الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَما أكْثَرُ الناسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَما تَسْألُهم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ هو إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿وَكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عنها مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللهِ إلا وهم مُشْرِكُونَ﴾ ﴿أفَأمِنُوا أنْ تَأْتِيَهم غاشِيَةٌ مِن عَذابِ اللهِ أو تَأْتِيَهم الساعَةُ بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحانَ اللهِ وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾
(p-١٥٨)هاتانِ الآيَتانِ تَدُلّانِ أنَّ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَهُما فِيها تَعْرِيضٌ لِقُرَيْشٍ ومُعاصِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ، كَأنَّهُ قالَ: فَإخْبارُكَ بِالغُيُوبِ دَلِيلٌ قائِمٌ عَلى نُبُوَّتِكَ، ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يُؤْمِنُونَ وإنْ كُنْتَ أنْتَ حَرِيصًا عَلى إيمانِهِمْ، أيْ: يُؤْمِنُ مَن شاءَ اللهُ، وقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ اعْتِراضٌ فَصِيحٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَما تَسْألُهُمْ﴾ الآيَةَ، تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ وإقامَةٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، أيْ: ما أسْفَهَهم في أنْ تَدْعُوَهم إلى اللهِ دُونَ أنْ تَبْتَغِيَ مِنهم أجْرًا فَيَقُولُ قائِلٌ: بِسَبَبِ الأجْرِ يَدْعُوهُمْ، وقَرَأ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: "وَما نَسْألُهُمْ" بِالنُونِ.
ثُمَّ ابْتَدَأ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى الإخْبارَ عن كِتابِهِ العَزِيزِ أنَّهُ ذِكْرٌ ومَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ العالَمِ، نَفَعَنا اللهُ بِهِ، ووَفَّرَ حَظَّنا مِنهُ بِعِزَّتِهِ.
وقَرَأتِ الجَماعَةُ: "وَكَأيِّنْ" بِهَمْزِ الألِفِ وشَدِّ الياءِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: هي كافُ التَشْبِيهِ اتَّصَلَتْ بِـ "أيٍّ"، ومَعْناها مَعْنى (كَمْ) في التَكْثِيرِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَكائِنْ" بِمَدِّ الألِفِ وهَمْزِ الياءِ، وهو مِنِ اسْمِ الفاعِلِ مِن "كانَ" فَهو كائِنٌ، ولَكِنَّ مَعْناهُ مَعْنى (كَمْ) أيْضًا. وقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِيعابُ القِراءاتِ في هَذِهِ الكَلِمَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وَكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ قاتَلَ﴾ [آل عمران: ١٤٦].
و"الآيَةُ" هُنا: المَخْلُوقاتُ المَنصُوبَةُ لِلِاعْتِبارِ، والحَوادِثُ الدالَّةُ عَلى اللهِ سُبْحانَهُ في مَصْنُوعاتِهِ، ومَعْنى ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْها﴾ الآيَةَ: إذا جاءَ مِنها ما يُحَسُّ أو يُعْلَمُ في الجُمْلَةِ لَمْ يَتَّعِظِ الكافِرُ بِهِ، ولا تَأمَّلَهُ، ولا اعْتَبَرَ بِهِ بِحَسَبَ شَهَواتِهِ وعَمَهِهِ، فَهو لِذَلِكَ- كالمُعْرِضِ، ونَحْوُ هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ تَمُرُّ الصَبا صَفْحًا بِساكِنِ ذِي الغَضا ∗∗∗ ويَصْدَعُ قَلْبِي أنْ يَهُبَّ هُبُوبُها
(p-١٥٩)وَقَرَأ السُدِّيُّ: "والأرْضَ" بِالنَصْبِ بِإضْمارِ فِعْلٍ، والوَقْفُ -عَلى هَذا- في "السَمَواتِ"، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ: "والأرْضُ" بِالرَفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ قَوْلُهُ: "يَمُرُّونَ"، وعَلى القِراءَةِ بِخَفْضِ "الأرْضِ" فَـ "يَمُرُّونَ" نَعْتٌ لِـ "الآيَةِ"، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ: "والأرْضِ يَمْشُونَ عَلَيْها".
وقَوْلُهُ: ﴿وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ﴾ الآيَةَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي في أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ثُمَّ يُشْرِكُونَ مِن حَيْثُ كَفَرُوا بِنَبِيِّهِ، أو مِن حَيْثُ قالُوا: عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، والمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وقالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: هي في كُفّارِ العَرَبِ، وإيمانُهم هو إقْرارُهم بِالخالِقِ والرازِقِ والمُمِيتِ، فَسَمّاهُ إيمانًا وإنْ أعْقَبَهُ إشْراكُهم بِالأوثانِ والأصْنامِ، فَهَذا الإيمانُ لُغَوِيٌّ فَقَطْ مِن حَيْثُ هو تَصْدِيقٌ ما. وقِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ قُرَيْشٍ في الطَوافِ والتَلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، ورُوِيَ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ كانَ إذا سَمِعَ أحَدَهم يَقُولُ: "لا شَرِيكَ لَكَ" يَقُولُ لَهُ: (قَطْ قَطْ)،» أيْ: قِفْ هُنا ولا تَزِدْ: "إلّا شَرِيكٌ هو لَكً".
و"الغاشِيَةُ": ما يَغْشى ويُغَطِّي ويَغُمُّ، وقَرَأ أبُو حَفْصٍ، وبِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: "أو يَأْتِيَهُمُ الساعَةُ بَغْتَةً" بِالياءِ. و"بَغْتَةً" مَعْناها: فَجْأةً، وذَلِكَ أصْعَبُ.
وهَذِهِ الآيَةُ مِن قَوْلِهِ: "وَكَأيِّنْ" وإنْ كانَتْ في الكُفّارِ بِحُكْمِ ما قَبْلَها، فَإنَّ العُصاةَ يَأْخُذُونَ مِن ألْفاظِها بِحَظٍّ، ويَكُونُ الإيمانُ حَقِيقَةً والشِرْكُ لُغَوِيًّا كالرِياءِ، فَقَدْ قالَ ﷺ: « "الرِياءُ الشِرْكُ الأصْغَرُ".»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ الآيَةَ، إشارَةٌ إلى دَعْوَةِ الإسْلامِ والشَرِيعَةِ بِأسْرِها، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: هَذا أمْرِي وسُنَّتِي ومِنهاجِي. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "قُلْ هَذا سَبِيلِي"، والسَبِيلُ: المَسْلَكُ، وتُؤَنَّثُ وتُذَكَّرُ، وكَذَلِكَ الطَرِيقُ.
(p-١٦٠)وَ"البَصِيرَةُ": اسْمٌ لِمُعْتَقَدِ الإنْسانِ في الأمْرِ مِنَ الحَقِّ واليَقِينِ، والبَصِيرَةُ أيْضًا -فِي كَلامِ العَرَبِ -: الطَرِيقَةُ في الدَمِ، وفي الحَدِيثِ المَشْهُورِ: "تَنْظُرُ في النَصْلِ فَلا تَرى بَصِيرَةً"، وبِها فَسَّرَ بَعْضُ الناسِ قَوْلِ الأشْعَرِ الجُعْفِيِّ:
؎ راحُوا بَصائِرُهم عَلى أكْتافِهِمْ ∗∗∗ ∗∗∗ وبَصِيرَتِي يَعْدُو بِها عَتِدٌ وأى
يَصِفُ قَوْمًا باعُوا دَمَ ولِيِّهِمْ، فَكَأنَّ دَمَهُ حَصَلَتْ مِنهُ طَرائِقُ عَلى أكْتافِهِمْ إذْ هم مَوْسُومُونَ عِنْدَ الناسِ بِبَيْعِ ذَلِكَ الدَمِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ البَصِيرَةُ في بَيْتِ الأشْعَرِ عَلى المُعْتَقَدِ الحَقِّ، أيْ: جَعَلُوا اعْتِقادَهم طَلَبَ النارِ وبَصِيرَتَهم في ذَلِكَ وراءَ ظُهُورِهِمْ، كَما تَقُولُ: طَرَحَ فَلانٌ أمْرِي وراءَ ظَهْرِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ في "أدْعُوا"، ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ كُلُّها أمّارَةً بِالمَعْرُوفِ داعِيَةً إلى اللهِ الكَفَرَةَ بِهِ والعُصاةَ. و" سُبْحانَ اللهِ " تَنْزِيهٌ لِلَّهِ، أيْ وقُلْ: سُبْحانَ اللهِ، وقُلْ مُتَبَرِّئًا مِنَ الشِرْكِ.
ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ إلى آخِرِها كانَتْ مَرْقُومَةً عَلى راياتِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ.
{"ayahs_start":103,"ayahs":["وَمَاۤ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِینَ","وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ لِّلۡعَـٰلَمِینَ","وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ","وَمَا یُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ","أَفَأَمِنُوۤا۟ أَن تَأۡتِیَهُمۡ غَـٰشِیَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ","قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"],"ayah":"وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق