(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) الأحبار جمع حبر، وهو الذي يحسن القول ومنه ثوب محبر، وقيل جمع حبر بكسر الحاء قال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان، وقال ابن السكيت: الحبر بالكسر العالم، والحبر بالفتح العالم، قال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر وقال أبو الهيثم: هو بالفتح وأنكر الكسر.
وقيل الكسر أفصح لأنه يجمع على أفعال دون فعول، وقال أبو عبيد: هو بالفتح، وقال الليث: الحبر العالم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب والحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر، والحبر أيضاً الأثر، وفي الحديث " يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره " قال الفراء: أي لونه وهيئته، وقال الأصمعي: الجمال والبهاء وأثر النعمة، وتحبير الخط والشعر وغيرهما تحسينه، والحبر بالفتح الحبور، وهو السرور وحبره أي سره وبابه نصر وحبرة أيضا بالفتح، ومنه قوله تعالى: (فهم في روضة يحبرون) أي يسرون وينعمون ويكرمون.
والرهبان جمع راهب مأخوذ من الرهبة وهم علماء النصارى كما أن الأحبار علماء اليهود، وقيل الرهبان أصحاب الصوامع من النصارى، وقيل الرهبان النساك وقيل القراء، ومعنى الآية لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه كانوا بمنزلة المثخذين لهم أرباباً لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب.
وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل قال: أنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي في تفسيره: قال شيخنا رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها.
ولو تأملت حمتى التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا. والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم أنتم عبيدي فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقاء من أتباعه فربما ادعى الإلهية، فإذا كان ذلك مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة.
وحاصل الكلام أن تلك الربوبية تحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا بالله فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوا أرباباً من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد، وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة. انتهى.
(والمسيح ابن مريم) أي اتخذه النصارى رباً معبوداً، وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيراً رباً معبوداً، وانظر لم ثبتت الألف في ابن هنا مع أنه صفة بين علمين لأن المسيح لقب وهو من أقسام العلم.
وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه. هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء.
فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانباً وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوّت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه فأعرتموها آذاناً صماً وقلوباً غلفاً، وأفهاماً مريضة وعقولاً مهيضة وأذهاناً كليلة وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا أرشدكم الله وإياي كتباً كتبها لكم الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية.
(وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) أي والحال أنهم ما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً.
(لا إله إلا هو) صفة ثانية لقوله إلهاً أو استئناف مقرر للتوحيد (سبحانه عما يشركون) أي تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
وقد أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ في سورة براءة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فقال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " [[الترمذي تفسير سورة 9/ 10.]]، وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير.
{"ayah":"ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"}