الباحث القرآني

﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ . رُخْصَةٌ لِمَن لَمْ يَجِدْ عِتْقَ رَقَبَةٍ أنْ يَنْتَقِلَ إلى صِيامِ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَجِدْ (p-٢٠)رَقَبَةً يَعْتاضُ بِفَكِّها عَنْ فَكِّ عِصْمَةِ الزَّوْجَةِ نُقِلَ إلى كَفّارَةٍ فِيها مَشَقَّةُ النَّفْسِ بِالصَّبْرِ عَلى لَذَّةِ الطَّعامِ والشَّرابِ لِيَدْفَعَ ما التَزَمَهُ بِالظِّهارِ مِن مَشَقَّةِ الصَّبْرِ عَلى ابْتِعادِ حَلِيلَتِهِ فَكانَ الصَّوْمُ دَرَجَةً ثانِيَةً قَرِيبَةً مِن دَرَجَةِ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ في المُناسَبَةِ. وأُعِيدَ قَيْدُ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣] لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يَكُونُ المَسُّ إلّا بَعْدَ انْقِضاءِ الصِّيامِ فَلا يَظُنُّ أنَّ مُجَرَّدَ شُرُوعِهِ في الصِّيامِ كافٍ في العَوْدِ إلى الِاسْتِمْتاعِ. ﴿فَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ﴾، أيْ: لِعَجْزِهِ أوْ ضَعْفِهِ رَخَّصَ اللَّهَ لَهُ أنْ يَنْتَقِلَ إلى إطْعامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِوَضًا عَنِ الصِّيامِ، فالإطْعامُ دَرَجَةٌ ثالِثَةٌ يَدْفَعُ عَنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ألَمَ الجُوعِ عِوَضًا عَمّا كانَ التَزَمَهُ عَلى نَفْسِهِ مِن مَشَقَّةِ الِابْتِعادِ عَنْ لَذّاتِهِ، وإنَّما حُدِّدَتْ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا إلْحاقًا لِهَذا بِكَفّارَةِ فِطْرِ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ عَمْدًا بِجامِعِ أنَّ كِلَيْهِما كَفّارَةٌ عَنْ صِيامٍ فَكانَتِ الكَفّارَةُ مُتَناسِبَةً مَعَ المُكَفَّرِ عَنْهُ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا مُناسِبًا. وقَدْ أُجْمِلَ مِقْدارُ الطَّعامِ في الآيَةِ اكْتِفاءً بِتَسْمِيَتِهِ إطْعامًا فَيُحْمَلُ عَلى ما يَقْصِدُهُ النّاسُ مِنَ الطَّعامِ وهو الشِّبَعُ الواحِدُ كَما هو المُتَعارَفُ في فِعْلِ طَعِمَ. فَحَمَلَهُ عُلَماؤُنا عَلى ما بِهِ شِبَعُ الجائِعِ، فَيُقَدَّرُ في كُلِّ قَوْمٍ بِحَسْبِ ما بِهِ شِبَعُ مُعْتادِ الجائِعِينَ. وعَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في ذَلِكَ رِوايَتانِ إحْداهُما أنَّهُ مُدٌّ واحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيءِ ﷺ والثّانِيَةُ أنَّهُ مُدّانِ أوْ ما يَقْرُبُ مِنَ المُدَّيْنِ وهو مُدٌّ بِمُدِّ هِشامِ بْنِ إسْماعِيلَ المَخْزُومِيِّ أمِيرِ المَدِينَةِ وقَدْرُهُ مُدّانِ إلّا ثُلُثَ مُدٍّ قالَ أشْهَبُ: قُلْتُ لِمالِكٍ: أيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنا وعِنْدَكم ؟ قالَ: نَعَمِ الشِّبَعُ عِنْدَنا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيءِ ﷺ والشِّبَعُ عِنْدَكم أكْثَرُ أيْ: لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا لِأهْلِ المَدِينَةِ بِالبَرَكَةِ. وقَوْلُهُ هَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الإطْعامُ في المَدِينَةِ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيءِ ﷺ مِثْلُ كَفّارَةِ الفِطْرِ في رَمَضانَ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مالِكٌ مُقَدَّرًا بِمُدَّيْنِ أوْ بِمُدٍّ وثُلُثَيْنِ، وقالَ: لَوْ أطْعَمَ مُدًّا ونِصْفَ مُدٍّ أجْزَأهُ، فَتَعَيَّنَ أنَّ تَضْعِيفَ المِقْدارِ في الإطْعامِ مُراعًى فِيهِ مَعْنى العُقُوبَةُ عَلى ما صَنَعَ، وإلّا فَلا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِن نَصٍّ ولا قِياسٍ. قالَ أبُو الحَسَنِ القابِسِيُّ إنَّما أخَذَ أهْلُ المَدِينَةِ بِمُدِّ هِشامٍ في كَفّارَةِ الظِّهارِ تَغْلِيظًا عَلى المُتَظاهِرِينَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنَّهم يَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا فَهَذا مِمّا ثَبَتَ بِعَمَلِ أهْلِ المَدِينَةِ. (p-٢١)وقَدَّرَ أبُو حَنِيفَةَ الشِّبَعَ بِمُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيءِ ﷺ فَلَعَلَّهُ راعى الشِّبَعَ في مُعْظَمِ الأقْطارِ غَيْرَ المَدِينَةِ، وقَدَّرَهُ الشّافِعِيُّ بِمُدٍّ واحِدٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قِياسًا عَلى ما ثَبَتَ في السُّنَّةِ في كَفّارَةِ الإفْطارِ وكَفّارَةِ اليَمِينِ. ولَمْ يُذْكَرْ مَعَ الإطْعامِ قَيْدُ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣] اكْتِفاءً بِذِكْرِهِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وصِيامِ الشَّهْرَيْنِ ولِأنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الصِّيامِ ومُجَزَّأٌ لِمِثْلِ أيّامِ الصِّيامِ. هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ. وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ الإطْعامَ لا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُهُ مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا. ثُمَّ إنَّ وقْعَ المَسِيسِ قَبْلَ الكَفّارَةِ أوْ قَبْلَ إتْمامِها لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلى ذَلِكَ إلّا أنَّهُ آثِمٌ إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أثَرٌ آخَرُ، وهَذا ما بَيَّنَهُ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الَّذِي شَكا إلى النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ وقَعَ عَلى امْرَأتِهِ بَعْدَ أنْ ظاهَرَ مِنها، فَأمَرَهُ بِأنْ لا يَعُودَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ حَتّى يُكَفِّرَ. وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ، وقالَ مُجاهِدٌ عَلَيْهِ كَفّارَتانِ. وصَرِيحُ الآيَةِ أنَّ تَتابُعَ الصِّيامِ شَرْطٌ في التَّكْفِيرِ وعَلَيْهِ فَلَوْ أفْطَرَ في خِلالِهِ دُونَ عُذْرٍ وجَبَ عَلَيْهِ إعادَتُهُ. ولا يَمَسُّ امْرَأتَهُ حَتّى يُتِمَّ الشَّهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ، فَإنْ مَسَّها في خِلالِ الشَّهْرَيْنِ أثِمَ ووَجَبَ عَلَيْهِ إعادَةُ الشَّهْرَيْنِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا كانَ الوَطْءُ لَيْلًا لَمْ يَبْطُلِ التَّتابُعُ لِأنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وهَذا هو الجارِي عَلى القِياسِ وعَلى مُقْتَضى حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ. وأمّا كَوْنُهُ آثِمًا بِالمَسِيسِ قَبْلَ تَمامِ الكَفّارَةِ فَمَسْألَةٌ أُخْرى فَمِنَ العَجَبِ قَوْلُ أبِي بَكْرِ ابْنِ العَرَبِيِّ في كَلامِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ كَلامُ مَن لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الفِقْهِ لِأنَّ الوَطْءَ الواقِعَ في خِلالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالمَحَلِّ المَأْذُونِ فِيهِ بِالكَفّارَةِ فَإنَّهُ وطْءُ تَعَدٍّ فَلا بُدَّ مِنَ الِامْتِثالِ لِلْأمْرِ بِصَوْمٍ لا يَكُونُ في أثْنائِهِ وطْءٌ. اهـ. والمِسْكِينُ: الشَّدِيدُ الفَقْرِ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ بَراءَةٌ. والمُظاهِرُ إنْ كانَ قادِرًا عَلى بَعْضِ خِصالِ الكَفّارَةِ وأبى أنْ يُكَفِّرَ انْقَلَبَ ظِهارُهُ إيلاءً. فَإنْ لَمْ تَرْضَ المَرْأةُ بِالبَقاءِ عَلى ذَلِكَ فَلَهُ أجَلُ الإيلاءِ فَإنِ انْقَضى الأجَلُ (p-٢٢)طُلِّقَتْ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ إنْ طَلَبَتِ الطَّلاقَ. وإنْ كانَ عاجِزًا عَنْ خِصالِ الكَفّارَةَ كُلِّها كانَ كالعاجِزِ عَنِ الوَطْءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ مِنهُ فَتَبْقى العِصْمَةُ بَيْنَ المُتَظاهِرِ وامْرَأتِهِ ولا يَقْرَبُها حَتّى يُكَفِّرَ. وقَدْ أمَرَ النَّبِيءُ ﷺ بِكَفّارَةِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ مِن أمْوالِ بَيْتِ المالِ فَحَقَّ عَلى وُلاةِ الأُمُورِ أنْ يَدْفَعُوا عَنِ العاجِزِ كَفّارَةَ ظِهارِهِ، فَإنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فالظّاهِرُ أنَّ الكَفّارَةَ ساقِطَةٌ عَنْهُ، وأنَّهُ يَعُودُ إلى مَسِيسِ امْرَأتِهِ، وتَبْقى الكَفّارَةُ ذَنْبًا عَلَيْهِ في ذِمَّتِهِ لِأنَّ اللَّهَ أبْطَلَ طَلاقَ الظِّهارِ. * * * ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ . الإشارَةُ إلى ما ذَكَرَ مِنَ الأحْكامِ، أيْ ذَلِكَ المَذْكُورُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، أيْ لِتُؤْمِنُوا إيمانًا كامِلًا بِالِامْتِثالِ لِما أمَرَكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ فَلا تَشُوبُوا أعْمالَ الإيمانِ بِأعْمالِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، وهَذا زِيادَةٌ في تَشْنِيعِ الظِّهارِ. وتَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِن إيقاعِهِ فِيما بَعْدُ، أوْ ذَلِكَ النَّقْلُ مِن حَرَجِ الفِراقِ بِسَبَبِ قَوْلِ الظِّهارِ إلى الرُّخْصَةِ في عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِهِ وفي الخَلاصِ مِنهُ بِالكَفّارَةِ، لَتَيْسِيرِ الإيمانِ عَلَيْكم فَهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] . و”لِتُؤْمِنُوا“ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ. ولَمّا كانَ المُشارُ إلَيْهِ هو صِيامُ شَهْرَيْنِ أوْ إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِوَضًا عَنْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ كانَ ما عُلِّلَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُنْسَحِبًا عَلى الصِّيامِ والإطْعامِ، وما عُلِّلَ بِهِ الصِّيامُ والإطْعامُ مُنْسَحِبًا عَلى تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، فَأفادَ أنَّ كُلًّا مِن تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ وصِيامِ شَهْرَيْنِ وإطْعامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُشْتَمِلٌ عَلى كِلْتا العِلَّتَيْنِ وهُما المَوْعِظَةُ والإيمانُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ. والإشارَةُ في ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِذَلِكَ، وجِيءَ لَهُ بِاسْمِ إشارَةِ التَّأْنِيثِ نَظَرًا لِلْإخْبارِ عَنْهُ بِلَفْظِ ”حُدُودُ“ إذْ هو جَمْعٌ يَجُوزُ تَأْنِيثُ إشارَتِهِ كَما يَجُوزُ تَأْنِيثُ ضَمِيرِهِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾ [البقرة: ٢٢٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ. (p-٢٣)وجُمْلَةُ ﴿ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ تَتْمِيمٌ لِجُمْلَةِ ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾، أيْ ذَلِكَ الحُكْمُ وهو إبْطالُ التَّحْرِيمِ بِالظِّهارِ حُكْمُ الإسْلامِ. وأمّا ما كانُوا عَلَيْهِ فَهو مِن آثارِ الجاهِلِيَّةِ فَهو سُنَّةُ قَوْمٍ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ عَلى الكُفْرِ وما تَوَلَّدَ مِنهُ مِنَ الأباطِيلِ، فالظِّهارُ شَرْعُ الجاهِلِيَّةِ. وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧]، لِأنَّهُ وضَعَهُ المُشْرِكُونَ ولَمْ يَكُنْ مِنَ الحَنِيفِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب