الباحث القرآني

أنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ رَدًّا عَلى الكُفّارِ لَمّا أنْكَرُوا ما ضَرَبَهُ سُبْحانَهُ مِنَ الأمْثالِ كَقَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] وقَوْلِهِ: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] فَقالُوا اللَّهُ أجَلُّ وأعْلى مِن أنْ يَضْرِبَ الأمْثالَ. وقالَ (p-٤٠)الرّازِيُّ: إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ القُرْآنِ مُعْجِزًا أوْرَدَ هاهُنا شُبْهَةً أوْرَدَها الكُفّارُ قَدْحًا في ذَلِكَ وأجابَ عَنْها، وتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ أنَّهُ جاءَ في القُرْآنِ ذِكْرُ النَّحْلِ والعَنْكَبُوتِ والنَّمْلِ، وهَذِهِ الأشْياءُ لا يَلِيقُ ذِكْرُها بِكَلامِ الفُصَحاءِ فاشْتِمالُ القُرْآنِ عَلَيْها يَقْدَحُ في فَصاحَتِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا. وأجابَ اللَّهُ عَنْها بِأنَّ صِغَرَ هَذِهِ الأشْياءِ لا تَقْدَحُ في الفَصاحَةِ إذا كانَ ذِكْرُها مُشْتَمِلًا عَلى حِكْمَةٍ بالِغَةٍ انْتَهى. ولا يَخْفاكَ أنَّ تَقْرِيرَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ وإرْجاعَ الإنْكارِ إلى مُجَرَّدِ الفَصاحَةِ لا مُسْتَنَدَ لَهُ ولا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وقَدْ تَقَدَّمَهُ إلى شَيْءٍ مِن هَذا صاحِبُ الكَشّافِ، والظّاهِرُ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا لِكَوْنِ هَذِهِ الآيَةِ جاءَتْ بِعَقِبِ المَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما مَذْكُورانِ قَبْلَهُما، ولا يَسْتَلْزِمُ اسْتِنْكارُهم لِضَرْبِ الأمْثالِ بِالأشْياءِ المُحَقَّرَةِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قادِحًا في الفَصاحَةِ والإعْجازِ. والحَياءُ: تَغَيُّرٌ وانْكِسارٌ يَعْتَرِي الإنْسانَ مِن تَخَوِّفِ ما يُعابُ بِهِ ويُذَمُّ، كَذا في الكَشّافِ، وتَبِعَهُ الرّازِيُّ في مَفاتِيحِ الغَيْبِ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: أصْلُ الِاسْتِحْياءِ الِانْقِباضُ عَنِ الشَّيْءِ والِامْتِناعُ مِنهُ خَوْفًا مِن مُواقَعَةِ القَبِيحِ، وهَذا مُحالٌ عَلى اللَّهِ انْتَهى. وقَدِ اخْتَلَفُوا في تَأْوِيلِ ما في هَذِهِ الآيَةِ مِن ذِكْرِ الحَياءِ فَقِيلَ: ساغَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ واقِعًا في الكَلامِ المَحْكِيِّ عَنِ الكُفّارِ، وقِيلَ: هو مِن بابِ المُشاكَلَةِ كَما تَقَدَّمَ، وقِيلَ: هو جارٍ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. قالَ في الكَشّافِ: مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ العَبْدِ وأنَّهُ لا يَرُدُّ يَدَيْهِ صِفْرًا مِن عَطائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَن يَتْرُكُ رَدَّ المُحْتاجِ إلَيْهِ حَياءً مِنهُ انْتَهى. وقَدْ قَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ ويَسْتَحِي بِياءٍ واحِدَةٍ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ وبَكْرِ بْنِ وائِلٍ، نُقِلَتْ فِيها حَرَكَةُ الياءِ الأُولى إلى الحاءِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلى الثّانِيَةِ فَسَكَنَتْ، فَحُذِفَتْ إحْداهُما لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وضَرْبُ المَثَلِ: اعْتِمادُهُ وصُنْعُهُ. وما في قَوْلِهِ: ما بَعُوضَةً إبْهامِيَّةٌ أيْ مُوجِبَةٌ لِإبْهامِ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتّى يَصِيرَ أعَمَّ مِمّا كانَ عَلَيْهِ وأكْثَرَ شُيُوعًا في أفْرادِهِ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: مَثَلًا وبَعُوضَةً نَعْتٌ لَها لِإبْهامِها، قالَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وثَعْلَبٌ، وقِيلَ: إنَّها زائِدَةٌ، و( بَعُوضَةً ) بَدَلٌ مِن مَثَلٍ. ونَصْبُ بَعُوضَةٍ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ ظاهِرٌ، وقِيلَ: إنَّها مَنصُوبَةٌ بِنَزْعِ الخافِضِ، والتَّقْدِيرُ: أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَيْنَ بَعُوضَةٍ فَحَذَفَ لَفْظَ بَيْنَ. وقَدْ رُوِيَ هَذا عَنِ الكِسائِيِّ، وقِيلَ: إنْ يَضْرِبْ بِمَعْنى يَجْعَلُ فَتَكُونُ ( بَعُوضَةً ) المَفْعُولَ الثّانِي. وقَرَأ الضَّحّاكُ وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ ورُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ " بَعُوضَةٌ " بِالرَّفْعِ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. قالَ أبُو الفَتْحِ: وجْهُ ذَلِكَ أنَّ ما اسْمٌ بِمَنزِلَةِ الَّذِي، وبَعُوضَةٌ رُفِعَ عَلى إضْمارِ المُبْتَدَأِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ما اسْتِفْهامِيَّةً كَأنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾ حَتّى لا يُضْرَبَ المَثَلُ بِهِ، بَلْ يُدانُ لِمَثَلٍ بِما هو أقَلُّ مِن ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، والبَعُوضَةُ فَعُولَةٌ مِن بَعَضَ: إذا قَطَعَ، يُقالُ: بَعَضَ وبَضَعَ بِمَعْنًى، والبَعُوضُ: البَقُّ، الواحِدَةُ بَعُوضَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِصِغَرِها قالَهُ الجَوْهَرِيُّ وغَيْرُهُ. وقَوْلُهُ: فَما فَوْقَها قالَ الكِسائِيُّ وأبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُما. فَما فَوْقَها واللَّهُ أعْلَمُ ما دُونَها، أيْ أنَّها فَوْقَها في الصِّغَرِ كَجَناحِها. قالَ الكِسائِيُّ: وهَذا كَقَوْلِكَ في الكَلامِ أتَراهُ قَصِيرًا فَيَقُولُ القائِلُ: أوْ فَوْقَ ذَلِكَ أيْ أقْصَرُ مِمّا تَرى. ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ فَما زادَ عَلَيْها في الكِبَرِ. وقَدْ قالَ بِذَلِكَ جَماعَةٌ. قَوْلُهُ: فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا أمّا حَرْفٌ فِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ، وقَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ بِمَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ فَكَذا. وذَكَرَ صاحِبُ الكَشّافِ أنَّ فائِدَتَهُ في الكَلامِ أنَّهُ يُعْطِيهِ فَضْلَ تَوْكِيدٍ وجَعَلَ تَقْدِيرَ سِيبَوَيْهِ دَلِيلًا عَلى ذَلِكَ. والضَّمِيرُ في أنَّهُ راجِعٌ إلى المَثَلِ. والحَقُّ الثّابِتُ، وهو المُقابِلُ لِلْباطِلِ والحَقُّ واحِدُ الحُقُوقِ، والمُرادُ هُنا الأوَّلُ. وقَدِ اخْتَلَفَ النُّحاةُ في " ماذا " فَقِيلَ: هي بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ بِمَعْنى: أيُّ شَيْءٍ أرادَ اللَّهُ، فَتَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأرادَ. قالَ ابْنُ كَيْسانَ: وهو الجَيِّدُ. وقِيلَ: ما اسْمٌ تامٌّ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وذا بِمَعْنى الَّذِي، وهو خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَعَ صِلَتِهِ، وجَوابُهُ يَكُونُ عَلى الأوَّلِ مَنصُوبًا وعَلى الثّانِي مَرْفُوعًا. والإرادَةُ نَقِيضُ الكَراهَةِ، وقَدِ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ إطْلاقُ هَذا اللَّفْظِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ. ومَثَلًا قالَ ثَعْلَبٌ: مَنصُوبٌ عَلى القَطْعِ، والتَّقْدِيرُ: أرادَ مَثَلًا. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: هو مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ الَّذِي وقَعَ مَوْقِعَ الحالِ، وهَذا أقْوى مِنَ الأوَّلِ. وقَوْلُهُ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ هو كالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ المُصَدَّرَتَيْنِ بِأمّا، فَهو خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وقِيلَ: هو حِكايَةٌ لِقَوْلِ الكافِرِينَ كَأنَّهم قالُوا: ما مُرادُ اللَّهِ بِهَذا المَثَلِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ النّاسَ إلى ضَلالَةٍ وإلى هُدًى ؟ ولَيْسَ هَذا بِصَحِيحٍ، فَإنَّ الكافِرِينَ لا يُقِرُّونَ بِأنَّ في القُرْآنِ شَيْئًا مِنَ الهِدايَةِ، ولا يَعْتَرِفُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الضَّلالَةِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: ولا خِلافَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ مِن كَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وقَدْ نَقَّحَ البَحْثَ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِهِ مَفاتِيحِ الغَيْبِ في هَذا المَوْضِعِ تَنْقِيحًا نَفِيسًا، وُجَوَّدَهُ وطَوَّلَهُ وأوْضَحَ فُرُوعَهُ وأُصُولَهُ، فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ فَإنَّهُ مُفِيدٌ جِدًّا. وأمّا صاحِبُ الكَشّافِ فَقَدِ اعْتَمَدَ هاهُنا عَلى عَصاهُ الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْها في تَفْسِيرِهِ، فَجَعَلَ إسْنادَ الإضْلالِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا، فَهو مِنَ الإسْنادِ المَجازِيِّ إلى مُلابِسٍ لِلْفاعِلِ الحَقِيقِيِّ. وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنْ أهْلِ الحَقِّ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: يُضِلُّ يَخْذُلُ. والفِسْقُ: الخُرُوجُ عَنِ الشَّيْءِ، يُقالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ: إذا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرِها. والفَأْرَةُ مِن جُحْرِها، ذَكَرَ مَعْنى هَذا الفَرّاءُ. وقَدِ اسْتَشْهَدَ أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبارِيِّ في كِتابِ الزّاهِرِ لَهُ عَلى مَعْنى الفِسْقِ بِقَوْلِ رُؤْبَةَ بْنِ العَجّاجِ: ؎يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غائِرا فَواسِقًا عَنْ قَصْدِها جَوائِرا وقَدْ زَعَمَ ابْنُ الأعْرابِيِّ أنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ في كَلامِ الجاهِلِيَّةِ ولا في شِعْرِهِمْ فاسِقًا، وهَذا مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ حَكى ذَلِكَ عَنِ العَرَبِ وأنَّهُ مِن كَلامِهِمْ جَماعَةٌ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ كابْنِ فارِسٍ والجَوْهَرِيِّ وابْنِ الأنْبارِيِّ وغَيْرِهِمْ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «خَمْسُ فَواسِقَ» الحَدِيثَ. وقالَ في (p-٤١)الكَشّافِ: الفِسْقُ الخُرُوجُ عَنِ القَصْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَجُزَ بَيْتِ رُؤْبَةَ المَذْكُورِ، ثُمَّ قالَ: والفاسِقُ في الشَّرِيعَةِ: الخارِجُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ بِارْتِكابِ الكَبِيرَةِ انْتَهى. وقالَ القُرْطُبِيُّ: والفِسْقُ في عُرْفِ الِاسْتِعْمالِ الشَّرْعِيِّ: الخُرُوجُ مِن طاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَقَدْ يَقَعُ عَلى مَن خَرَجَ بِكُفْرٍ وعَلى مَن خَرَجَ بِعِصْيانٍ انْتَهى. وهَذا هو أنْسَبُ بِالمَعْنى اللُّغَوِيِّ، ولا وجْهَ لِقَصْرِهِ عَلى بَعْضِ الخارِجِينَ دُونَ بَعْضٍ. قالَ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِهِ: واخْتَلَفَ أهْلُ القِبْلَةِ هَلْ هو مُؤْمِنٌ أوْ كافِرٌ ؟ فَعِنْدَ أصْحابِنا أنَّهُ مُؤْمِنٌ، وعِنْدَ الخَوارِجِ أنَّهُ كافِرٌ، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ لا مُؤْمِنٌ ولا كافِرٌ، واحْتَجَّ المُخالِفُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾ [الحجرات: ١١] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧] وقَوْلِهِ: ﴿حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ﴾ [الحجرات: ٧] وهَذِهِ المَسْألَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ الكَلامِ انْتَهى. وقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍّ وصْفًا لِلْفاسِقِينَ. والنَّقْضُ: إفْسادُ ما أُبْرِمَ مِن بِناءٍ أوْ حَبْلٍ أوْ عَهْدٍ، والنُّقاضَةُ: ما نُقِضَ مِن حَبْلِ الشَّعْرِ. والعَهْدُ: قِيلَ: هو الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهم مِن ظَهْرِهِ، وقِيلَ: هو وصِيَّةُ اللَّهِ إلى خَلْقِهِ وأمْرُهُ إيّاهم بِما أمَرَهم بِهِ مِن طاعَتِهِ ونَهْيُهُ إيّاهم عَمّا نَهاهم عَنْهُ مِن مَعْصِيَتِهِ في كُتُبِهِ عَلى ألْسُنِ رُسُلِهِ، ونَقْضُهم ذَلِكَ: تَرْكُ العَمَلِ بِهِ، وقِيلَ: بَلْ هو نَصْبُ الأدِلَّةِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ بِالسَّماواتِ والأرْضِ وسائِرِ مَخْلُوقاتِهِ، ونَقْضُهُ: تَرْكُ النَّظَرِ فِيهِ، وقِيلَ: هو ما عَهِدَهُ إلى الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ. والمِيثاقُ: العَهْدُ المُؤَكَّدُ بِاليَمِينِ مِفْعالٌ مِنَ الوِثاقَةِ وهي الشِّدَّةُ في العَقْدِ والرَّبْطِ، والجَمْعُ المَواثِيقُ والمَياثِيقُ، وأنْشَدَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: ؎حِمًى لا يُحَلُّ الدَّهْرَ إلّا بِإذْنِنا ∗∗∗ ولا نَسْألُ الأقْوامَ عَهْدَ المَياثِقِ واسْتِعْمالُ النَّقْضِ في إبْطالِ العَهْدِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ. والقَطْعُ مَعْرُوفٌ، والمَصْدَرُ في الرَّحِمِ القَطِيعَةُ، وقَطَعْتُ الحَبْلَ قَطْعًا، وقَطَعْتُ النَّهْرَ قَطْعًا. و" ما " في قَوْلِهِ: ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ يَقْطَعُونَ وأنْ يُوصَلَ في مَحَلِّ نَصْبٍّ بِأمَرَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن " ما "، أوْ مِنَ الهاءِ في " بِهِ " . واخْتَلَفُوا ما هو الشَّيْءُ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ: فَقِيلَ: الأرْحامُ، وقِيلَ: أمَرَ أنْ يُوصَلَ القَوْلُ بِالعَمَلِ، وقِيلَ: أمَرَ أنْ يُوصَلَ التَّصْدِيقُ بِجَمِيعِ شَرائِعِهِ وحُدُودِهِ الَّتِي أمَرَ في كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ وعَلى ألْسُنِ رُسُلِهِ بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها فَهي عامَّةٌ، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ وهو الحَقُّ. والمُرادُ بِالفَسادِ في الأرْضِ الأفْعالُ والأقْوالُ المُخالِفَةُ لِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَعِبادَةِ غَيْرِهِ والإضْرارِ بِعِبادِهِ وتَغْيِيرِ ما أمَرَ بِحِفْظِهِ، وبِالجُمْلَةِ فَكُلُّ ما خالَفَ الصَّلاحَ شَرْعًا أوْ عَقْلًا فَهو فَسادٌ. والخُسْرانُ: النُّقْصانُ، والخاسِرُ، هو الَّذِي نَقَصَ نَفْسَهُ مِنَ الفَلاحِ والفَوْزِ، وهَؤُلاءِ لَمّا اسْتَبْدَلُوا النَّقْضَ بِالوَفاءِ والقَطْعَ بِالوَصْلِ كانَ عَمَلُهم فَسادًا لِما نَقَصُوا أنْفُسَهم مِنَ الفَلاحِ والرِّبْحِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ قالَ: لَمّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ لِلْمُنافِقِينَ قَوْلَهُ: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] وقَوْلَهُ: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] قالَ المُنافِقُونَ: اللَّهُ أعْلى وأجَلُّ مِن أنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الأمْثالَ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ الواحِدِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ آلِهَةَ المُشْرِكِينَ فَقالَ: ﴿وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا﴾ [الحج: ٧٣] وذَكَرَ كَيْدَ الآلِهَةِ فَجَعَلَهُ كَبَيْتِ العَنْكَبُوتِ، فَقالُوا: أرَأيْتَ حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ الذُّبابَ والعَنْكَبُوتَ فِيما أنْزَلَ مِنَ القُرْآنِ عَلى مُحَمَّدٍ، أيُّ شَيْءٍ كانَ يَصْنَعُ بِهَذا ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي﴾ [الحج: ٧٣] وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿ياأيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ قالَ المُشْرِكُونَ: ما هَذا مِنَ الأمْثالِ فَيُضْرَبُ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ قالَ: يُؤْمِنُ بِهِ المُؤْمِنُ، ويَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ ويَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهِ، ويَعْرِفُهُ الفاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ في قَوْلِهِ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يَعْنِي المُنافِقِينَ ﴿ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يَعْنِي المُؤْمِنِينَ ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ قالَ: هُمُ المُنافِقُونَ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ قالَ: هو ما عَهِدَ إلَيْهِمْ في القُرْآنِ فَأقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا فَنَقَضُوهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ يَقُولُ: يَعْرِفُهُ الكافِرُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقاصٍّ قالَ: الحَرُورِيَّةُ هُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ، وكانَ يُسَمِّيهِمُ الفاسِقِينَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ما نَعْلَمُ اللَّهَ أوْعَدَ في ذَنْبٍ ما أوْعَدَ في نَقْضِ هَذا المِيثاقِ، فَمَن أعْطى عَهْدَ اللَّهِ ومِيثاقَهُ مِن ثَمَرَةِ قَلْبِهِ فَلْيُوفِ بِهِ اللَّهُ. وقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في أحادِيثَ ثابِتَةٍ في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ مِن طَرِيقِ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ النَّهْيُ عَنْ نَقْضِ العَهْدِ والوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ قالَ: الرَّحِمُ والقُرابَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾ قالَ: يَعْمَلُونَ فِيها بِالمَعْصِيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُقاتِلٍ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ يَقُولُ: هم أهْلُ النّارِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كُلُّ شَيْءٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إلى غَيْرِ أهْلِ الإسْلامِ مِثْلِ خاسِرٍ ومُسْرِفٍ وظالِمٍ ومُجْرِمٍ وفاسِقٍ فَإنَّما يَعْنِي بِهِ الكُفْرَ، وما نَسَبَهُ إلى أهْلِ الإسْلامِ فَإنَّما يَعْنِي بِهِ الذَّمَّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب