الباحث القرآني
ثم قال: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾.
﴿لَوْلَا﴾ شرطية، ويقال في إعرابها: حرف امتناع لامتناع، صح؟ حرف امتناع لوجود، ما هو الموجود وما هو الممتنع هنا؟ الموجود ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، والممتنع ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾، وهناك أخت لها أو بنت عم؛ وهي (لو) يقال فيها: حرف امتناع لامتناع، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ﴾ [النساء ٦٤]، هذه حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جاء زيد لأكرمته، ولهما بنت عم بعيدة وهي؟
* طلبة: لولا.
* الشيخ: لا، لو ما هي لولا، (لَمَّا)، ويقال فيها: حرف وجود لوجود، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة ٨٩]، هذه حرف وجود لوجود؛ وُجِد الكفر لوجود المجيء، وتقول: لَمَّا جاء زيد جاء عمرو؛ وُجِد مجيء عمرو لوجود مجيء زيد، وعلى هذا فقد توزّعت هذه الحروف الثلاثة الوجودَ والعدم، (لَمَّا) حرف؟
* طلبة: وجود لوجود.
* الشيخ: و(لو)؟
* الطلبة: حرف امتناع لامتناع.
* الشيخ: و(لولا)؟
* الطلبة: حرف امتناع لوجود.
* الشيخ: امتناع لوجود. هنا يقول: ﴿لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ الفضل هو العطاء الزائد، والرحمة أعمّ؛ لأن الرحمة يكون فيها دفع المكروه وحصول المطلوب، والفضل حصول المطلوب.
وقوله: ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾ هذا جواب (لولا).
﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ فمن هي هذه الطائفة؟ هي التي ادّعت أن السارق هو اليهودي، واجتمعوا على ذلك حتى لبَّسوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهمّوا أن يضلوه، وهنا إشكال، فإن ظاهر الآية الكريمة أنهم لم يهمّوا أن يضلوه، وإذا نظرنا إلى القصة وجدنا أنهم همّوا؛ يعني هم جاؤوا إلى الرسول بأجمعهم، وأنكروا أن يكون صاحبهم السارق، ورموا اليهودي بالسرقة، فقد همّوا وفعلوا.
والجواب عن ذلك أن يقال: همّوا هَمًّا يحصل به إضلاله، ولكنهم لم يصلوا إلى مرادهم، فصح أن يكون قوله: ﴿لَهَمَّتْ﴾ جوابًا لقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾.
﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ (أن) هنا مصدرية حُذِف منها حرف الجر، وتقديره: بأن يضلوك، وحذف حرف الجر مع (أنْ) و(أنّ) مطرد، وإذا حُذِف حرف الجر نُصِب المجرور، هذه قاعدة مطردة، لكنه مطرد في (أنّ) و(أنْ) كما قال ابن مالك:
؎..... وَفِي (أَنَّ) وَ(أَنْ)يَطَّـــــــــــــــــــــــــرِدُ ∗∗∗ مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ(عَجِبْتُ أَنْيَدُوا)
أما مع غير (أنّ) و(أنْ) فهو سماعي يُسمع عن العرب ولا يُقاس عليه، ومن ذلك قول الشاعر:
؎تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْتَعُوجُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا ∗∗∗ كَلَامُكُمُ عَلَيَّ إِذَنْحَـــــــــــــــــــــــــــــــــرَامُ
الشاهد في قوله (الديار)، والأصل: تمرون بالديار ولم تعوجوا، لكن حُذفت الباء فنُصِب المجرور بنزع الخافض، لكنه غير مطرد إلا في (أَنَّ) و(أَنْ).
﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾ الإضلال معناه في الأصل يقال: ضل الطريق بمعنى: تاه، ولم يكن سيره على بيّنة، والمراد بإضلال الرسول عليه الصلاة والسلام هنا الذي همّ به هؤلاء، ولكن فضل الله ورحمته تداركت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو أن يحكم بأن السارق من؟ اليهود.
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٧٤]، إذن يعني: لو ركنت إليهم ولو شيئًا قليلًا، ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء ٧٥]، تأمل هذه الآية يا أخي يتبين لك عِظَم مخالفة الشرع من أجل عباد الله ﴿لَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾.
وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام لولا أن الله ثبّته لركن إليهم شيئًا قليلًا، فما بالك بنا نحن؟! فالواجب على الإنسان أن يتنبّه لمثل هذه الآية، وأن يسأل الله دائمًا الثبات على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولو فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات؛ لأن ذنب الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كذنب غيره.
يقول: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ يعني أنهم بتحايلهم، واتهامهم للغير، وإرادتهم أن يضل الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يضلّ، بل هذا لا يحصل به إلا ضلال أنفسهم.
﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ (من) هذه زائدة زائدة.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ زائدة زائدة، كيف زائدة زائدة؟ تناقض! زائدة إعرابًا أيش؟ زائدة معنى؛ زائدة الأولى هل هي من الفعل اللازم أو من الفعل المتعدي؟ انتبه! زائدة زائدة، الأول من اللازم أو من المتعدي؟
* طالب: اللازم.
* الشيخ: من اللازم، الثاني؟
* الطالب: من المتعدي.
* الشيخ: من المتعدي؛ لأن المعنى زائدة هي بنفسها، زائدة معنى، أي: زادت في المعنى، واضح؟
* الطالب: الأول قلنا: زائدة إعرابًا.
* الشيخ: إي، زائدة إعرابًا، زائدة معنى، لكن نقول: زائدة إعرابًا، هل هي الفعل (زاد) متعدي أو لازم؟
* الطالب: إعرابًا.
* الشيخ: لا، ما هو إعرابًا، زائدة، هذه زائدة؛ يعني بنفسها، واضح؟ هذه زائدة للمعنى فهي متعدية، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد ١٧]، فهي تكون متعدية، وتكون لازمة.
على كل حال ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ هذه (من) زائدة إعرابًا أيش؟ وزائدة للمعنى، فما هو الزيادة في الإعراب؟
هو أنه لو حُذِفت لاستقام الكلام، لو كان في غير القرآن وقيل: وما يضرونك شيئًا، صح الكلام، وهي زائدة من حيث المعنى؛ يعني تزيد في المعنى؛ لأن الحروف الزائدة من أدوات التوكيد؛ فهي تؤكد المعنى، ولهذا نقول: إن (شيئًا) هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فإذا دخلت عليها (من) كانت نصًّا في العموم كـ(لا) النافية للجنس.
﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: لا يمكن أن يضروك بأي شيء من الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد مَنّ عليك بفضله ورحمته.
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الكتاب هو القرآن، والحكمة قيل في معناها وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بذلك أسرار الشريعة، أي: أسرار أحكامها؛ فإن شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام كلها مشتملة على أسرار وحِكم عظيمة.
وقيل -وهو الوجه الثاني-: المراد بالحكمة السُّنّة، فالله أنزل عليه القرآن والسنة، والمعنيان لا يتنافيان في الواقع؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الله عليه الكتاب، وأنزل عليه السُّنة، وكذلك الكتاب والسنة كلاهما مشتمل على أحكام وحِكم بالغة قد تنالها العقول وقد لا تنالها.
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ نعم، علّم الله نبيه ما لم يكن يعلم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت ٤٨]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى ٥٢]، وهذا لا ينقص النبي ﷺ شيئًا، بل يزيده دلالة على أنه رسول الله حقًّا، فمن أين جاءه هذا العلم؟ من الله عز وجل، ولهذا وصف الله محمدًا ﷺ بأنه أُميٌّ وصف ثناء لا وصف قدح؛ لأن كونه أُمِّيًّا، ثم يأتي بهذا الكتاب العظيم الذي أعجز البشر يدل على أنه أيش؟ على أنه رسول الله حقًّا.
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ هذا كالتوكيد لقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾.
وما ظنك بوصف الفضل بالعِظَم من العظيم الذي لا أعظم منه؟! سيكون هذا العِظَم عظيمًا بالغًا جدًّا؛ لأن وصف العظيم للشيء بالعظيم يدل على أيش؟ على عظمة كبيرة، ولهذا تجد الفقير مثلًا يستعظم أن يكون عنده ألف ريال، والغني يستصغرها ولا يراها شيئًا، فوصفه بالعِظم -وهو من عند الله الذي هو أعظم من كل شيء- يدل على عِظَم الفضل الذي أوتيه الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
* في هذه الآية الكريمة فوائد كثيرة؛ منها: بيان فضل الله على رسوله.
* ومنها: إثبات الرحمة الخاصة؛ فإن قوله: ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ رحمة خاصة لم تكن لغير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والرحمة نوعان: عامة، وخاصة؛ فالعامة هي اللي تشمل جميع العباد ومنها؟
* طالب: الرحمة العامة.
* الشيخ: اللي سألته أنا؟
* الطالب: رحمة عامة تشمل جميع العباد.
* الشيخ: نعم، ومنها؟
* الطالب: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف ١٥٦].
* الشيخ: قول الله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ﴾. طيب، و﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة ١٦٣]؟
* الطالب: و﴿الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾.
* الشيخ: وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة؛ لقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب ٤٣].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محتاج لفضل الله ورحمته، ولولا فضل الله ورحمته عليه لحصل له ما يحصل لغيره؛ لقوله: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإنسان إذا مُنِع من الضلال بسبب أو بغير سبب فذلك من فضل الله عليه، ويتجلّى ذلك أن الإنسان أحيانًا يرى رأيًا في مسألة من المسائل أنها حرام أو حلال، ثم يُقيِّض الله له مَن يناظره في هذه المسألة حتى يتبين له الحق ويرجع، فهذا من نعمة الله عليه، ومن فضل الله عليه، أحيانًا ينقدح له الحق دون مناظرة إما بالتأمل والتدبُّر، وإما بأن ينظر مثلًا إلى أشياء أخرى يقيسها عليها أو غير ذلك.
المهم أن الإنسان متى تبيّن له الحق بأي سبب فإن ذلك من نعمة الله عليه فليحمد الله على ذلك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الحذر من أهل السوء، وألا يغترّ الإنسان بظاهر الحال، لكن إذا لم يكن إلا ظاهر الحال فلا بد أن يحكم بذلك؛ لقول النبي ﷺ: «إِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٩٦٧)، ومسلم (١٧١٣ / ٤) من حديث أم سلمة.]]، لكن عليه أن يحترز فإن الإنسان قد يغر غيره بحاله؛ لقوله: ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من أراد إضلال الخلق فإنه لا يضر إلا نفسه؛ لقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ لأنهم عموا في الواقع عن الحق، ودعوا الناس إلى الباطل، فاكتسبوا إثمًا إلى آثامهم فأضلّوا أنفسهم بذلك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عصمة الرسول ﷺ من ضرر هؤلاء أو من إضرار هؤلاء؛ لقوله: ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ﴾.
* ومن فوائدها: أن القرآن الكريم مُنزَّل من عند الله؛ لقوله: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات علوّ الله؛ لقوله: ﴿أَنْزَلَ﴾، والنزول يكون من أعلى، وعلوّ الله عز وجل نوعان: علوّ معنوي، وعلوّ ذاتي؛ فأما العلوّ المعنوي فهو كمال أوصافه عز وجل، وهذا لا ينكره أحد ممن ينتسب إلى الإسلام، كل من ينتسب إلى الإسلام يقرّ بعلوّ الله عز وجل علوًّا معنويًّا، والثاني: علوّ ذاتي، وهذا يثبته السلف وأئمة الأمة، وينكره الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة، ينكرون العلوّ الذاتي، فماذا يقولون؟
انقسموا إلى قسمين؛ قسم منهم يقول: إن الله معنا في كل مكان، فليس له مكان أعلى، إن كنا في المسجد فهو معنا، إن كنا في البيت فهو معنا، في السوق فهو معنا، في أي مكان فهو معنا، ومع فلان وفلان في أي مكان، ولا شك أن هذا ضلال مبين، هل الرب عز وجل واحد؟
* الطلبة: واحد.
* الشيخ: واحد، كيف يكون ذاتيًّا في كل مكان؟ هذا يلزم منه إما التعدد، وإما التجزؤ، ويلزم منه أيضًا أن يكون الله حالًّا في الأمكنة وهو أعظم من كل شيء، السماوات مطويّات بيمينه والأرض جميعًا قبضته، وأما الآخرون فقالوا: إن الله تعالى لا يُوصف بأنه فوق العالَم ولا تحت العالَم، ولا يمين العالَم ولا شمال العالَم، ولا متصل بالعالَم ولا منفصل عن العالَم، وين يروح؟ عدم؛ ولهذا قال محمود بن سبكتكين رحمه الله لمحمد بن فورك لما وصف الله عز وجل بهذه الصفة قال: فرِّق لنا بين الرب الذي تعبده وبين الرب المعدوم؟ هذا هو العدم، ولو قيل للإنسان: صف العدم بأبلغ من هذا الوصف ما وجد إلى ذلك سبيلًا، أما أهل الحق فقالوا: إن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون في كل مكان، ولا يمكن أن نصفه بالعدم كما وصفه هؤلاء.
ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن كلام الله، وجهه أن الله قال: ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، ومعلوم أن القرآن كلام، والكلام صفة المتكلم، فإذا كان الإنزال دالًّا على علو الْمُنْزَل كان ذلك دليلًا على أن القرآن كلام الله؛ لأن القرآن وصف لا يمكن أن يقوم بذاته، فلزم أن يكون كلام الله عز وجل.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)﴾ [النساء ١١٤، ١١٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.
* من فوائد هذه الجملة من الآية الكريمة: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾؛ لأن الله أنزله من عنده.
فإن قال قائل: في هذا الاستدلال نظر؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد ٢٥]، وقال: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر ٦]، وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان ٤٨]، ولا شك أن هذه الأشياء الثلاثة ليست كلام الله، ففي الاستدلال نظر؟
فالجواب عن ذلك أن يقال: هذه الأشياء أعيان قائمة بنفسها فهي مخلوقة، وأما القرآن فهو صفة لا تقوم بنفسها؛ لأنه كلام، فلزم من ذلك أن يكون صفة لله وليس بمخلوق، وهذا هو الذي عليه أهل السُّنة والجماعة، أما الأشاعرة فقالوا: هذا القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، وكلام الله غير مخلوق؛ لأنهم يرون أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وحقيقة قولهم أنهم فسّروا الكلام بأيش؟ بالعلم ليس بالكلام؛ لأن المعنى القائم بالنفس ليس كلامًا، بل إن الجهمية خير منهم في هذا الباب؛ لأن الجهمية يقولون: كلام الله مخلوق، وهو هذا الذي بين أيدينا، هم يقولون: هذا الذي بين أيدينا مخلوق، وليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، وليس هو الكلام، فصار الجهمية من هذا الوجه أحسن منهم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان محلًّا لإنزال الكتاب عليه، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤].
* ومن فوائدها: أن القرآن كِتَاب (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول)، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، مكتوب في المصاحف التي بأيدينا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن النبي ﷺ أُوتي الحكمة، فما هي الحكمة؟ قيل: إنها السُّنّة؛ لأن السنة حكمة، ولكن هذا القول، وإن كان ذهب إليه كثير من العلماء، ففي النفس منه شيء؛ لأن الحكمة الكائنة في القرآن كالحكمة الكائنة في السنة أو أعظم.
وحينئذٍ نقول: المراد بالحكمة هي الأسرار التي اشتملت عليها شريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما جاء به هذا القرآن، فيكون الله تعالى قد أنزل على رسوله أحكامًا وحِكَمًا، وهذا القول عندي هو الأرجح؛ لأن التعبير عن السنة بأنها منزَّلة من عند الله فيه شيء أيضًا؛ لأنه ليست السُّنّة كلها وحيًا، بل منها ما هو وحي، ومنها ما هو إقرار من الله للرسول عليه الصلاة والسلام، وما أقرّ الله رسوله عليه فهو من عنده.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة العلم؛ لأن الله امتنّ به على رسوله حيث قال: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، ولا شك أن العلم أشرف ما يُعطاه الإنسان بعد الإسلام؛ فهو خير من المال، وخير من الأولاد، وخير من الأزواج، وخير من الدنيا كلها، انظر إلى العلماء الذين نور علمهم بين أيدينا اليوم، وانظر إلى من في زمنهم من الملوك والسراة والوجهاء والأعيان وغير ذلك، أين ذكرهم؟ ذهب، لكن العلماء بقي ذكرهم، وصاروا يدرّسون الناس وهم في قبورهم، وهذه فضيلة عظيمة للعلم، فما أُعْطِيَ الإنسان بعد الإسلام خيرًا من العلم، والعجب أن العلم كما قال القائل:
؎يَزِيـــــدُ بِكَثْرَةِ الْإِنْفَـــــــــــاقِمِنْـــــــــــــــــهُ ∗∗∗ وَيَنْقُــــــــــــــصُ إِنْ بِهِ كَفًّاشَدَدْتَا
كلما علّمت ازداد علمك، وكلما أمسكت العلم نقص علمك، المال بالعكس، لولا أن الله ينزل البركة لمن تصدّق حتى لا تنقصه الصدقة لانتهى المال عن قرب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يعلم إلا من عند الله، لا علم له بشيء إلا من عند الله؛ لقوله: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.
فإن قال قائل: هذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان جاهلًا من قبل، وهذا تنقّص له؟
قلنا: كلا، ليس تنقّصًا، بل هو كمال له؛ لأن إعطاءه الكمال بعد النقص في هذا الباب يعتبر كمالًا، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن ينزل عليه الكتاب لا شك أنه لا علم عنده؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت ٤٨]، ولقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ [الشورى ٥٢]، لولا أن الله تعالى مَنّ عليه بالعلم، نسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع.
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من أي شيء علّمه ما لم يكن يعلم؟
طبعًا ليس من كل شيء، حتى الآية لا تدل على أنه علّمه كل شيء، علّمه ما لم يكن يعلمه من قبل، جائز أن يكون ألف مسألة، أو مليون مسألة، أو كم؟ عشر مسائل؛ لأنه قال: ﴿عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾، ولم يقل: علّمك كل شيء، وبهذا نرد على أولئك الكاذبين الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم الغيب، نقول: كذبتم ورب العرش، ما يعلم الغيب، وإذا كان إذا انخنس عنه بعض أصحابه لا يدري أين ذهبوا، وهم في مكان واحد، فكيف تقولون: إنه يعلم الغيب؟! وإذا كان يدخل بيته ولا يدري ما في البيت يقول: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٩٤)، ومسلم (١٠٧٦ / ١٧٤) من حديث عائشة.]]، وإذا قالوا: ليس عندنا شيء قال: «أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ عَلَى النَّارِ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٩٧)، ومسلم (١٥٠٤ / ١٤) من حديث عائشة.]]، وهو لا يدري، فلعله ماء يفور، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب أبدًا.
وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم كلمة عامة، قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن ٢٦، ٢٧]، وليس يعطيه علم كل شيء، حتى الساعة، جاء جبريل يقول للرسول: متى الساعة؟ ماذا قال؟ قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]].
فأشرف الرسل من الملائكة، وأشرف الرسل من البشر كلاهما لا يعلمون الغيب، لا يعلم متى تكون الساعة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان فضل الله على رسوله ﷺ وعِظمه؛ لقوله: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.
* وربما يتفرع من هذه الفائدة: أن أعظم فضل يتفضّل الله به على العبد هو العِلم، ولا شك في هذا، ثم هذه بشرى لأهل العلم إذا علّمهم الله تعالى من شريعته ما علّمهم فإنما هم ورثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ حيث علّمهم من شريعته ما لم يكونوا يعلمون.
{"ayah":"وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءࣲۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق