الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِينِ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مِنَ يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مِنَ يُنِيبُ﴾ ﴿وَما تَفَرَّقُوا إلا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهم ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ إلى أجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ المَعْنى: شَرَعَ اللهُ تَعالى لَكم وبَيَّنَ مَنِ المُعْتَقَداتِ والتَوْحِيدِ ما وصّى بِهِ نُوحًا قَبْلُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "والَّذِي"﴾ عَطْفٌ عَلى "ما"، وكَذَلِكَ ما ذُكِرَ بَعْدَ مِن إقامَةُ الدِينِ مَشْرُوعٌ اتَّفَقَتِ النُبُوّاتُ فِيهِ، وذَلِكَ في المُعْتَقَداتِ أو في جُمْلَةِ أمْرِها مِن أنَّ كُلَّ نُبُوَّةٍ فَإنَّما مُضَمَّنُها مُعْتَقَداتٌ وأحْكامٌ، فَيَجِيءُ المَعْنى عَلى هَذا: شَرَعَ لَكم شِرْعَةً هي كَشِرْعَةِ نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى عَلَيْهِمُ السَلامُ في أنَّها ذاتِ المُعْتَقَداتِ المَشْهُورَةِ الَّتِي هي في كُلِّ نُبُوءَةٍ، وذاتُ أحْكامٍ كَما كانَتْ تِلْكَ كُلُّها، وعَلى هَذا يَتَخَرَّجُ ما حَكاهُ الطَبَرِيُّ عن قَتادَةَ، فَقالَ: ﴿ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ يُرِيدُ: الحَلالُ والحَرامُ، وعَلَيْهِ رَوِيٌّ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَلامُ أوَّلُ مَن أتى بِتَحْرِيمِ البَناتِ والأُمَّهاتِ، وأمّا الأحْكامُ بِانْفِرادِها فَهي في الشَرائِعِ مُخْتَلِفَةٌ، وهي المُرادُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، و"أنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ أقِيمُوا الدِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعٍ نَصُبُّ بَدَلًا مِن "ما"، ويَجُوزُ في مَوْضِعٍ خَفَّضَ بَدَلًا مِنَ الضَمِيرِ في "بِهِ"، أو في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ (p-٥٠٦)أنْ، و[يَجُوزُ] أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً بِمَعْنى: "أيْ" لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، و"إقامَةُ الدِينِ" هو تَوْحِيدُ اللهِ تَعالى ورَفَضَ ما سِواهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا﴾ نَهْيٌ عَنِ المُهْلِكِ مِن تَفَرُّقِ الأنْحاءِ والمَذاهِبِ، والخَيْرُ كُلُّهُ في الأُلْفَةِ واجْتِماعِ الكَلِمَةِ، ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ بِصُعُوبَةِ مَوْقِعِ هَذِهِ الدَعْوَةِ إلى إقامَةِ الدِينِ عَلى المُشْرِكِينَ بِاللهِ تَعالى العابِدِينَ الأصْنامَ. قالَ قَتادَةُ: كُبُرَتْ عَلَيْهِمْ: "لا إلَهَ إلّا اللهَ"، وأبى اللهُ تَعالى إلّا نَصْرَها وإظْهارَها، ثُمَّ سَلّاهُ تَعالى عنهم بِقَوْلِهِ: ﴿اللهُ يَجْتَبِي﴾ أيْ: يَخْتارُ ويَصْطَفِي، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: و"يُنِيبُ" مَعْناهُ: يَرْجِعُ عَنِ الكُفْرِ ويَحْرِصُ عَلى الخَيْرِ ويَطْلُبُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا﴾: عِبارَةٌ يَجْمَعُ خِطابُها كُفّارَ العَرَبِ واليَهُودِ والنَصارى وكُلِّ مَدْعُوٍّ إلى الإسْلامِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ أنْ يُقالَ: "ما تَفَرَّقُوا"، يَعْنِي بِذَلِكَ: أوائِلَ اليَهُودِ والنَصارى، والعِلْمَ الَّذِي جاءَهم هو ما كانَ حَصَلَ في نُفُوسِهِمْ مِن عِلْمِ كُتِبِ اللهِ تَعالى، فَبَغى بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، وأدّاهُمُ ذَلِكَ إلى الِاخْتِلافِ في الرَأْيِ، و"الكَلِمَةُ السابِقَةُ" قالَ المُفَسِّرُونَ: هي حَتْمُهُ تَعالى القَضاءَ بِأنَّ مُجازاتَهم إنَّما تَقَعُ في الآخِرَةِ، فَلَوْلا ذَلِكَ لَفَصَلَ بَيْنِهِمْ في الدُنْيا وغُلِّبَ المُحِقُّ عَلى المُبْطِلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ﴾ إشارَةٌ إلى مُعاصِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ اليَهُودِ والنَصارى، وقِيلَ: هي إشارَةٌ إلى العَرَبِ، و"الكِتابُ": هو القُرْآنُ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُعَوِّدَ عَلى "الكِتابَ، أو عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أو عَلى "الأجَلِ المُسَمّى"، أيْ: في شَكٍّ مِنَ البَعْثِ عَلى قَوْلِ مَن رَأى الإشارَةَ إلى العَرَبِ، ووَصْفُ الشَكِّ بِـ "مُرِيبٍ" مُبالَغَةٌ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب