الكفر بالطاغوت وإلا لم يصح الإيمان بالله. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن للشيطان إرادة، من أين تؤخذ؟ ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ نعم، له إرادة، بل وله أمر، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة ٢٦٨]، فهو يريد ويأمر، طيب، فهل لنا أو فهل يمكن أن نرد هذه الإرادة وهذا الأمر؟ بماذا؟ بالاستعاذة بالله منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف ٢٠٠]، والنبي عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه الصحابة ما يجدون في نفوسهم من الخواطر الرديئة قال: «مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ » -وأيش- «وَلْيَنْتَهِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٢٧٦)، ومسلم (١٣٤ / ٢١٤)، من حديث أبي هريرة.]]، فهذا هو العصمة منه. * ومن فوائد هذه الآية: أن الشيطان يريد من بني آدم أن يضلّوا ضلالًا بعيدًا ما هو ضلال قريب؛ لقوله: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، ولكن هل تظنون أن الشيطان يأمر بالضلال البعيد في أول وهلة؟ ماذا يصنع؟ * طلبة: بالتدرج. * الشيخ: بالتدرج؛ يأمر أولًا بالفسوق والمعاصي الصغيرة، ثم بالكبائر، ثم بالكفر -نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منه- ولهذا قال العلماء: إن المعاصي بريد الكفر، البريد تعرفون معنى البريد؟ البريد مسافة معينة ثلاثة فراسخ، وكانوا فيما سبق ما عندهم طائرات ولا عندهم تليفونات، فكيف يوصلون الرسائل في وقت قصير؟ يجعلون مسافة بريد، يأخذ الفارس الرسائل من هذه النقطة ثم يعدو بفرسه إلى أيش؟ غاية البريد، وإذا بفارس آخر ينتظر فيأخذ الرسالة ويسير بها إلى بريد، وهكذا حتى يصلوا إلى الغاية، هذا وجه كونه بريدًا، المهم أن العلماء يقولون: إن المعاصي بريد الكفر، يتدرج الشيطان بالإنسان شيئًا فشيئًا حتى يهلكه. * طالب: يا شيخ، بارك الله فيك، بالنسبة للذين يحكمون بغير ما أنزل الله فيه هناك محامين يا شيخ؛ يعني المحامي هذا هل هو داخل تحت قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾. * الشيخ: هذه المسألة مهمة جدًّا، يعني إذا كنا في بلد لا يحكم بالشريعة، يحكم بالقانون، فهل لنا أن نتحاكم إليه؟ نقول: أولًا: إذا لم يكن ضرورة فإننا لا نتحاكم إليه، يعني إذا أمكن الإصلاح لا نتحاكم، إذا لم يمكن الإصلاح ننظر هل هناك أحد نختاره ليكون حكمًا بيننا، إن وجدنا لم يجز أن نتحاكم إلى هذه المحاكم، إذا لم نجد فهنا نتحاكم لا بنيّة أن نقبل كل ما حكموا به، ولكن بنيّة أن نقبل ما وافق الشرع؛ لأن هذا أمر ضروري، وإلا لضاعت الحقوق، وليست الحقوق عشرة ريالات أو عشرين ريالًا، ما يهم، لكن ربما تكون أملاكًا وعقارات، إن لم يتحاكم إلى هؤلاء فإنه يضيع حقه. فهنا نقول: يجوز أن تتحاكم لا بنيّة قبول حكمهم، ولكن بنية قبول ما وافق الشرع، لكن بعد أن نتقدم مقدمتين؛ الأولى: محاولة الإصلاح، والثانية: التحاكم إلى رجل يحكم بشريعة الله، فإذا لم يمكن لا تضيع الحقوق. المحامي الآن، هذا المحامي الذي يريد أن يتحاكم إلى محكمة غير شرعية نقول: إذا كان من نيته أنه لو حكم بغير الشرع لم يقبله فلا بأس، أما إذا كان من نيته أن يُحكم له بما يريد سواء وافق الشرع أم لا فهذا حرام، حتى لو كان في محاكم شرعية. لو جاء إنسان محامٍ جيد فصيح في المدافعة وفي الدعوى وأراد أن يحامي عن شخص حتى عند محكمة شرعية وهو يريد أن يصل إلى مراده لا إلى مراد الله ورسوله، كان هذا حرامًا أو جائزًا؟ كان هذا حرامًا، ولا شك في هذا، وذلك أن من الناس من يكون عنده قوة إقناع في الدعوى أو في المدافعة، فإذا جلس إلى القاضي مع شخص هادئ وادع أكله بثيابه، والقاضي يقضي بماذا؟ * طالب: بما يسمع. * الشيخ: بما يسمع، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه قاعدة كل المحامين، الذين يحامون يريدون أن يصلوا إلى مرادهم دون مراد الله ورسوله، فهؤلاء لا يحل لهم أن يسلكوا هذه الطريقة. * طالب: (...) لأنهم ييجوا ياخدون أصهارهم، ياخدون.. * الشيخ: هذا ما هو صحيح هذا، قال الله تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون ٤]. * الطالب: إن كانوا أصهار المسلمين ياخدوهم.. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء ٦٤ - ٦٨]. * الشيخ: كفاية، الحمد لله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، الفوائد بقي علينا من.. * طالب: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ﴾. * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾. * يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لا يخفى عليه ما في الصدور؛ لقوله: ﴿يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾. * ومن فوائدها: أن الإنسان مؤاخَذ على كسب القلب، ولا يعارض هذا قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»[[أخرجه البخاري (٥٢٦٩) من حديث أبي هريرة.]]؛ لأن حديث النفس ليس فيه استقرار، يعني أن الإنسان يحدّث نفسه لكن لا يستقر، فإن استقر صار عملًا. ولهذا قال العلماء: للقلب عمل وللنفس حديث، فعمل القلب هو أن يستقر على الشيء ويأخذ به، فما هو الذي توعّد الله عليه في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؟ الجواب: هو عمل القلب؛ أن الإنسان يعمل بقلبه، أي يطمئن للشيء الذي حدثته به نفسه. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب الإعراض حيث لا ينفع الكلام؛ لقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة بآيات الجهاد، وليس كذلك، بل آيات الجهاد في شيء وهذه في شيء آخر؛ هذه في مجادلة المنافقين، والمنافقون لا يمكن أن يجاهَدوا بالسلاح؛ لأنهم يظهِرون أنهم مسلمون، ولا يمكن أن يجاهَدوا إلا بالعلم والبيان، فإذا بيّنّا لهم ولكن استمروا في الجدال فإننا نعرض عنهم. ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: إذا أتاك مجادل فبيِّن له السنة ولا تجادله؛ لأنك إذا بيّنت له السنة جعلت الحجة عليه بين يديه، فإن جادل فإنه يجادل مَن؟ يجادل الله لا يجادلك أنت، بيِّن السنة ولا تجادل فيها مجادلًا؛ لأن الواجب على من تبيّنت له السنة أن يقبل بدون جدال. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه إذا أعرض الإنسان عن هؤلاء المنافقين وأمثالهم فإنه لا يتركهم بدون موعظة، بل يعظهم لعلهم ينتفعون؛ لقوله: ﴿وَعِظْهُمْ﴾، وقد سبق لنا معنى الموعظة وهي؟ * طالب: تذكير الله مقرونًا بالترغيب والترهيب. * الشيخ: التذكير مقرونًا بالترغيب والترهيب، نعم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان إذا تكلم أن يتكلم بكلام بليغ يصل إلى النفس؛ لقوله: ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أنه من آداب المتكلم أن يتجه إلى المخاطب؛ لقوله: ﴿وَقُلْ لَهُمْ﴾؛ لأن كلمة (لهم) تعني أن يتوجه الإنسان القائل إلى مخاطَبه، فلا يتكلم وهو معرِض أو يتكلم وتلقاء وجهه إلى محل آخر، بل إذا أراد أن يتكلم مع شخص في موعظة فليكن اتجاه وجهه إلى هذا الرجل؛ لقوله: ﴿وَقُلْ لَهُمْ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب