الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾، ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾، أي العهد الذي بينهم وبين الله عز وجل، وهو الإيمان بالرسل إذا جاءتهم بالحق، فإن هذا مأخوذ على كل إنسان إذا جاء رسول مصدَّق ومصدَّق بما معه من الآيات فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به، هؤلاء نقضوا عهد الله ولم يؤمنوا برسله. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، المراد أيش؟ من الأرحام؟ أو كل ما أمر الله به أن يوصل؟ العموم: الأرحام، ونصرة الرسل، ونصرة الحق، والدفاع عن الحق، كل ما أُمِرنا أن نصله فإنه يدخل في هذه الآية: ﴿يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، الإفساد في الأرض هنا المراد به الإفساد الحسي أو المعنوي؟ المراد به الإفساد المعنوي، والإفساد الحسي يتضمن الإفساد المعنوي؛ لأنه عدوان وظلم، لكن المراد بالإفساد في الأرض هو إفسادها بالمعاصي؛ لأن المعاصي سبب للفساد، بدليل؟ * طالب: قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١]. * الشيخ: نعم، بدليل قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾، ولهذا قال العلماء السلف في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف ٥٦] قالوا: إفسادها بالمعاصي؛ لأن المعاصي سبب لكل بلاء، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف ٩٦]، إذن يفسدون في الأرض بماذا؟ بالمعاصي، وهذا الإفساد إفساد معنوي يلحقه إفساد حسي، هم لا يأخذون الجرافات يقطعون الأشجار ويفسدون الزروع، لا، لكنهم يفعلون ما يكون سببًا لذلك. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، جملة اسمية مؤكدة بمؤكِّد، أين هو؟ * طالب: ضمير الوصل. * الشيخ: إي (هم) ضمير الفصل؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: التوكيد، والفائدة الثانية: الحصر، والفائدة الثالثة: إزالة اللبس بين الصفة والخبر، مثال ذلك تقول: زيدٌ الفاضل، كلمة (الفاضل) يحتمل أن تكون خبرًا، ويحتمل أن تكون وصفًا، فتقول: زيدٌ الفاضل محبوبٌ، إذا قلنا: زيدٌ الفاضل محبوبٌ، تعين أن تكون صفة، وإذا قلت: زيدٌ الفاضلُ، يحتمل أن تكون صفة وأن الخبر لم يأت بعد، ويحتمل أن تكون خبرًا، فإذا قلت: زيدٌ هو الفاضل، تعين أن تكون خبرًا، نعم؛ لوجود ضمير الفصل، ولهذا سمي ضمير الفصل. ثانيًا: يفيد التوكيد، يقول: زيدٌ هو الفاضل، أكدت فضله، والثالث: يفيد الحصر. هل له محل من الإعراب؟ الجواب: لا، كما في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ [الشعراء ٤٠]، ولو كان له محل من الإعراب لقال: هم الغالبون، فهو ليس له محل من الإعراب، لكن أُتِيَ به في الأسلوب العربي لهذه الفوائد الثلاث، وربما يضاف إليه اللام ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات ١٠٦]، فيكون في إضافة اللام إليه زيادة توكيد. وقوله: ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ الخاسر هو الذي فاته الربح، وذلك لأن هؤلاء فاتهم الربح الذي ربحه من؟ الذي ربحه من لم ينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ومن لم يقطع ما أمر الله به أن يوصل. في هذه الآية فوائد، منها: أن نقض عهد الله من علامات الفسق؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾، فكلما رأيت شخصًا قد فرط في واجب أو فعل محرمًا فإن هذا نقض للعهد من بعد الميثاق. ومنها: التحذير من نقض عهد الله من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سببًا للفسق. ومنها أيضًا: التحذير من قطع ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام، أي الأقارب وغيرهم؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام الذم، أي ذكر قطع الصلة في مقام الذم، وقطع الأرحام من كبائر الذنوب؛ لقول النبي ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٩٨٤)، ومسلم (٢٥٥٦ / ١٨) من حديث جبير بن مطعم، وقوله: يعني قاطع رحم، من قول ابن عيينة كما في رواية مسلم.]]، يعني قاطع رحم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن المعاصي والفسوق سبب لفساد الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، ولهذا إذا قحط المطر وأجدبت الأرض، ورجع الناس إلى ربهم وأقاموا صلاة الاستسقاء وتضرعوا إليه وتابوا إليه، أيش؟ أغاثهم الله، وقد قال نوح عليه السلام لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح ١٠ ١٢]، فإن قال قائل: أليس يوجد في الأرض من هم صلحاء قائمون بأمر الله مؤدون لحقوق عباد الله، ومع ذلك نجد الفساد في الأرض؟ قلنا: إن هذا الإيراد أوردته زينب رضي الله عنها على النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قال: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ»، قَالَتْ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٤٦)، ومسلم (٢٨٨٠ / ١) من حديث زينب بنت جحش.]]، وكثر الخبث يحتمل أنه وصف للفاعل ووصف للفعل، يعني إذا كثر الخبث حتى بين الصالحين، أو الخبث من الناس أجمعين، فمثلًا إذا كثر الكفار في أرض كان ذلك سببًا للشر والبلاء؛ لأن الخبث كثر، وإذا كثرت أفعال المعاصي كان ذلك سببًا أيضًا للشر والبلاء. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين اعترضوا على الله ونقضوا عهده، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ولكنهم حقيقة هم الخاسرون الذين خسروا الدنيا والآخرة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر ١٥]، وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر ١ - ٣]، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء بمنه وكرمه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب