الباحث القرآني

(فائدة ومن تلاعب الشيطان باليهود أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم. ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، يحرمون عليهم ويحلون لهم. فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم. ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟ قال عدي بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فسألته عن قوله: ﴿اتّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللهِ﴾. فقلت: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال: حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم. فكانت تلك عبادتهم إياهم" رواه الترمذي وغيره. وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه، ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه، ويحلل له. * [فصل: الفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّباعِ والتَّقْلِيدِ] قالَ أبُو عُمَرَ في الجامِعِ: بابُ فَسادِ التَّقْلِيدِ ونَفْيِهِ، والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الإتْباعِ، قَوْلُ أبُو عُمَرَ: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى التَّقْلِيدَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ فَقالَ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وغَيْرِهِ قالَ: لَمْ يَعْبُدُوهم مِن دُونِ اللَّهِ، ولَكِنَّهم أحَلُّوا لَهم وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فاتَّبَعُوهم. وَقالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ: أتَيْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وفي عُنُقِي صَلِيبٌ، فَقالَ: «يا عَدِيُّ ألْقِ هَذا الوَثَنَ مِن عُنُقِك، وانْتَهَيْت إلَيْهِ وهو يَقْرَأُ سُورَةَ بَراءَةَ حَتّى أتى عَلى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ: فَقُلْت: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا لَمْ نَتَّخِذْهم أرْبابًا، قالَ: بَلى، ألَيْسَ يُحِلُّونَ لَكم ما حُرِّمَ عَلَيْكم فَتَحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَ عَلَيْكم ما أُحِلَّ لَكم فَتُحَرِّمُونَهُ؟ فَقُلْت: بَلى، قالَ: فَتِلْكَ عِبادَتُهُمْ». قُلْت: الحَدِيثُ في المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا. وَقالَ أبُو البَخْتَرِيِّ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أمّا إنّهم لَوْ أمَرُوهم أنْ يَعْبُدُوهم مِن دُونِ اللَّهِ ما أطاعُوهُمْ، ولَكِنَّهم أمَرُوهم فَجَعَلُوا حَلالَ اللَّهِ حَرامَهُ وحَرامَهُ حَلالَهُ فَأطاعُوهم فَكانَتْ تِلْكَ الرِّبَوِيَّةُ. وَقالَ وكِيعٌ: ثنا سُفْيانُ والأعْمَشُ جَمِيعًا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ عَنْ أبِي ثابِتٍ عَنْ أبِي البَخْتَرِيِّ قالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ في قَوْله تَعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أكانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ فَقالَ: لا، ولَكِنْ كانُوا يَحِلُّونَ لَهم الحَرامَ فَيَحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ الحَلالَ فَيُحَرِّمُونَهُ. وَقالَ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣] ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكم بِأهْدى مِمّا وجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ﴾ [الزخرف: ٢٤] فَمَنَعَهم الِاقْتِداءَ بِآبائِهِمْ مِن قَبُولِ الِاهْتِداءِ، فَقالُوا: إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وفي هَؤُلاءِ ومِثْلِهِمْ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ورَأوُا العَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ - وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّءُوا مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ١٦٦-١٦٧] وَقالَ تَعالى مُعاتِبًا لِأهْلِ الكُفْرِ وذامًّا لَهُمْ: ﴿ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢] ﴿قالُوا وجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣] وقالَ ﴿وَقالُوا رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] ومِثْلُ هَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ مِن ذَمِّ تَقْلِيدِ الآباءِ والرُّؤَساءِ، وقَدْ احْتَجَّ العُلَماءُ بِهَذِهِ الآياتِ في إبْطالِ التَّقْلِيدِ ولَمْ يَمْنَعْهم كُفْرُ أُولَئِكَ مِن الِاحْتِجاجِ بِها؛ لِأنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِن جِهَةِ كُفْرِ أحَدِهِما وإيمانِ الآخَرِ، وإنَّما وقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ المُقَلِّدِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ، كَما لَوْ قَلَّدَ رَجُلًا فَكَفَرَ وقَلَّدَ آخَرَ فَأذْنَبَ وقَلَّدَ آخَرَ في مَسْألَةٍ فَأخْطَأ وجْهَها كانَ كُلُّ واحِدٍ مَلُومًا عَلى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وإنْ اخْتَلَفَتْ الآثامُ فِيهِ، وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥]. قالَ: فَإذا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ ما ذَكَرْنا وجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَها، وهي الكِتابُ والسُّنَّةُ وما كانَ في مَعْناهُما بِدَلِيلٍ جامِعٍ، ثُمَّ ساقَ مِن طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنِّي لا أخافُ عَلى أُمَّتِي مِن بَعْدِي إلّا مِن أعْمالِ ثَلاثَةٍ، قالُوا: وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: أخافُ عَلَيْهِمْ زَلَّةَ العالِمِ، ومِن حُكْمٍ جائِرٍ، ومِن هَوًى مُتَّبَعٍ» وبِهَذا الإسْنادِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «تَرَكْت فِيكم أمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بِهِما: كِتابَ اللَّهِ، وسُنَّةَ رَسُولِهِ ﷺ». قُلْت: والمُصَنِّفُونَ في السُّنَّةِ جَمَعُوا بَيْنَ فَسادِ التَّقْلِيدِ وإبْطالِهِ وبَيانِ زَلَّةِ العالِمِ لِيُبَيِّنُوا بِذَلِكَ فَسادَ التَّقْلِيدِ، وأنَّ العالِمَ قَدْ يَزِلُّ ولا بُدَّ؛ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، فَلا يَجُوزُ قَبُولُ كُلِّ ما يَقُولُهُ، ويُنَزَّلُ قَوْلُهُ مَنزِلَةِ قَوْلِ المَعْصُومِ؛ فَهَذا الَّذِي ذَمَّهُ كُلُّ عالِمٍ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وحَرَّمُوهُ، وذَمُّوا أهْلَهُ وهو أصْلُ بَلاءِ المُقَلِّدِينَ وفِتْنَتِهِمْ، فَإنَّهم يُقَلِّدُونَ العالِمَ فِيما زَلَّ فِيهِ وفِيما لَمْ يَزِلَّ فِيهِ، ولَيْسَ لَهم تَمْيِيزٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَيَأْخُذُونَ الدِّينَ بِالخَطَأِ - ولا بُدَّ - فَيَحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ويُحَرِّمُونَ ما أحَلَّ اللَّهُ ويُشَرِّعُونَ ما لَمْ يُشَرِّعْ، ولا بُدَّ لَهم مِن ذَلِكَ إذْ كانَتْ العِصْمَةُ مُنْتَفِيَةً عَمَّنْ قَلَّدُوهُ، والخَطَأُ واقِعٌ مِنهُ ولا بُدَّ. وَقَدْ ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ كَثِيرٍ هَذا عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا زَلَّةَ العالِمِ، وانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب