الباحث القرآني

الخِطابُ في قَوْلِهِ: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ﴾ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أيْ: بَيَّنَ وأوْضَحَ لَكم مِنَ الدِّينِ ﴿ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ مِنَ التَّوْحِيدِ ودِينِ الإسْلامِ وأُصُولِ الشَّرائِعِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ فِيها الرُّسُلُ وتَوافَقَتْ عَلَيْها الكُتُبُ، ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ مِنَ القُرْآنِ وشَرائِعِ الإسْلامِ والبَراءَةِ مِنَ الشِّرْكِ، والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالمَوْصُولِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وخَصَّ ما شَرَعَهُ لِنَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالإيحاءِ مَعَ كَوْنِ ما بَعْدَهُ وما قَبْلَهُ مَذْكُورًا بِالتَّوْصِيَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِرِسالَتِهِ ﴿وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى﴾ مِمّا تَطابَقَتْ عَلَيْهِ الشَّرائِعُ. ثُمَّ بَيَّنَ ما وصّى بِهِ هَؤُلاءِ فَقالَ: ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ﴾ أيْ: تَوْحِيدَ اللَّهِ والإيمانَ بِهِ وطاعَةَ رُسُلِهِ وقَبُولَ شَرائِعِهِ، وأنْ هي المَصْدَرِيَّةُ، وهي وما بَعْدَها في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما ذَلِكَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ ؟ فَقِيلَ: هو إقامَةُ الدِّينِ، أوْ هي في مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ المَوْصُولِ، أوْ في مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ الدِّينِ، أوْ هي المُفَسِّرَةُ؛ لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَها فِيهِ مَعْنى القَوْلِ. قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي: أنَّهُ شَرَعَ لَكم، ولِمَن قَبْلَكم مِنَ الأنْبِياءِ دِينًا واحِدًا قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي التَّوْحِيدَ. قالَ مُجاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إلّا وصّاهُ بِإقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والإقْرارِ لِلَّهِ بِالطّاعَةِ، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهم. وقالَ قَتادَةُ: يَعْنِي تَحْلِيلَ الحَلالِ وتَحْرِيمَ الحَرامِ، وخُصَّ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى بِالذِّكْرِ مَعَ نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لِأنَّهم أرْبابُ الشَّرائِعِ. ثُمَّ لَمّا أمَرَهم - سُبْحانَهُ - بِإقامَةِ الدِّينِ، نَهاهم عَنِ الِاخْتِلافِ فِيهِ فَقالَ: ﴿ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ أيْ: لا تَخْتَلِفُوا في التَّوْحِيدِ والإيمانِ بِاللَّهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ وقَبُولِ شَرائِعِهِ، فَإنَّ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ تَطابَقَتْ عَلَيْها الشَّرائِعُ وتَوافَقَتْ فِيها الأدْيانُ، فَلا يَنْبَغِي الخِلافُ في مِثْلِها، ولَيْسَ مِن هَذا فُرُوعُ المَسائِلِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيها الأدِلَّةُ وتَتَعارَضُ فِيها الأماراتُ وتَتَبايَنُ فِيها الأفْهامُ، فَإنَّها مِن مَطارِحِ الِاجْتِهادِ ومَواطِنِ الخِلافِ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّ ما شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ شَقَّ عَلى المُشْرِكِينَ فَقالَ: ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ أيْ: عَظُمَ وشَقَّ عَلَيْهِمْ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ورَفْضِ الأوْثانِ. قالَ قَتادَةُ: كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ وضاقَ بِها إبْلِيسُ وجُنُودُهُ، فَأبى اللَّهُ إلّا أنْ يَنْصُرَها ويُعْلِيَها ويُظْهِرَها ويُظْفِرَها عَلى مَن ناوَأها. ثُمَّ خَصَّ أوْلِياءَهُ فَقالَ: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: يَخْتارُ، والِاجْتِباءُ الِاخْتِيارُ، والمَعْنى: يَخْتارُ لِتَوْحِيدِهِ والدُّخُولِ في دِينِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ﴿ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ أيْ: يُوَفِّقُ لِدِينِهِ ويَسْتَخْلِصُ لِعِبادَتِهِ مَن يَرْجِعُ إلى طاعَتِهِ ويُقْبِلُ إلى عِبادَتِهِ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما شَرَعَهُ لَهم مِن إقامَةِ الدِّينِ وعَدَمِ التَّفَرُّقِ فِيهِ ذَكَرَ ما وقَعَ في التَّفَرُّقِ والِاخْتِلافِ فَقالَ: ﴿وما تَفَرَّقُوا إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ أيْ: ما تَفَرَّقُوا إلّا عَنْ عِلْمٍ بِأنَّ الفُرْقَةَ ضَلالَةٌ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ التَّفَرُّقَ لِلْبَغْيِ بَيْنَهم بِطَلَبِ الرِّياسَةِ وشِدَّةِ الحَمِيَّةِ، قِيلَ: المُرادُ قُرَيْشٌ هُمُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ ما جاءَهُمُ العِلْمُ، وهو مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بَغْيًا مِنهم عَلَيْهِ، وقَدْ كانُوا يَقُولُونَ ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم (p-١٣٢٥)بِقَوْلِهِ: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهم نَذِيرٌ﴾ الآيَةَ، [فاطر: ٤٢] وبِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وقِيلَ: المُرادُ أُمَمُ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، وأنَّهم فِيما بَيْنَهُمُ اخْتَلَفُوا لَمّا طالَ بِهِمُ المَدى فَآمَنَ قَوْمٌ وكَفَرَ قَوْمٌ، وقِيلَ: اليَهُودُ والنَّصارى خاصَّةً كَما في قَوْلِهِ: ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: ٤]، ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ وهي تَأْخِيرُ العُقُوبَةِ ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو يَوْمُ القِيامَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهم﴾ [القمر: ٤٦] وقِيلَ: إلى الأجَلِ الَّذِي قَضاهُ اللَّهُ لِعَذابِهِمْ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ والذُّلِّ والقَهْرِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: لَوَقَعَ القَضاءُ بَيْنَهم بِإنْزالِ العُقُوبَةِ بِهِمْ مُعَجَّلَةً، وقِيلَ: لَقُضِيَ بَيْنَ مَن آمَنَ مِنهم ومَن كَفَرَ بِنُزُولِ العَذابِ بِالكافِرِينَ ونَجاةِ المُؤْمِنِينَ ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ﴾ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى مِن بَعْدِهِمْ مِن بَعْدِ مَن قَبْلَهم مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿لَفِي شَكٍّ مِنهُ﴾ أيْ: مِنَ القُرْآنِ، أوْ مِن مُحَمَّدٍ مُرِيبٍ: مُوقِعٍ في الرَّيْبِ لِذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا. وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى مِن بَعْدِهِمْ، مِن قَبْلِهِمْ: يَعْنِي مِن قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى. وقِيلَ: المُرادُ كُفّارُ المُشْرِكِينَ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ أُورِثُوا القُرْآنَ مِن بَعْدِ ما أُورِثَ أهْلُ الكِتابِ كِتابَهم، وصَفَهم بِأنَّهم في شَكٍّ مِنَ القُرْآنِ مُرِيبٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ أُورِثُوا وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ " وُرِّثُوا " بِالتَّشْدِيدِ. ﴿فَلِذَلِكَ فادْعُ واسْتَقِمْ﴾ أيْ: فَلِأجْلِ ما ذُكِرَ مِنَ التَّفَرُّقِ والشَّكِّ، أوْ فَلِأجْلِ أنَّهُ شُرِعَ مِنَ الدِّينِ ما شُرِعَ فادْعُ واسْتَقِمْ، أيْ: فادْعُ إلى اللَّهِ وإلى تَوْحِيدِهِ واسْتَقِمْ عَلى ما دَعَوْتَ إلَيْهِ قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: المَعْنى فَإلى ذَلِكَ فادْعُ كَما تَقُولُ: دَعَوْتُ إلى فُلانٍ، ولِفُلانٍ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما وصّى بِهِ الأنْبِياءُ مِنَ التَّوْحِيدِ. وقِيلَ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والمَعْنى: كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما نَدْعُوهم إلَيْهِ فَلِذَلِكَ فادْعُ. قالَ قَتادَةُ: اسْتَقِمْ عَلى أمْرِ اللَّهِ. وقالَ سُفْيانُ: اسْتَقِمْ عَلى القُرْآنِ. وقالَ الضَّحّاكُ: اسْتَقِمْ عَلى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ ﴿كَما أُمِرْتَ﴾ بِذَلِكَ مِن جِهَةِ اللَّهِ ﴿ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهم﴾ الباطِلَةَ وتَعَصُّباتِهِمُ الزّائِغَةَ، ولا تَنْظُرْ إلى خِلافِ مَن خالَفَكَ في ذِكْرِ اللَّهِ ﴿وقُلْ آمَنتُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ﴾ أيْ: بِجَمِيعِ الكُتُبِ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ عَلى رُسُلِهِ، لا كالَّذِينِ آمَنُوا بِبَعْضٍ مِنها وكَفَرُوا بِبَعْضٍ ﴿وأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ في أحْكامِ اللَّهِ إذا تَرافَعْتُمْ إلَيَّ، ولا أحْيَفُ عَلَيْكم بِزِيادَةٍ عَلى ما شَرَعَهُ اللَّهُ أوْ بِنُقْصانٍ مِنهُ، وأُبَلِّغُ إلَيْكم ما أمَرَنِي اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ كَما هو، واللّامُ لامُ كَيْ أيْ: أُمِرْتُ بِذَلِكَ الَّذِي أمَرْتُ بِهِ لِكَيْ أعْدِلَ بَيْنَكم، وقِيلَ: هي زائِدَةٌ، والمَعْنى: أُمِرْتُ أنْ أعْدِلَ. والأوَّلُ أوْلى. قالَ أبُو العالِيَةِ: أُمِرْتُ لِأُسَوِّيَ بَيْنَكم في الدِّينِ فَأُومِنُ بِكُلِّ كِتابٍ وبِكُلِّ رَسُولٍ. والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في كُلِّ شَيْءٍ، والمَعْنى: أُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكم في كُلِّ شَيْءٍ ﴿اللَّهُ رَبُّنا ورَبُّكُمْ﴾ أيْ: إلَهُنا وإلَهُكم، وخالِقُنا وخالِقُكم ﴿لَنا أعْمالُنا﴾ أيْ: ثَوابُها، وعِقابُها خاصٌّ بِنا ﴿ولَكم أعْمالُكم﴾ أيْ: ثَوابُها، وعِقابُها خاصٌّ بِكم ﴿لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ﴾ أيْ: لا خُصُومَةَ بَيْنِنا وبَيْنَكم؛ لِأنَّ الحَقَّ قَدْ ظَهَرَ ووَضَحَ ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا﴾ في المَحْشَرِ ﴿وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ أيِ: المَرْجِعُ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُجازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ: وهَذا مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قِيلَ: الخِطابُ لِلْيَهُودِ، وقِيلَ: لِلْكافِرِ عَلى العُمُومِ. ﴿والَّذِينَ يُحاجُّونَ في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أيْ: يُخاصِمُونَ في دِينِ اللَّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتَجابَ النّاسُ لَهُ ودَخَلُوا فِيهِ. قالَ مُجاهِدٌ: مِن بَعْدِ ما أسْلَمَ النّاسُ. قالَ: وهَؤُلاءِ قَوْمٌ تَوَهَّمُوا أنَّ الجاهِلِيَّةَ تَعُودُ. وقالَ قَتادَةُ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى ومُحاجَّتُهم قَوْلُهم: نَبِيُّنا قَبْلَ نَبِيِّكم، وكِتابُنا قَبْلَ كِتابِكم، وكانُوا يَرَوْنَ لِأنْفُسِهِمُ الفَضِيلَةَ بِأنَّهم أهْلُ كِتابٍ وأنَّهم أوْلادُ الأنْبِياءِ، وكانَ المُشْرِكُونَ يَقُولُونَ ﴿أيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، والمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ وهي ﴿حُجَّتُهم داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أيْ: لا ثَباتَ لَها كالشَّيْءِ الَّذِي يَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهِ، يُقالُ: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، والإدْحاضُ: الإزْلاقُ، ومَكانٌ دَحْضٌ أيْ: زَلِقٌ، ودَحَضَتْ رِجْلُهُ: زَلِقَتْ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في لَهُ راجِعٌ إلى اللَّهِ. وقِيلَ: راجِعٌ إلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والأوَّلُ أوْلى. ﴿وعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ أيْ: غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِمُجادَلَتِهِمْ بِالباطِلِ ﴿ولَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخِرَةِ. ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ المُرادُ بِالكِتابِ: الجِنْسُ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ عَلى الرُّسُلِ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ القُرْآنُ خاصَّةً، وبِالحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أيْ: مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ وهو الصِّدْقُ والمُرادُ بِالمِيزانِ العَدْلُ، كَذا قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، قالُوا: وسُمِّيَ العَدْلُ مِيزانًا لِأنَّ المِيزانَ آلَةُ الإنْصافِ والتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الخَلْقِ. وقِيلَ: المِيزانُ ما بُيِّنَ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِمّا يَجِبُ عَلى كُلِّ إنْسانٍ أنْ يَعْمَلَ بِهِ. وقِيلَ: هو الجَزاءُ عَلى الطّاعَةِ والثَّوابِ، وعَلى المَعْصِيَةِ بِالعِقابِ. وقِيلَ: إنَّهُ المِيزانُ نَفْسُهُ أنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ وعَلَّمَ العِبادَ الوَزْنَ بِهِ لِئَلّا يَكُونَ بَيْنَهم تَظالُمٌ وتَباخُسٌ كَما في قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] وقِيلَ: هو مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ أيْ: أيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دارِيًا بِها. عالِمًا بِوَقْتِها لَعَلَّها شَيْءٌ قَرِيبٌ أوْ قَرِيبٌ مَجِيئُها أوْ ذاتُ قُرْبٍ. وقالَ قَرِيبٌ ولَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ لِأنَّ تَأْنِيثَها غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى لَعَلَّ البَعْثَ أوْ لَعَلَّ مَجِيءَ السّاعَةِ قَرِيبٌ. وقالَ الكِسائِيُّ: قَرِيبٌ نَعْتٌ يُنْعَتُ بِهِ المُؤَنَّثُ والمُذَكَّرُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦] . ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وكُنّا قَرِيبًا والدِّيارُ بَعِيدَةٌ فَلَمّا وصَلْنا نُصْبَ أعْيُنِهِمْ غِبْنا قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ذَكَرَ السّاعَةَ وعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَقالُوا: مَتى تَكُونُ السّاعَةُ ؟ تَكْذِيبًا لَها فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ. ويَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِها الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها﴾ اسْتِعْجالَ اسْتِهْزاءٍ مِنهم بِها وتَكْذِيبًا بِمَجِيئِها ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنها﴾ أيْ: خائِفُونَ وجِلُونَ مِن مَجِيئِها. قالَ مُقاتِلٌ: لِأنَّهم لا يَدْرُونَ عَلى ما يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهم مُحاسَبُونَ (p-١٣٢٦)ومَجْزِيُّونَ ﴿ويَعْلَمُونَ أنَّها الحَقُّ﴾ أيْ: أنَّها آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠] . ثُمَّ بَيَّنَ ضَلالَ المُمارِينَ فِيها فَقالَ: ﴿ألا إنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ في السّاعَةِ﴾ أيْ: يُخاصِمُونَ فِيها مُخاصَمَةَ شَكٍّ ورِيبَةٍ، مِنَ المُمارَةِ وهي المُخاصَمَةُ والمُجادَلَةُ، أوْ مِنَ المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ والرِّيبَةُ ﴿لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ عَنِ الحَقِّ لِأنَّهم لَمْ يَتَفَكَّرُوا في المُوجِباتِ لِلْإيمانِ بِها مِنَ الدَّلائِلِ الَّتِي هي مُشاهَدَةٌ لَهم مَنصُوبَةٌ لِأعْيُنِهِمْ مَفْهُومَةٌ لِعُقُولِهِمْ، ولَوْ تَفَكَّرُوا لَعَلِمُوا أنَّ الَّذِي خَلَقَهُمُ ابْتِداءً قادِرٌ عَلى الإعادَةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ﴾ قالَ: اعْمَلُوا بِهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ قالَ: ألا تَعْلَمُوا أنَّ الفُرْقَةَ هَلَكَةٌ وأنَّ الجَماعَةَ ثِقَةٌ ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ . قالَ: اسْتَكْبَرَ المُشْرِكُونَ أنْ قِيلَ لَهم: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ﴾ قالَ: يُخْلِصُ لِنَفْسِهِ مَن يَشاءُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُحاجُّونَ في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ قالَ: هم أهْلُ الكِتابِ كانُوا يُجادِلُونَ المُسْلِمِينَ ويَصُدُّونَهم عَنِ الهُدى مِن بَعْدِ ما اسْتَجابُوا لِلَّهِ. وقالَ: هم قَوْمٌ مِن أهْلِ الضَّلالَةِ وكانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِأنْ تَأْتِيَهُمُ الجاهِلِيَّةُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُحاجُّونَ في اللَّهِ﴾ الآيَةَ. قالَ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الحَسَنِ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ [النصر: ١] قالَ المُشْرِكُونَ لِمَن بَيْنَ أظْهُرِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ: قَدْ دَخَلَ النّاسُ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا، فاخْرُجُوا مِن بَيْنِ أظْهُرِنا فَنَزَلَتْ ﴿والَّذِينَ يُحاجُّونَ في اللَّهِ﴾ الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب