الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أغْلَبُهم واقِفًا مَعَ المُشاهَداتِ غَيْرَ ثابِتِ القَدَمِ في الإيمانِ بِالغَيْبِ قالَ: ﴿وقالَ لَهم نَبِيُّهُمْ﴾ مُثْبِتًا لِأمْرِ طالُوتَ ﴿إنَّ آيَةَ﴾ أيْ عَلامَةَ ﴿مُلْكِهِ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: وقَلَّ ما احْتاجَ أحَدٌ في إيمانِهِ إلى آيَةٍ خارِقَةٍ (p-٤٢٠)إلّا كانَ إيمانُهُ إنْ آمَنَ غَلَبَةً يَخْرُجُ عَنْهُ بِأيْسَرِ فِتْنَةٍ، ومَن كانَ إيمانُهُ بِاسْتِبْصارٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ ولَمْ يَحْتَجْ إلى آيَةٍ، فَإنْ كانَتِ الآيَةُ كانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ ولَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ﴾ [الإسراء: ٥٩] - ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩] فَإنَّ الآياتِ طَلِيعَةُ المُؤاخَذَةِ والِاقْتِناعِ بِالِاعْتِبارِ طَلِيعَةَ القَبُولِ والثَّباتِ - انْتَهى. ﴿أنْ يَأْتِيَكُمُ﴾ أيْ مِن غَيْرِ آتٍ بِهِ تَرَوْنَهُ ﴿التّابُوتُ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: ويَعِزُّ قَدْرُهُ - انْتَهى. وهو واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ الصُّنْدُوقُ الَّذِي وُضِعَ فِيهِ اللَّوْحانِ اللَّذانِ كُتِبَ فِيهِما العَشْرُ الآياتِ الَّتِي نِسَبَتُها مِنَ التَّوْراةِ نِسْبَةُ فاتِحَةِ الكِتابِ مِنَ القُرْآنِ وهو يُسَمّى تابُوتَ الشَّهادَةِ كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في وصْفِ قُبَّةِ الزَّمانِ فِيما مَضى أوَّلَ قِصَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ وكانُوا إذا حارَبُوا حَمَلَهُ جَماعَةٌ مِنهم مُوَظَّفُونَ لِحَمْلِهِ (p-٤٢١)ويَتَقَدَّمُونَ بِهِ أمامَ الجَيْشِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ نَصْرِهِمْ وكانَ العَمالِقَةُ أصْحابَ جالُوتَ لَمّا ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ أخَذُوهُ في جُمْلَةِ ما أخَذُوا مِن نَفائِسِهِمْ وكَأنَّ عَهْدَهم بِهِ كَأنَّ قَدْ طالَ فَذَكَّرَهم بِمَآثِرِهِ تَرْغِيبًا فِيهِ وحَمْلًا عَلى الِانْقِيادِ لِطالُوتَ فَقالَ: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ﴾ أيْ شَيْءٌ يُوجِبُ السُّكُونَ والثَّباتَ في مَواطِنِ الخَوْفِ. وقالَ الحَرالِيُّ: مَعْناهُ ثَباتٌ في القُلُوبِ يَكُونُ لَهُ في عالَمِ المَلَكُوتِ صُورَةٌ بِحَسَبِ حالِ المُثْبَتِ، ويُقالُ: كانَتْ سَكِينَةُ بَنِي إسْرائِيلَ صُورَةَ هِرٍّ مِن ياقُوتٍ ولُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ مُلَفَّقٍ مِنهُ أعْضاءُ تِلْكَ الصُّورَةِ تَخْرُجُ مِنهُ رِيحٌ هَفّافَةٌ تَكُونُ عَلَمَ النَّصْرِ لَهُمُ - انْتَهى. وزادَهُ مَدْحًا بِقَوْلِهِ: ﴿مِن رَبِّكُمْ﴾ أيِ الَّذِي (p-٤٢٢)طالَ إحْسانُهُ إلَيْكم وتَرْبِيَتُهُ بِاللُّطْفِ لَكم. وقالَ الحَرالِيُّ وغَيْرُهُ: إنَّهُ كانَ في التّابُوتِ صُورَةٌ يَأْتِي مِنها عِنْدَ النَّصْرِ رِيحٌ تُسْمَعُ. قالَ الحَرالِيُّ: كَما كانَتِ الصَّبا تَهُبُّ لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِالنَّصْرِ، قالَ ﷺ: «نُصِرْتُ بِالصَّبا» فَكانَتْ سَكِينَتُها كُلِّيَّةَ آفاقِها وتابُوتِها كُلِّيَّةَ سَمائِها حَتّى لا تَحْتاجَ إلى مَحْمَلٍ يَحْمِلُها ولا عُدَّةٍ تُعِدُّها لِأنَّها أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ تَوَلّى اللَّهُ لَها إقامَةَ عِلْمِها وأعْمالِها - انْتَهى. ولَمّا كانَ الكَلِيمُ وأخُوهُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ أعْظَمَ أنْبِيائِهِ قالَ: ﴿وبَقِيَّةٌ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: فَضْلَةُ جُمْلَةٍ ذَهَبَ جُلُّها ﴿مِمّا تَرَكَ﴾ مِنَ التَّرْكِ وهو أنْ لا يَعْرِضَ لِلْأمْرِ حِسًّا أوْ مَعْنًى ﴿آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ﴾ أيْ وهي لَوْحا العَهْدِ. قالَ الحَرالِيُّ: وفي إشْعارِ تَثْنِيَةِ (p-٤٢٣)ذِكْرِ الآلِ ما يُعْلَمُ بِاخْتِصاصِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِوَصْفٍ دُونَ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما كانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ في أمْرِ اللَّهِ وبِاخْتِصاصِ هارُونَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِما كانَ فِيهِ مِنَ اللِّينِ والِاحْتِمالِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ آلُ مُوسى وهارُونَ، لِأنَّ الآلَ حَقِيقَةً مَن يَبْدُو فِيهِ وصْفُ مَن هو آلُهُ. وقالَ: الآلُ أصْلٌ مَعْناهُ السَّرابُ الَّذِي تَبْدُو فِيهِ الأشْياءُ البَعِيدَةُ كَأنَّهُ مِرْآةٌ تَجْلُو الأشْياءَ فَآلُ الرَّجُلِ مَن إذا حَضَرُوا فَكَأنَّهُ لَمْ يَغِبِ - انْتَهى. ثُمَّ صَرَّحَ بِما أفْهَمَهُ إسْنادُ (p-٤٢٤)الإتْيانِ إلَيْهِ فَقالَ: ﴿تَحْمِلُهُ﴾ مِنَ الحَمْلِ وهو ما اسْتَقَلَّ بِهِ النّاقِلُ ﴿المَلائِكَةُ﴾ وما هَذا بِأغْرَبِ مِن قِصَّةِ سَفِينَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَعَهُ أصْحابُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتاعُهم فَقالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ابْسُطْ كِساءَكَ، فَبَسَطْتُهُ فَجَعَلُوا فِيهِ مَتاعَهم فَحَمَلُوهُ عَلَيَّ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: احْمِلْ فَإنَّما أنْتَ سَفِينَةُ ! قالَ: فَلَوْ حَمَلْتُ مِن يَوْمِئِذٍ وقْرَ بَعِيرٍ أوْ بَعِيرَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ أوْ أرْبَعَةٍ أوْ خَمْسَةٍ أوْ سِتَّةٍ أوْ سَبْعَةٍ ما ثَقُلَ عَلَيَّ» وأمّا مُقاتَلَةُ المَلائِكَةِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ في غَزْوَةِ بَدْرٍ فَأمْرٌ شَهِيرٌ، كانَ الصَّحابِيُّ يَكُونُ قاصِدًا الكافِرَ لِيُقاتِلَهُ فَإذا رَأسُهُ قَدْ سَقَطَ مِن قَبْلِ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ، ولَمّا كانَ هَذا أمْرًا باهِرًا قالَ مُنَبِّهًا عَلى عَظَمَتِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرِ (p-٤٢٥)العَظِيمِ الشَّأْنِ ﴿لآيَةً﴾ أيْ باهِرَةً ﴿لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فَإنَّ المَواعِظَ لا تَنْفَعُ غَيْرَهم. قالَ الحَرالِيُّ: ولَمّا ضَعُفَ قَبُولَهم عَنِ النَّظَرِ والِاسْتِبْصارِ صارَ حالُهم في صُورَةِ الضَّعْفِ الَّذِي يُقالُ فِيهِ: إنْ كانَ كَذا، فَكانَ في إشْعارِهِ خَلَلُهم وفِتْنَتُهم إلّا قَلِيلًا - انْتَهى. وفِي هَذِهِ القِصَّةِ تَوْطِئَةٌ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ وتَدْرِيبٌ لِمَن كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَهم وتَأْدِيبٌ لَهم وتَهْذِيبٌ وإشارَةٌ عَظِيمَةٌ واضِحَةٌ إلى خِلافَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِما دَلَّ عَلَيْهِ مِن أمْرِ اسْتِخْلافِهِ في الإمامَةِ في الصَّلاةِ الَّتِي هي خُلاصَةُ هَذا الدِّينِ كَما أنَّ ما في تابُوتِ الشَّهادَةِ كانَ خُلاصَةَ ذَلِكَ الدِّينِ، وتَحْذِيرٌ لِمَن لَعَلَّهُ يُخالِفُ فِيها أوْ يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ مِن بَنِي هاشِمٍ ولا عَبْدِ مَنافٍ الَّذِينَ هم بَيْتُ الإمامَةِ والرِّئاسَةِ ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا حَمى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ مِنهُ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَأْبى اللَّهُ ذَلِكَ والمُؤْمِنُونَ» وفي تَوْجِيهِ الخِطابِ إلى النَّبِيِّ ﷺ إعْلامٌ بِأنَّ أوَّلَ مَقْصُودٍ بِهِ الأقْرَبُ مِنهُ ﷺ فالأقْرَبُ، وفِيها تَشْجِيعٌ لِلصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ فِيما يَنْدُبُهم إلَيْهِ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن قِتالِ أهْلِ الرِّدَّةِ وما بَعْدَهُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإشاراتِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْها العِباراتُ - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب