الباحث القرآني

(p-٧)قوله عزّ وجلّ: ﴿واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٧] ﴿وَقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التابُوتُ﴾. لَمّا عَلِمَ نَبِيُّهم عَلَيْهِ السَلامُ تَعَنُّتَهم وجِدالَهم في الحُجَجِ تَمَّمَ كَلامَهُ بِالقَطْعِيِّ الَّذِي لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٤٧]. وظاهِرُ اللَفْظِ أنَّهُ مِن قَوْلِ النَبِيِّ لَهُمْ، وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ إلى أنَّهُ مِن قَوْلِ اللهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ، والأوَّلُ أظْهَرُ، وأُضِيفَ مُلْكُ الدُنْيا إلى اللهِ تَعالى إضافَةَ مَمْلُوكٍ إلى مالِكٍ، و"واسِعٌ" مَعْناهُ: وسِعَتْ قُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وأمّا قَوْلُ النَبِيِّ لَهُمْ: "إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ" فَإنَّ الطَبَرِيَّ ذَهَبَ إلى أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تَعَنَّتُوا، وقالُوا لِنَبِيِّهِمْ: وما آيَةُ مُلْكِ طالُوتَ؟ وذَلِكَ عَلى جِهَةِ سُؤالِ الدَلالَةِ عَلى صِدْقِهِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ﴾ [البقرة: ٢٤٧]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنَّ نَبِيَّهم قالَ لَهم ذَلِكَ عَلى جِهَةِ التَغْبِيطِ والتَنْبِيهِ عَلى هَذِهِ النِعْمَةِ الَّتِي قَرَنَها اللهُ بِمُلْكِ طالُوتَ، وجَعَلَها آيَةً لَهُ دُونَ أنْ تُعْنَ بَنُو إسْرائِيلَ لِتَكْذِيبِ نَبِيِّهِمْ، وهَذا عِنْدِي أظْهَرُ مِن لَفْظِ الآيَةِ، وتَأْوِيلُ الطَبَرِيِّ أشْبَهُ بِأخْلاقِ بَنِي إسْرائِيلَ الذَمِيمَةِ، فَإنَّهم أهْلُ تَكْذِيبٍ وتَعَنُّتٍ واعْوِجاجٍ، وقَدْ حَكى الطَبَرِيُّ مَعْناهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ زَيْدٍ والسُدِّيِّ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في كَيْفِيَّةِ إتْيانِ التابُوتِ، وكَيْفَ كانَ بَدْءُ أمْرِهِ. فَقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كانَ التابُوتُ عِنْدَ بَنِي إسْرائِيلَ يَغْلِبُونَ بِهِ مَن قاتَلَهم حَتّى (p-٨)عَصَوْا فَغُلِبُوا عَلى التابُوتِ، وصارَ التابُوتُ عِنْدَ القَوْمِ الَّذِينَ غَلَبُوا فَوَضَعُوهُ في كَنِيسَةٍ لَهم فِيها أصْنامٌ، فَكانَتِ الأصْنامُ تُصْبِحُ مُنَكَّسَةً، فَجَعَلُوهُ في قَرْيَةِ قَوْمٍ فَأصابَ أُولَئِكَ القَوْمَ أوجاعٌ في أعْناقِهِمْ. وقِيلَ: جُعِلَ في مَخْرَأةِ قَوْمٍ، فَكانُوا يُصِيبُهُمُ الناسُورُ، فَلَمّا عَظُمَ بَلاؤُهم كَيْفَ كانَ قالُوا: ما هَذا إلّا لِهَذا التابُوتِ فَلْنَرُدَّهُ إلى بِلادِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأخَذُوا عَجَلَةً فَجَعَلُوا التابُوتَ عَلَيْها، ورَبَطُوها بِبَقَرَتَيْنِ فَأرْسَلُوهُما في الأرْضِ نَحْوَ بِلادِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَبَعَثَ اللهُ مَلائِكَةً تَسُوقُ البَقَرَتَيْنِ حَتّى دَخَلَتا بِهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ وهم في أمْرِ طالُوتَ فَأيْقَنُوا بِالنَصْرِ، وهَذا هو حَمْلُ المَلائِكَةِ لِلتّابُوتِ في هَذِهِ الرِوايَةِ. وقالَ قَتادَةُ والرَبِيعُ: بَلْ كانَ هَذا التابُوتُ مِمّا تَرَكَهُ مُوسى عِنْدَ يُوشَعِ بْنِ نُونَ، فَجَعَلَهُ يُوشَعُ في البَرِّيَّةِ، ومَرَّتْ عَلَيْهِ الدُهُورُ حَتّى جاءَ وقْتُ طالُوتَ، وكانَ أمْرُ التابُوتِ مَشْهُورًا عِنْدَهم في تَرِكَةِ مُوسى، فَجَعَلَ اللهُ الإتْيانَ بِهِ آيَةً لِمُلْكِ طالُوتَ، وبَعَثَ اللهُ مَلائِكَةً حَمَلَتْهُ إلى بَنِي إسْرائِيلَ. فَيُرْوى أنَّهم رَأوُا التابُوتَ في الهَواءِ يَأْتِي حَتّى نَزَلَ بَيْنَهُمْ، ورُوِيَ أنَّ المَلائِكَةَ جاءَتْ بِهِ تَحْمِلُهُ حَتّى جَعَلَتْهُ في دارِ طالُوتَ، فاسْتَوْسَقَتْ بَنُو إسْرائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلى طالُوتَ. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كانَ قَدْرُ التابُوتِ نَحْوًا مِن ثَلاثَةِ أذْرُعٍ في ذِراعَيْنِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: "التابُوهُ" وهي لُغَتُهُ، والناسُ عَلى قِراءَتِهِ بِالتاءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَثُرَ الرُواةُ في قِصَصِ التابُوتِ وصُورَةِ حَمْلِهِ بِما لَمْ أرَ لِإثْباتِهِ وجْهًا لِلِينِ إسْنادِهِ. *** قوله عزّ وجلّ: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكم وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لَكم إنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.﴾ (p-٩)قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: السَكِينَةُ رِيحٌ هَفّافَةٌ لَها وجْهٌ كَوَجْهِ الإنْسانِ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: هي رِيحٌ خَجُوجٌ، ولَها رَأْسانِ. وقالَ مُجاهِدٌ: السَكِينَةُ لَها رَأْسٌ كَرَأْسِ الهِرَّةِ، وجَناحانِ وذَنَبٌ. وقالَ: أقْبَلَتِ السَكِينَةُ والصَرَدُ وجِبْرِيلُ مَعَ إبْراهِيمَ مِنَ الشامِ- وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عن بَعْضِ عُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ: السَكِينَةُ: رَأْسُ هِرَّةٍ مَيِّتَةٍ كانَتْ إذا صَرَخَتْ في التابُوتِ بِصُراخِ الهِرِّ أيْقَنُوا بِالنَصْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السَكِينَةُ: طَسْتٌ مِن ذَهَبٍ مِنَ الجَنَّةِ، كانَ يُغْسَلُ فِيهِ قُلُوبُ الأنْبِياءِ، وقالَهُ السُدِّيُّ. وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السَكِينَةُ رُوحٌ مِنَ اللهِ يَتَكَلَّمُ إذا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ أخْبَرَهم بِبَيانِ ما يُرِيدُونَ. وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: السَكِينَةُ: ما يَعْرِفُونَ مِنَ الآياتِ فَيَسْكُنُونَ إلَيْها. وقالَ الرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ: ﴿سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيْ: رَحْمَةٌ مِن رَبِّكم. وقالَ قَتادَةُ: ﴿سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيْ: وقارٌ لَكم مِن رَبِّكم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والصَحِيحُ أنَّ التابُوتَ كانَتْ فِيهِ أشْياءٌ فاضِلَةٌ مِن بَقايا الأنْبِياءِ وآثارِهِمْ، فَكانَتِ النُفُوسُ تَسْكُنُ إلى ذَلِكَ، وتَأْنَسُ بِهِ وتَقْوى، فالمَعْهُودُ أنَّ اللهَ يَنْصُرُ الحَقَّ والأُمُورَ الفاضِلَةَ عِنْدَهُ، والسَكِينَةُ عَلى هَذا: فَعِيلَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُكُونِ، كَما يُقالُ: عَزَمَ عَزِيمَةً، وقَطَعَ قَطِيعَةً. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في البَقِيَّةِ- ما هِيَ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي عَصا مُوسى ورُضاضُ (p-١٠)الألْواحِ. وقالَ الرَبِيعُ: هي عَصا مُوسى وأُمُورٌ مِنَ التَوْراةِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: هي التَوْراةُ والعَصا ورُضاضُ الألْواحِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَعْنى هَذا ما رُوِيَ مِن أنَّ مُوسى لَمّا جاءَ قَوْمَهُ بِالألْواحِ فَوَجَدَهم قَدْ عَبَدُوا العِجْلَ ألْقى الألْواحَ غَضَبًا فَتَكَسَّرَتْ، فَنَزَعَ مِنها ما بَقِيَ صَحِيحًا، وأخَذَ رُضاضَ ما تَكَسَّرَ فَجَعَلَ في التابُوتِ. وقالَ أبُو صالِحٍ: البَقِيَّةُ عَصا مُوسى وعَصا هارُونَ، ولَوْحانِ مِنَ التَوْراةِ، والمَنُّ، وقالَ عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ: هي عَصا مُوسى، وعَصا هارُونَ وثِيابُهُما ورُضاضُ الألْواحِ. وقالَ الثَوْرِيُّ: مِنَ الناسِ مَن يَقُولُ: البَقِيَّةُ قَفِيزُ مَنٍّ، ورُضاضُ الألْواحِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: العَصا والنَعْلانِ. وقالَ الضَحّاكُ: البَقِيَّةُ: الجِهادُ وقِتالُ الأعْداءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أيِ الأمْرُ بِذَلِكَ في التابُوتِ، إمّا أنَّهُ مَكْتُوبٌ فِيهِ، وإمّا أنَّ نَفْسَ الإتْيانِ بِهِ هو كالأمْرِ بِذَلِكَ، وأُسْنِدَ التَرْكُ إلى آلِ مُوسى وهارُونَ مِن حَيْثُ كانَ الأمْرُ مُنْدَرِجًا مِن قَوْمٍ إلى قَوْمٍ، وكُلُّهم آلٌ لِمُوسى وهارُونَ. وآلُ الرَجُلِ قَرابَتُهُ وأتْباعُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: حَمْلُ المَلائِكَةِ هو سَوْقُها التابُوتَ دُونَ شَيْءٍ يَحْمِلُهُ سِواها حَتّى وضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ بَنِي إسْرائِيلَ وهم يَنْظُرُونَ إلَيْهِ بَيْنَ السَماءِ والأرْضِ- وقالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ والثَوْرِيُّ- عن بَعْضِ أشْياخِهِمْ-: حَمْلُها إيّاهُ هو سَوْقُها الثَوْرَيْنِ أوِ البَقَرَتَيْنِ اللَتَيْنِ جَرَّتا العَجَلَةَ، ثُمَّ قَرَّرَ تَعالى أنَّ مَجِيءَ التابُوتِ آيَةٌ لَهم إنْ كانُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُ ويُبْصِرُ بِعَيْنِ حَقِيقَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب