الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلّا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ اليَهُودَ والنَّصارى بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ .
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الأحْبارُ: الفُقَهاءُ، واخْتَلَفُوا في واحِدِهِ، فَبَعْضُهم يَقُولُ: حَبْرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: حِبْرٌ، وقالَ الأصْمَعِيُّ: لا أدْرِي أهُوَ الحَبْرُ أوِ الحِبْرُ ؟ وكانَ أبُو الهَيْثَمِ يَقُولُ: واحِدُ الأحْبارِ حَبْرٌ بِالفَتْحِ لا غَيْرَ، ويُنْكِرُ الكَسْرَ، وكانَ اللَّيْثُ وابْنُ السِّكِّيتِ يَقُولانِ: حَبْرٌ وحِبْرٌ لِلْعالِمِ ذِمِّيًّا كانَ أوْ مُسْلِمًا، بَعْدَ أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ الكِتابِ. وقالَ أهْلُ المَعانِي: الحَبْرُ العالِمُ الَّذِي بِصِناعَتِهِ يُحَبِّرُ المَعانِيَ، ويُحْسِنُ البَيانَ عَنْها، والرّاهِبُ الَّذِي تَمَكَّنَتِ الرَّهْبَةُ والخَشْيَةُ في قَلْبِهِ وظَهَرَتْ آثارُ الرَّهْبَةِ عَلى وجْهِهِ ولِباسِهِ، وفي عُرْفِ الِاسْتِعْمالِ، صارَ الأحْبارُ مُخْتَصًّا بِعُلَماءِ اليَهُودِ مِن ولَدِ هارُونَ، والرُّهْبانُ بِعُلَماءِ النَّصارى أصْحابِ الصَّوامِعِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الأكْثَرُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ قالُوا: لَيْسَ المُرادُ مِنَ الأرْبابِ أنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ أنَّهم آلِهَةُ العالَمِ، بَلِ المُرادُ أنَّهم أطاعُوهم في أوامِرِهِمْ ونَواهِيهِمْ، «نُقِلَ أنَّ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ كانَ نَصْرانِيًّا فانْتَهى إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهو يَقْرَأُ سُورَةَ بَراءَةَ، فَوَصَلَ إلى هَذِهِ الآيَةِ، قالَ: فَقُلْتُ: لَسْنا نَعْبُدُهم فَقالَ: ”ألَيْسَ يُحَرِّمُونَ ما أحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، ويُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ ؟“ فَقُلْتُ: بَلى قالَ: ”فَتِلْكَ عِبادَتُهُمْ“» وقالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأبِي العالِيَةِ: كَيْفَ كانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ في بَنِي إسْرائِيلَ ؟ فَقالَ: إنَّهم رُبَّما وجَدُوا في كِتابِ اللَّهِ ما يُخالِفُ أقْوالَ الأحْبارِ (p-٣١)والرُّهْبانِ، فَكانُوا يَأْخُذُونَ بِأقْوالِهِمْ وما كانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتابِ اللَّهِ تَعالى، قالَ شَيْخُنا ومَوْلانا، خاتِمَةُ المُحَقِّقِينَ والمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ شاهَدْتُ جَماعَةً مِن مُقَلِّدَةِ الفُقَهاءِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آياتٍ كَثِيرَةً مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى في بَعْضِ المَسائِلِ، وكانَتْ مَذاهِبُهم بِخِلافِ تِلْكَ الآياتِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الآياتِ، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْها وبَقُوا يَنْظُرُونَ إلَيَّ كالمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي: كَيْفَ يُمْكِنُ العَمَلُ بِظَواهِرِ هَذِهِ الآياتِ مَعَ أنَّ الرِّوايَةَ عَنْ سَلَفِنا ورَدَتْ عَلى خِلافِها، ولَوْ تَأمَّلْتَ حَقَّ التَّأمُّلِ وجَدْتَ هَذا الدّاءَ سارِيًا في عُرُوقِ الأكْثَرِينَ مِن أهْلِ الدُّنْيا.
فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا كَفَّرَهم بِسَبَبِ أنَّهم أطاعُوا الأحْبارَ والرُّهْبانَ، فالفاسِقُ يُطِيعُ الشَّيْطانَ فَوَجَبَ الحُكْمُ بِكُفْرِهِ، كَما هو قَوْلُ الخَوارِجِ.
والجَوابُ: أنَّ الفاسِقَ، وإنْ كانَ يَقْبَلُ دَعْوَةَ الشَّيْطانِ إلّا أنَّهُ لا يُعَظِّمُهُ لَكِنْ يَلْعَنُهُ، ويَسْتَخِفُّ بِهِ، أمّا أُولَئِكَ الأتْباعُ كانُوا يَقْبَلُونَ قَوْلَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ ويُعَظِّمُونَهم، فَظَهَرَ الفَرْقُ.
والقَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ أنَّ الجُهّالَ والحَشْوِيَّةَ إذا بالَغُوا في تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وقُدْوَتِهِمْ، فَقَدْ يَمِيلُ طَبْعُهم إلى القَوْلِ بِالحُلُولِ والِاتِّحادِ، وذَلِكَ الشَّيْخُ إذا كانَ طالِبًا لِلدُّنْيا بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ يُلْقِي إلَيْهِمْ أنَّ الأمْرَ كَما يَقُولُونَ ويَعْتَقِدُونَ، وشاهَدْتُ بَعْضَ المُزَوِّرِينَ مِمَّنْ كانَ بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ كانَ يَأْمُرُ أتْباعَهُ وأصْحابَهُ بِأنْ يَسْجُدُوا لَهُ، وكانَ يَقُولُ لَهم: أنْتُمْ عَبِيدِي، فَكانَ يُلْقِي إلَيْهِمْ مِن حَدِيثِ الحُلُولِ والِاتِّحادِ أشْياءَ، ولَوْ خَلا بِبَعْضِ الحَمْقى مِن أتْباعِهِ، فَرُبَّما ادَّعى الإلَهِيَّةَ، فَإذا كانَ مُشاهَدًا في هَذِهِ الأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ في الأُمَمِ السّالِفَةِ ؟ وحاصِلُ الكَلامِ أنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها أنَّهم أطاعُوهم فِيما كانُوا مُخالِفِينَ فِيهِ لِحُكْمِ اللَّهِ، وأنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها أنَّهم قَبِلُوا أنْواعَ الكُفْرِ، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ، فَصارَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى أنَّهُمُ اتَّخَذُوهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم أثْبَتُوا في حَقِّهِمُ الحُلُولَ والِاتِّحادَ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ الأرْبَعَةِ مُشاهَدٌ وواقِعٌ في هَذِهِ الأُمَّةِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا﴾ ومَعْناهُ ظاهِرٌ، وهو أنَّ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ والكُتُبَ الإلَهِيَّةَ ناطِقَةٌ بِذَلِكَ.
ثُمَّ قالَ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ أيْ: سُبْحانَهُ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ في الأمْرِ والتَّكْلِيفِ، وأنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ في كَوْنِهِ مَسْجُودًا ومَعْبُودًا، وأنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ في وُجُوبِ نِهايَةِ التَّعْظِيمِ والإجْلالِ.
{"ayah":"ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق