الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكم وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالجُنُودِ قالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيْسَ مِنِّي ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنهُ إلّا قَلِيلًا مِنهم فَلَمّا جاوَزَهُ هو والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ كانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ الَّذِي كانَ فِيهِمْ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم ﴿إذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا﴾ كالظّاهِرِ في أنَّهم كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِنُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، ومُقِرِّينَ بِأنَّهُ مَبْعُوثٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ لَمّا قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكم طالُوتَ مَلِكًا﴾ كانَ هَذا دَلِيلًا قاطِعًا في كَوْنِ طالُوتَ مَلِكًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لِكَمالِ رَحْمَتِهِ بِالخَلْقِ، ضَمَّ إلى ذَلِكَ الدَّلِيلِ دَلِيلًا آخَرَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ النَّبِيِّ صادِقًا في ذَلِكَ الكَلامِ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ طالُوتَ نَصَّبَهُ اللَّهُ تَعالى لِلْمُلْكِ، وإكْثارُ الدَّلائِلِ مِنَ اللَّهِ تَعالى جائِزٌ، ولِذَلِكَ أنَّهُ كَثُرَتْ مُعْجِزاتُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ مَجِيءَ ذَلِكَ التّابُوتِ لا بُدَّ وأنْ يَقَعَ عَلى وجْهٍ يَكُونُ خارِقًا لِلْعادَةِ حَتّى يَصِحَّ أنْ يَكُونَ آيَةً مِن عِنْدِ اللَّهِ، دالَّةً عَلى صِدْقِ تِلْكَ الدَّعْوى، ثُمَّ قالَ أصْحابُ الأخْبارِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ عَلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ تابُوتًا فِيهِ صُوَرُ الأنْبِياءِ مِن أوْلادِهِ، فَتَوارَثَهُ أوْلادُ آدَمَ إلى أنْ وصَلَ إلى يَعْقُوبَ، ثُمَّ بَقِيَ في أيْدِي بَنِي إسْرائِيلَ، فَكانُوا إذا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ تَكَلَّمَ وحَكَمَ بَيْنَهم وإذا حَضَرُوا القِتالَ قَدَّمُوهُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلى عَدُوِّهِمْ، وكانَتِ المَلائِكَةُ تَحْمِلُهُ فَوْقَ العَسْكَرِ وهم يُقاتِلُونَ العَدُوَّ فَإذا سَمِعُوا مِنَ التّابُوتِ صَيْحَةً اسْتَيْقَنُوا بِالنُّصْرَةِ، فَلَمّا عَصَوْا وفَسَدُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ العَمالِقَةَ فَغَلَبُوهم عَلى التّابُوتِ وسَلَبُوهُ، فَلَمّا سَألُوا نَبِيَّهُمُ البَيِّنَةَ عَلى مُلْكِ طالُوتَ، قالَ ذَلِكَ النَّبِيُّ: إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنَّكم تَجِدُونَ التّابُوتَ في دارِهِ، ثُمَّ إنَّ الكُفّارَ الَّذِينَ سَلَبُوا ذَلِكَ التّابُوتَ كانُوا قَدْ جَعَلُوهُ في مَوْضِعِ البَوْلِ والغائِطِ، فَدَعا النَّبِيُّ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلى أُولَئِكَ الكُفّارِ البَلاءَ حَتّى إنَّ كُلَّ مَن بالَ عِنْدَهُ أوْ تَغَوَّطَ ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعالى بِالبَواسِيرِ، فَعَلِمَ الكُفّارُ أنَّ ذَلِكَ لِأجْلِ اسْتِخْفافِهِمْ بِالتّابُوتِ، فَأخْرَجُوهُ ووَضَعُوهُ عَلى ثَوْرَيْنِ فَأقْبَلَ الثَّوْرانِ يَسِيرانِ ووَكَّلَ اللَّهُ تَعالى بِهِما أرْبَعَةً مِنَ المَلائِكَةِ يَسُوقُونَهُما، حَتّى أتَوْا مَنزِلَ طالُوتَ، ثُمَّ إنَّ قَوْمَ ذَلِكَ النَّبِيِّ رَأوُا التّابُوتَ عِنْدَ طالُوتَ، (p-١٥٠)فَعَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى كَوْنِهِ مَلِكًا لَهم، فَذَلِكَ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ والإتْيانُ عَلى هَذا مَجازٌ؛ لِأنَّهُ أُتِيَ بِهِ ولَمْ يَأْتِ هو فَنُسِبَ إلَيْهِ تَوَسُّعًا، كَما يُقالُ: رَبِحَتِ الدَّراهِمُ، وخَسِرَتِ التِّجارَةُ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ التّابُوتَ صُنْدُوقٌ كانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يَضَعُ التَّوْراةَ فِيهِ، وكانَ مِن خَشَبٍ، وكانُوا يَعْرِفُونَهُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى رَفَعَهُ بَعْدَ ما قَبَضَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِسُخْطِهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ قالَ نَبِيُّ ذَلِكَ القَوْمِ: إنَّ آيَةَ مُلْكِ طالُوتَ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ مِنَ السَّماءِ، ثُمَّ إنَّ التّابُوتَ لَمْ تَحْمِلْهُ المَلائِكَةُ ولا الثَّوْرانِ، بَلْ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، والمَلائِكَةُ كانُوا يَحْفَظُونَهُ، والقَوْمُ كانُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتّى نَزَلَ عِنْدَ طالُوتَ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وعَلى هَذا الإتْيانُ حَقِيقَةٌ في التّابُوتِ، وأُضِيفُ الحَمْلُ إلى المَلائِكَةِ في القَوْلَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ مَن حَفِظَ شَيْئًا في الطَّرِيقِ جازَ أنْ يُوصَفَ بِأنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وإنْ لَمْ يَحْمِلْهُ كَما يَقُولُ القائِلُ: حَمَلْتُ الأمْتِعَةَ إلى زَيْدٍ إذا حَفِظَها في الطَّرِيقِ، وإنْ كانَ الحامِلُ غَيْرَهُ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ إتْيانَ التّابُوتِ مُعْجِزَةً، ثُمَّ فِيهِ احْتِمالانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مَجِيءُ التّابُوتِ مُعْجِزًا، وذَلِكَ هو الَّذِي قَرَّرْناهُ. والثّانِي: أنْ لا يَكُونَ التّابُوتُ مُعْجِزًا، بَلْ يَكُونُ ما فِيهِ هو المُعْجِزَ، وذَلِكَ بِأنْ يُشاهِدُوا التّابُوتَ خالِيًا، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ يَضَعُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ القَوْمِ في بَيْتٍ ويُغْلِقُوا البَيْتَ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى واقِعَتِنا، فَإذا فَتَحُوا بابَ البَيْتِ ونَظَرُوا في التّابُوتِ رَأوْا فِيهِ كِتابًا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَلِكَهم هو طالُوتُ، وعَلى أنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُهم عَلى أعْدائِهِمْ فَهَذا يَكُونُ مُعْجِزًا قاطِعًا دالًّا عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، ولَفْظُ القُرْآنِ يَحْتَمِلُ هَذا، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّهم يَجِدُونَ في التّابُوتِ هَذا المُعْجِزَ الَّذِي هو سَبَبٌ لِاسْتِقْرارِ قَلْبِهِمْ واطْمِئْنانِ أنْفُسِهِمْ فَهَذا مُحْتَمَلٌ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وزْنُ التّابُوتِ إمّا أنْ يَكُونَ فَعْلُوتًا أوْ فاعُولًا، والثّانِي مَرْجُوحٌ، لِأنَّهُ يَقِلُّ في كَلامِ العَرَبِ لَفْظٌ يَكُونُ فاؤُهُ ولامُهُ مِن جِنْسٍ واحِدٍ، نَحْوُ: سَلَسٌ وقَلَقٌ، فَلا يُقالُ: تابُوتٌ مِن تَبَتَ قِياسًا عَلى ما نُقِلَ، وإذا فَسَدَ هَذا القِسْمُ تَعَيَّنَ الأوَّلُ، وهو أنَّهُ فَعْلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وهو الرُّجُوعُ لِأنَّهُ ظَرْفٌ يُوضَعُ فِيهِ الأشْياءُ، ويُودَعُ فِيهِ فَلا يَزالُ يَرْجِعُ إلَيْهِ ما يَخْرُجُ مِنهُ وصاحِبُهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِن مُودَعاتِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ الكُلُّ: (التّابُوتُ) بِالتّاءِ، وقَرَأ أُبَيٌّ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ (التّابُوهُ) بِالهاءِ وهي لُغَةُ الأنْصارِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ طالُوتَ كانَ نَبِيًّا، لِأنَّهُ تَعالى أظْهَرَ المُعْجِزَةَ عَلى يَدِهِ وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ كانَ نَبِيًّا، ولا يُقالُ: إنَّ هَذا كانَ مِن كَراماتِ الأوْلِياءِ، لِأنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الكَرامَةِ والمُعْجِزَةِ أنَّ الكَرامَةَ لا تَكُونُ عَلى سَبِيلِ التَّحَدِّي، وهَذا كانَ عَلى سَبِيلِ التَّحَدِّي، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ مِن جِنْسِ الكَراماتِ. والجَوابُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمانِ، ومَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ فَإنَّهُ كانَ آيَةً قاطِعَةً في ثُبُوتِ مُلْكِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: (السَّكِينَةُ) فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ، وهو ضِدُّ الحَرَكَةِ وهي مَصْدَرٌ وقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ، نَحْوُ: (p-١٥١)القَضِيَّةُ والبَقِيَّةُ والعَزِيمَةُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في السَّكِينَةِ، وضَبْطُ الأقْوالِ فِيها أنْ نَقُولَ: المُرادُ بِالسَّكِينَةِ إمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ كانَ شَيْئًا حاصِلًا في التّابُوتِ أوْ ما كانَ كَذَلِكَ. والقِسْمُ الثّانِي: هو قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيْ تَسْكُنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهِ وتُقِرُّونَ لَهُ بِالمُلْكِ، وتَزُولُ نَفْرَتُكم عَنْهُ، لِأنَّهُ مَتى جاءَهُمُ التّابُوتُ مِنَ السَّماءِ وشاهَدُوا تِلْكَ الحالَةَ فَلا بُدَّ وأنْ تَسْكُنَ قُلُوبُهم إلَيْهِ وتَزُولَ نَفْرَتُهم بِالكُلِّيَّةِ. وأمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو أنَّ المُرادَ مِنَ السَّكِينَةِ شَيْءٌ كانَ مَوْضُوعًا في التّابُوتِ، وعَلى هَذا فَفِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّهُ كانَ في التّابُوتِ بِشاراتٌ مِن كُتُبِ اللَّهِ تَعالى المُنَزَّلَةِ عَلى مُوسى وهارُونَ ومَن بَعْدَهُما مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، بِأنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طالُوتَ وجُنُودَهُ، ويُزِيلُ خَوْفَ العَدُوِّ عَنْهم. الثّانِي: وهو قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: كانَ لَها وجْهٌ كَوَجْهِ الإنْسانِ، وكانَ لَها رِيحٌ هَفّافَةٌ. والثّالِثُ: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هي صُورَةٌ مِن زَبَرْجَدٍ أوْ ياقُوتٍ لَها رَأْسٌ كَرَأْسِ الهِرِّ، وذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، فَإذا صاحَتْ كَصِياحِ الهِرِّ ذَهَبَ التّابُوتُ نَحْوَ العَدُوِّ وهم يَمْضُونَ مَعَهُ فَإذا وقَفَ وقَفُوا ونَزَلَ النَّصْرُ. القَوْلُ الرّابِعُ: وهو قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: إنَّ السَّكِينَةَ الَّتِي كانَتْ في التّابُوتِ شَيْءٌ لا يُعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّ السَّكِينَةَ عِبارَةٌ عَنِ الثَّباتِ والأمْنِ، وهو كَقَوْلِهِ في قِصَّةِ الغارِ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٦] فَكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ مَعْناهُ الأمْنُ والسُّكُونُ. واحْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّهُ حَصَلَ في التّابُوتِ شَيْءٌ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ التّابُوتِ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ. والثّانِي: وهو أنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى﴾ فَكَما أنَّ التّابُوتَ كانَ ظَرْفًا لِلْبَقِيَّةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلسَّكِينَةِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ كَلِمَةَ (في) كَما تَكُونُ لِلظَّرْفِيَّةِ فَقَدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِيَّةِ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«فِي النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» “ وقالَ: ”«فِي خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ شاةٌ» “ أيْ بِسَبَبِهِ فَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ أيْ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ السَّكِينَةُ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بَقِيَّةً مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ مِنَ الدِّينِ والشَّرِيعَةِ، والمَعْنى أنَّ بِسَبَبِ هَذا التّابُوتِ يَنْتَظِمُ أمْرُ ما بَقِيَ مِن دِينِهِما وشَرِيعَتِهِما. وأمّا القائِلُونَ بِأنَّ المُرادَ بِالبَقِيَّةِ شَيْءٌ كانَ مَوْضُوعًا في التّابُوتِ فَقالُوا: البَقِيَّةُ هي رُضاضُ الألْواحِ وعَصا مُوسى وثِيابُهُ وشَيْءٌ مِنَ التَّوْراةِ وقَفِيزٌ مِنَ المَنِّ الَّذِي كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن آلِ مُوسى وآلِ هارُونَ هو مُوسى وهارُونَ أنْفُسَهُما، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ: ”«لَقَدْ أُوتِيَ هَذا مِزْمارًا مِن مَزامِيرِ آلِ داوُدَ» “ وأرادَ بِهِ داوُدَ نَفْسَهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ مِن آلِ داوُدَ مِنَ الصَّوْتِ الحَسَنِ مِثْلَ ما كانَ لِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّما أُضِيفَ ذَلِكَ إلى آلِ مُوسى وآلِ هارُونَ، لِأنَّ ذَلِكَ التّابُوتَ (p-١٥٢)قَدْ تَداوَلَتْهُ القُرُونُ بَعْدَهُما إلى وقْتِ طالُوتَ، وما في التّابُوتِ أشْياءُ تَوارَثَها العُلَماءُ مِن أتْباعِ مُوسى وهارُونَ، فَيَكُونُ الآلُ هُمُ الأتْباعُ، قالَ تَعالى: ﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦] . * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فالمَعْنى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُعْجِزَةٌ باهِرَةٌ إنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِدَلالَةِ المُعْجِزَةِ عَلى صِدْقِ المُدَّعِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب