الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: (﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ﴾ بالزِّنا ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾ العفائف ﴿الْغَافِلَاتِ﴾ عن الفواحش بألا يقع في قلوبهن فعلها ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالله ورسوله ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ٢٣]). ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ الرمي هو القذف بالزنا، وسمي رميًا لأنه يشبه الرمي بالحجارة من حيث إيلامه للمقذوف. وقوله: ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾ تقدم أن المراد بهن العفائف عن الزنا، وأن المحصن في القرآن يطلق ويراد به عدة معان، منها هذه: العفيفات عن الزنا، ومنها: ذوات الأزواج، مثل قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء ٢٤]، ومنها الحرائر ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ أي الحرائر ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء ٢٥]، وذكرنا أيضًا على هذا الكلام أن الألفاظ المشتركة التي تطلق على معانٍ متعددة يعين المراد منها السياق، السياق هو المعين للمراد. ﴿الْغَافِلَاتِ﴾ يقول: (عن الفواحش بألا يقع في قلوبهن فعلها) هذا المراد بالغافل، وهذا القيد ليس بشرط، يعني ليس بشرط أن تكون المرمية ممن هي غافلة، هكذا قال بعض أهل العلم، بدليل أن من قذف محصنة بالزنا وجب عليه حد القذف وإن لم تكن غافلة، ولكن الأصل في القيد، أيش الأصل فيه؟ أنه معتبر، وأن مفهومه -مفهوم المخالفة- غير داخل فيه، هذا الأصل، فمن قال: إن هذا القيد لا يعتبر مثلًا إما بناء على الغالب أو ما أشبه ذلك لنا أن نطالبه بأيش؟ بالدليل، نقول: هات دليلًا على أن هذا القيد لبيان الغالب، وأنه ليس بمقصود، وإلا فالأصل أن القيود يراد بها ما يخالف مفرداتها، يعني يراد بها أن ما يخالفها يكون مخالفًا لها في الحكم، ما أدري فاهمين هذا ولَّا لا؟ ﴿الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾ بعض العلماء يقول: إن (الغافلات) هذه قيد لبيان الواقع وليست مقصودة، بمعنى أن من رمى محصنة فعليه هذه اللعنة وإن لم تكن غافلة، وأيش دليله؟ قال: لأن من قذف محصنة وجب عليه حد القذف وإن لم تكن غافلة، والغافلة فهمتوا المعنى أنها التي لا يرد في ذهنها هذا الأمر الذي رميت به، وهو أبلغ من كونها لم تفعله ولم تتهم به، الغافلة أبلغ ممن لا تتهم به؛ لأنها قد لا تتهم به ولكن قد يرد في قلبها هذا الشيء إلا أنها لا تفعله، فالغافلات أكمل حالًا من مجرد أيش؟ المحصنات. فيقول هذا القائل الذي ذهب إلى أن (الغافلات) قيد لبيان الواقع، وأنه لا مفهوم له، أؤيد رأيه هذا بأن المحصنة إذا قُذفت وجب على قاذفها الحد وإن لم تكن غافلة، مفهوم هذا ولَّا لا؟ نقول له ردًّا على كلامه وتقريره: ادعاؤك أن الغافلات قيد أغلبي، وإنه لا مفهوم له، واستدلالك على ذلك بأن رمي المحصنة بالقذف يوجب الحد وإن لم تكن غافلة هذا غير مسلم به، لماذا؟ لأن الأصل في القيد الاعتبار، وأنه يخرج ما عداه بمفهوم المخالفة، هذا الأصل، أن القيود التي ترد في القرآن أو في السنة الأصل فيها أنها قيود تخرج محترزاتها من هذا الحكم، فمثلًا عندنا نقول: إن (الغافلات) قيد أغلبي لا يخرج محترزه، هذا خلاف الأصل، وعلى مدعيه أيش عليه؟ الدليل. * طالب: (...). * الشيخ: أيش؟ على مدعيه الدليل، هو استدل على ذلك بأن قذف المحصنة يوجب الحد وإن لم تكن غافلة، هذا صحيح ولّا لا؟ هذا صحيح، المرأة المحصنة التي لا تتهم بالزنا إذا قذفها القاذف وجب عليه الحد وإن لم تكن غافلة؛ لأننا نرد هذا الاستدلال أو هذا التأييد الذي أيد به قوله بأن الحكم مختلف، فهناك حد القذف وهنا اللعنة ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، مثل من قذف محصنة استحق حد القذف، لكن اللعنة إنما تكون على من قذف محصنة غافلة، هذا هو الأصل، ولذلك نؤيد أن الغافلات قيد اعتباري لا أغلبي، وأن الحكم الذي هو اللعن في الدنيا والآخرة لا يكون إلا لمن قذف محصنة غافلة؛ ذلك لأن الأصل على حسب ما سمعتم في هذا التخريج: الأصل أن القيود أيش؟ اعتبارية، تخرج عن الحكم محترزاتها، هذا الأصل، فمن خرج عن هذا الأصل أُلزم بالدليل. طيب، أما من قال: إن المراد بهذه الآية عائشة رضي الله عنها مثلًا، إن المراد عائشة، وإنها غافلة عن هذا الأمر، فهذا صحيح، عائشة غافلة، لكننا أيضًا نرد قوله بماذا؟ بأن الآية عامة، فهذا أيضًا مثل الأول، حمل العام على الخصوص يحتاج إلى دليل، فمن ادعاه فعليه الدليل، وإلا وجب الأخذ بالعموم. (﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ بالله ورسوله) ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾ إذا قال قائل: لماذا قدم الله الوصف بالإحصان على الإيمان؛ لأنَّ الإيمان أعظم، وهو الأصل، فلماذا قدمه؟ فنقول: وجه تقديمه هنا واضح؛ لأن الرمي بالزنا ينقض الإحصان وينافيه، فبدأ بالوصف الذي ينقض ما رميت به، وهو الإحصان، ليش؟ لأن المؤمنة قد تكون مؤمنة وليست محصنة، لكن المحصنة اللي هي أبعد شيء عما رميت به ليست هي مؤمنة فقط، بل ومحصنة أيضًا، فعلى هذا نقول: وجه تقديم المحصنة على المؤمنة مع أن الإيمان أكمل وأولى بالاعتبار أن المسألة في رد قول يتعلق بأيش؟ بالإحصان، فناسب أن يذكر ما يتعلق به من الحكم، وهو وصف الإحصان قبل وصف الإيمان. وقوله: ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ الجملة أيش محلها من الإعراب؟ * طالب: (...). * الشيخ: أيش هي؟ ما هي جواب شرط، ما عندنا شرط. * طالب: خبر. * الشيخ: خبر (إن): إن الذين يرمون لعنوا. ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، هنا ما قال: لعنهم الله، قال: ﴿لُعِنُوا﴾؛ لأجل أن يشمل ذلك لعنة الله وغيره سبحانه وتعالى، ﴿لُعِنُوا﴾ مثل قوله: ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة ١٥٩] يعني أن الله يلعنهم وكذلك اللاعنون يلعنونهم. وبناء الفعل للمجهول من فوائده العموم، (...) من الفوائد، لكن في مثل هذه الآية من العموم، مثل ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٦، ٧]، ما قال: غير من غضبت عليهم، مثلما قال: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ليش؟ لأن النعمة من الله، والغضب من الله ومن غيره، كل من استكبر عن الحق فإنه مغضوب عليه، لا من قبل الله فحسب، ولكن من قبل الله وغيره، هذا أيضًا اللعن هنا من قبل الله وغيره، ولذلك بُنيت للمجهول ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. اللعنة: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، هذا بالنسبة للعنة الله، فهم -والعياذ بالله- مطرودون عن رحمة الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وبالنسبة لغير الله يلعنون في الدنيا بحيث يسبون ويوبخ فيهم ويبعد عن الاختلاط بهم، تجد الناس يبتعدون عنهم، ويش السبب؟ لأنهم ممقوتون محذورون، كل يحذر منهم ويخاف أن يتهموه بما اتهموا به فلانًا وفلانًا. طيب هذه الآية ﴿الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾ هل المحصنون الغافلون مثلهن؟ نعم، بالإجماع، أن المحصنات، بل أن المحصنين مثل المحصنات في هذه. إذن ما وجه ذكر هذا بالنساء دون الرجال ما داموا مشتركين في الحكم؟ لأن كثرة القذف في النساء أكثر، لأن القذف في النساء أكثر من الرجال، يعنى كون المرأة تقذف وتتهم بالزنا أكثر من الرجال، لذلك ذُكرت هي والرجل مثلها بالاتفاق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب