الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا ذَلِكم تُوعَظُونَ بِهِ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ (p-٢٤٦)اخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ فَقالَ قَوْمٌ: المَعْنى: والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: والَّذِينَ كانَ الظِهارُ عادَتَهم ثُمَّ يَعُودُونَ إلى ذَلِكَ في الإسْلامِ، وقالَهُ القَتْبِيُّ، وقالَ أهْلُ الظاهِرِ: المَعْنى: والَّذِينَ يُظاهِرُونَ ثُمَّ يُظاهِرُونَ ثانِيَةً، فَلا تَلْزَمُ عِنْدَهم كَفّارَةٌ إلّا بِأنْ يُعِيدَ الرَجُلُ التَظاهُرَ، قالَهُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: حِينَئِذٍ هو عائِدٌ إلى القَوْلِ الَّذِي هو مُنْكَرٌ وزُورٌ، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وإنْ كانَ القُشَيْرِيُّ قَدْ حَكاهُ عن بِكِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الأشَجِّ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: في هَذِهِ الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وتَقْدِيرُها: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِما قالُوا"، وهَذا أيْضًا قَوْلٌ يُفْسِدُ نَظْمَ الآيَةِ، وحُكِيَ عَنِ الأخْفَشِ لَكِنَّهُ غَيْرُ قَوِيٍّ، وقالَ قَتادَةُ، وطاوُسٌ، ومالِكٌ، والزَهْرِيُّ، وجَماعَةٌ كَبِيرَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ مَعْنى:" ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا" أيْ: بِالوَطْءِ، المَعْنى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إنَّهم لا يَعُودُونَ إلَيْهِ فَإذا ظاهَرَ الرَجُلُ ثُمَّ وطِئَ فَحِينَئِذٍ تَلْزَمُهُ الكَفّارَةُ في ذِمَّتِهِ وإنْ طَلَّقَ أو ماتَتِ امْرَأتُهُ، وقالَ الشافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ أيْضًا، وفَرِيقٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: "يَعُودُونَ" مَعْناهُ: بِالعَزْمِ عَلى إمْساكِ الزَوْجَةِ ووَطْئِها والتِزامِ التَكْفِيرِ لِذَلِكَ، فَمَتى وقَعَ مِنَ المَظاهِرِ هَذا العَزْمُ لَزِمَتِ الكَفّارَةُ ذِمَّتَهُ، طَلَّقَ أو ماتَتِ امْرَأتُةُ، وهَذانَ القَوْلانِ في مَذْهَبِ مالِكٍ، وهُما حَسَنانِ، لَزِمَتِ الكَفّارَةُ فِيهِما بِشَرْطَيْنِ: ظِهارٌ وعَوْدٌ واخْتُلِفَ في "العُودِ"، ما هُوَ؟ وقالَ الشافِعِيُّ: العَوْدُ المُوجِبُ لِلْكَفّارَةِ أنْ يُمْسِكَ عن طَلاقِها بَعْدَ الظِهارِ، ويَمْضِي -بَعْدَ الظِهارِ- ما يُمْكِنُهُ أنْ يُطَلِّقَ فِيهِ فَلا يُطَلِّقُ. و"الرَقَبَةُ" في الظِهارِ لا تَكُونُ عِنْدَ مالِكٍ إلّا مُؤْمِنَةً، رَدَّ هَذا المُطْلَقَ إلى المُقَيَّدِ الَّذِي في كَفّارَةِ القَتْلِ الخَطَأِ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ فَقالَ الحَسَنُ، والثَوْرِيُّ، وجَماعَةٌ: مِن قَبْلِ الوَطْءِ، وجَعَلَتِ المَسِيسَ هاهُنا: الوَطْءُ، فَأباحَتْ لِلْمَظاهِرِ التَقْبِيلَ والمُضاجَعَةَ والِاسْتِمْتاعَ بِأعْلى المَرْأةِ كالحَيْضِ، وقالَ الجُمْهُورُ مِن أهْلِ العِلْمِ: "مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا" عامٌّ في نَوْع المَسِيسِ: الوَطْءُ والمُباشَرَةُ، فَلا يَجُوزُ لِمُظاهِرٍ أنْ يَطَأ ولا يُقَبِّلَ ولا يَلْمِسَ بِيَدِهِ ولا يَفْعَلَ شَيْئًا مِن هَذا النَوْعِ إلّا بَعْدَ الكَفّارَةِ، وهَذا قَوْلُ مالِكٍ (p-٢٤٧)رَحِمَهُ اللهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: "ذلِكُمْ" إشارَةٌ إلى "التَحْرِيرِ"، أيْ: فِعْلُ ذَلِكَ عِظَةٌ لَكم لِتَنْتَهُوا عَنِ الظِهارِ. و"المُتَتابِع" في الشَهْرَيْنِ صِيامُهُما، ولا يُفَرِّقُ بَيْنَ أيّامِهِما، وجائِزٌ أنْ يَصُومَهُما الرَجُلُ بِالعَدَدِ فَيَصُومُ سِتِّينَ يَوْمًا تِباعًا، وجائِزٌ أنْ يَصُومَهُما بِالأهِلَّةِ، يَبْدَأُ مَعَ الهِلالِ ويُفْطِرُ مَعَ الهِلالِ، وإنْ جاءَ أحَدُ شَهْرَيْهِ ناقِصًا،فَذَلِكَ يُجْزِئُ عنهُ، وجائِزٌ إنْ بَدَأ صَوْمُهُ في وسَطِ شَهْرَيْنِ بِبَعْضِ الشَهْرِ الأوَّلِ فَيَصُومُ إلى الهِلالِ، ثُمَّ يَصُومُ شَهْرًا بِالهِلالِ، ثُمَّ يَتِمُّ الشَهْرُ الأوَّلُ بِالعَدَدِ، ولا أحْفَظُهُ خِلافًا مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ الصائِمَ في الظِهارِ إنْ أفْسَدَ التَتابُعَ بِاخْتِيارِهِ أنَّهُ يُبْتَدَأُ صَوْمُها، واخْتَلَفَ الناسُ إذا أفْسَدَهُ لِعُذْرٍ غالِبٍ كالمَرَضِ والنِسْيانِ ونَحْوَهُ، فَقالَ أصْحابُ الرَأْيِ والشافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، والنَخْعِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، والثَوْرِيُّ: يَبْتَدِئُ، وقالَ مالِكٌ، والشافِعِيُّ، وغَيْرُهُ: يَبْنِي، وأجْمَعُوا عَلى الحائِضِ وأنَّها تَبْنِي في صَوْمِها التَتابُعَ. وإطْعامُ المَساكِينِ في الظِهارِ هو بِالمَدِّ الهاشِمِيِّ عِنْدَ مالِكٍ، وهو مَدٌّ وثُلْثٌ بِمَدِّ النَبِيِّ ﷺ، وقِيلَ مُدّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ، ورَوى عنهُ ابْنُ وهْبٍ أنَّهُ يُطْعِمُ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَبِيِّ ﷺ، وفي العُلَماءِ مَن يَرى إطْعامَ الظِهارِ مُدًّا بِمُدِّ النَبِيِّ ﷺ، ولا يُجْزِئُ في إطْعامِ الظِهارِ إلّا إكْمالُ عَدَدِ المَساكِينِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُطْعِمَ ثَلاثِينَ مَرَّتَيْنِ ولا ما أشْبَهَهُ، والطَعامُ هو غالِبُ قُوتِ البَلَدِ. وقالَ مالِكٌ، وعَطاءٌ وغَيْرُهُ: إطْعامُ المَساكِينِ أيْضًا هو قَبْلَ التِماسٍ حَمْلًا عَلى العِتْقِ والصَوْمِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وجُمْهُورٌ مِن أهْلِ العِلْمِ لَمْ يَنُصَّ اللهُ تَعالى عَلى الشَرْطِ هُنا فَنَحْنُ نَلْتَزِمُهُ، فَجازَ ولِلْمُظاهِرِ إذا كانَ مِن أهْلِ الإطْعامِ أنْ يَطَأ قَبْلَ الكَفّارَةِ ويَسْتَمْتِعَ. وقَوْلُهُ تَعالى: "ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا" إشارَةٌ إلى الرُخْصَةِ والتَسْهِيلِ في النَقْلِ مِنَ التَحْرِيرِ إلى الصَوْمِ والإطْعامِ ثُمَّ شَدَّدَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾، أيْ: فالتَزَمُوها وقَفُوا عِنْدَها، ثُمَّ تَوَعَّدَ الكافِرِينَ بِهَذا الحَدِيثِ والحُكْمِ الشَرْعِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب