الباحث القرآني
(p-٣١٢٤)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٣١ ] ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ .
﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلا هو سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ زِيادَةُ تَقْرِيرٍ لِما سَلَفَ مِن كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى، وفِيهِ وصْفُهم بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ.
والأحْبارُ عُلَماءُ اليَهُودِ جَمْعُ حَبْرٍ، بِكَسْرِ الحاءِ وفَتْحِها، وهو العالِمُ بِتَحْبِيرِ الكَلامِ وتَحْسِينِهِ - كَذا ذَكَرَهُ أئِمَّةُ اللُّغَةِ - قالَ بَعْضُهم: (الحِبْرُ) أعْظَمُ الأشْرافِ بَيْنَ الإسْرائِيلِيِّينَ، يَكُونُ عِنْدَهم وسِيلَةً لِلتَّقَرُّبِ لِلَّهِ، ومَرْتَبَةً وِراثِيَّةً في آلِ هارُونَ، يَكُونُ بَكْرٌ أشِيخَ مَن فِيها. انْتَهى.
و(الرُّهْبانُ) جَمْعُ راهِبٍ، بِمَعْنى المُتَعَبِّدِ الخاشِعِ الزّاهِدِ، وأصْلُ التَّرَهُّبِ عَنِ النَّصارى، التَّخَلِّي عَنْ أشْغالِ الدُّنْيا، وتَرْكُ مَلاذِّها والزُّهْدُ فِيها، والعُزْلَةُ عَنْ أهْلِها.
وفِي الحَدِيثِ ««لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ»» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ الرّازِيُّ: الأكْثَرُونَ (p-٣١٢٥)مِنَ المُفَسِّرِينَ قالُوا: لَيْسَ المُرادُ مِنَ الأرْبابِ أنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ أنَّهم آلِهَةُ العالَمِ، بَلِ المُرادُ أنَّهم أطاعُوهم في أوامِرِهِمْ ونَواهِيهِمْ، أيْ: لِما رَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِن ذَهَبٍ فَقالَ: «يا عَدِيُّ ! اطْرَحْ عَنْكَ هَذا الوَثَنَ» . وسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَراءَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ: «أما إنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهم، ولَكِنَّهم كانُوا إذا أحَلُّوا لَهم شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وإذا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»» .
ورَوى الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ مِن طُرُقٍ، «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ لَمّا بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرَّ إلى الشّامِ، وكانَ قَدْ تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ فَأُسِرَتْ أُخْتُهُ وجَماعَةٌ مِن قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى أُخْتِهِ، وأعْطاها، فَرَجَعَتْ إلى أخِيها، فَرَغَّبَتْهُ في الإسْلامِ، وفي القُدُومِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَدِمَ عَدِيٌّ المَدِينَةَ، وكانَ رَئِيسًا في قَوْمِهِ طَيِّئٍ، وأبُوهُ حاتِمٌ الطّائِيُّ المَشْهُورُ بِالكَرَمِ، فَتَحَدَّثَ النّاسُ بِقُدُومِهِ، فَدَخَلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وفي عُنُقِ عَدِيٍّ صَلِيبٌ مِن فِضَّةٍ، وهو يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ: فَقُلْتُ: إنَّهم لَمْ يَعْبُدُوهم، فَقالَ «بَلى إنَّهم حَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الحَلّالَ، وأحَلُّوا لَهُمُ الحَرامَ، فاتَّبَعُوهم فَذَلِكَ عِبادَتُهم إيّاهم» .
وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يا عَدِيُّ ! ما تَقُولُ ؟ أيَضُرُّكَ أنْ يُقالَ: اللَّهُ أكْبَرُ ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أكْبَرَ مِنَ اللَّهِ ؟ ما يَضُرُّكَ أنْ يُقالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَهَلْ تَعْلَمُ إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ» ؟ ثُمَّ دَعاهُ إلى الإسْلامِ فَأسْلَمَ وشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ.
(p-٣١٢٦)قالَ فَلَقَدْ رَأيْتُ وجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، ثُمَّ قالَ: «إنَّ اليَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ والنَّصارى ضالُّونَ»» .
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَكَذا قالَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ وابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُما في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، أنَّهُمُ اتَّبَعُوهم فِيما حَلَّلُوا وحَرَّمُوا.
وقالَ السُّدِّيُّ: اسْتَنْصَحُوا الرِّجالَ، ونَبَذُوا كِتابَ اللَّهِ وراءَ ظُهُورِهِمْ.
وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ وجْهًا في تَفْسِيرِ اتِّخاذِهِمْ أرْبابًا، قالَ: بِأنْ أطاعُوهم بِالسُّجُودِ لَهم.
قالَ الشِّهابُ: والأوَّلُ هو تَفْسِيرُ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَنْبَغِي الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ «لَمّا أتاهُ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ وهو يَقْرَؤُها قالَ لَهُ: إنّا لَمْ نَعْبُدْهم، فَقالَ: «ألَمْ تَتْبَعُوهم في التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ ؟ فَهَذِهِ هي العِبادَةُ»»، والنّاسُ يَقُولُونَ: فُلانٌ يَعْبُدُ فُلانًا، إذا أفْرَطَ في طاعَتِهِ، فَهو اسْتِعارَةٌ بِتَشْبِيهِ الإطاعَةِ بِالعِبادَةِ، أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ بِإطْلاقِ العِبادَةِ، وهي طاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ عَلى مُطْلِقِها، والأوَّلُ أبْلَغُ. انْتَهى.
فَقالَ الرّازِيُّ: قالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأبِي العالِيَةِ: كَيْفَ كانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ في بَنِي إسْرائِيلَ ؟ فَقالَ: إنَّهم رُبَّما وجَدُوا في كِتابِ اللَّهِ ما يُخالِفُ أقْوالَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ، فَكانُوا يَأْخُذُونَ بِأقْوالِهِمْ، وما كانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتابِ اللَّهِ تَعالى.
قالَ الرّازِيُّ: قالَ شَيْخُنا ومَوْلانا خاتِمَةُ المُحَقِّقِينَ والمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ شاهَدْتُ جَماعَةً مِن مُقَلِّدَةِ الفُقَهاءِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آياتٍ كَثِيرَةً في كِتابِ اللَّهِ تَعالى في بَعْضِ مَسائِلَ، وكانَتْ مَذاهِبُهم بِخِلافِ تِلْكَ الآياتِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الآياتِ ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْها، وبَقُوا يَنْظُرُونَ إلَيَّ كالمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ العَمَلُ بِظَواهِرِ هَذِهِ الآياتِ، مَعَ أنَّ الرِّوايَةَ عَنْ سَلَفِنا ورَدَتْ عَلى خِلافِها ؟ ولَوْ تَأمَّلْتَ حَقَّ التَّأمُّلِ وجَدْتَ هَذا الدّاءَ سارِيًا في عُرُوقِ الأكْثَرِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ. انْتَهى.
(p-٣١٢٧)﴿وما أُمِرُوا﴾ أيْ: والحالُ أنَّ أُولَئِكَ الكَفَرَةَ ما أُمِرُوا في كِتابِهِمْ: ﴿إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا﴾ أيْ: يُطِيعُوا أمْرَهُ، ولا يُطِيعُوا أمْرَ غَيْرِهِ بِخِلافِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِ ﴿إلَهًا﴾ أوِ اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِلتَّوْحِيدِ: ﴿سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ أيْ: بِهِ في العِبادَةِ والطّاعَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق