الباحث القرآني
﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ﴾ زِيادَةُ تَقْرِيرٍ لِما سَلَفَ مِن (p-84)كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعالى، والأحْبارُ عُلَماءُ اليَهُودِ، واخْتُلِفَ في واحِدِهِ فَقالَ الأصْمَعِيُّ: لا أدْرِي أهْوَ حِبْرٌ أوْ حَبْرٌ، وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: هو بِالفَتْحِ لا غَيْرَ، وذَكَرَ ابْنُ الأثِيرِ أنَّهُ بِالفَتْحِ والكَسْرِ وعَلَيْهِ أكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ، والصَّحِيحُ إطْلاقُهُ عَلى العالِمِ ذِمِّيًّا كانَ أوْ مُسْلِمًا فَقَدْ كانَ يُقالُ لِابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: الحَبْرُ ويَجْمَعُ كَما في ”القامُوسِ“ عَلى حُبُورٍ أيْضًا وكَأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن تَحْبِيرِ المَعانِي بِحُسْنِ البَيانِ عَنْها ( ﴿ورُهْبانَهُمْ﴾ ) وهم عُلَماءُ النَّصارى مِن أصْحابِ الصَّوامِعِ، وهو جَمْعُ راهِبٍ وقَدْ يَقَعُ عَلى الواحِدِ ويُجْمَعُ عَلى رَهابِينَ ورَهابِنَةٍ وفي ”مَجْمَعِ البَيانِ“ أنَّ الرّاهِبَ هو الخاشِي الَّذِي تَظْهَرُ عَلَيْهِ الخَشْيَةُ وكَثُرَ إطْلاقُهُ عَلى مُتَنَسِّكِي النَّصارى وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهْبَةِ أيِ الخَوْفِ، وكانُوا لِذَلِكَ يَتَخَلَّوْنَ مِن أشْغالِ الدُّنْيا وتَرْكِ مَلاذِّها والزُّهْدِ فِيها والعُزْلَةِ عَنْ أهْلِها وتَعَمُّدِ مَشاقِّها حَتّى أنَّ مِنهم مَن كانَ يَخْصِي نَفْسَهُ ويَضَعُ السِّلْسِلَةَ في عُنُقِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أنْواعِ التَّعْذِيبِ، ومِن هُنا قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «لا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ» والمُرادُ في الآيَةِ اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ عُلَماءَهم لا الكُلَّ الكُلَّ ﴿أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ بِأنْ أطاعُوهم في تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ تَعالى وتَحْلِيلِ ما حَرَّمَهُ سُبْحانَهُ وهو التَّفْسِيرُ المَأْثُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَدْ رَوى الثَّعْلَبِيُّ، وغَيْرُهُ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وفي عُنُقِي صَلِيبٌ مِن ذَهَبٍ فَقالَ: يا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذا الوَثَنَ وسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في سُورَةِ بَراءَةَ: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ،﴾ فَقُلْتُ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ! فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ألَيْسَ يُحَرِّمُونَ ما أحَلَّ اللَّهُ تَعالى فَيُحَرِّمُونَهُ ويُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَ؟ فَقُلْتُ: بَلى، قالَ: ذَلِكَ عِبادَتُهم»، وسُئِلَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنِ الآيَةِ، فَأجابَ بِمِثْلِ ما ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهم: فُلانٌ يَعْبُدُ فُلانًا إذا أفْرَطَ في طاعَتِهِ فَهو اسْتِعارَةٌ بِتَشْبِيهِ الإطاعَةِ بِالعِبادَةِ أوْ مَجازٌ مُرْسَلٌ بِإطْلاقِ العِبادَةِ وهي طاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ عَلى مُطْلَقِها، والأوَّلُ أبْلَغُ، وقِيلَ: اتِّخاذُهم أرْبابًا بِالسُّجُودِ لَهم ونَحْوِهِ مِمّا لا يَصْلُحُ إلّا لِلرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ وحِينَئِذٍ فَلا مَجازَ إلّا أنَّهُ لا مَقالَ لِأحَدٍ بَعْدَ صِحَّةِ الخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والآيَةُ ناعِيَةٌ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الفِرَقِ الضّالَّةِ الَّذِينَ تَرَكُوا كِتابَ اللَّهِ تَعالى وسُنَّةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِكَلامِ عُلَمائِهِمْ ورُؤَسائِهِمْ، والحَقُّ أحَقُّ بِالِاتِّباعِ فَمَتى ظَهَرَ وجَبَ عَلى المُسْلِمِ اتِّباعُهُ وإنْ أخْطَأهُ اجْتِهادُ مُقَلِّدِهِ ﴿والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عَطْفٌ عَلى ( رُهْبانَهم ) بِأنِ اتَّخَذُوهُ رَبًّا مَعْبُودًا أوْ بِأنْ جَعَلُوهُ ابْنًا لِلَّهِ كَما يَقْتَضِيهِ سِياقُ الآيَةِ عَلى ما قِيلَ وفِيهِ نَظَرٌ.
وتَخْصِيصُ الِاتِّخاذِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ يُشِيرُ إلى أنَّ اليَهُودَ ما فَعَلُوا ذَلِكَ بِعُزَيْرٍ، وتَأْخِيرُهُ في الذِّكْرِ مَعَ أنَّ اتِّخاذَهم لَهُ كَذَلِكَ أقْوى مِن مُجَرَّدِ الإطاعَةِ في أمْرِ التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ لِأنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصارى، ونِسْبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى أُمِّهِ لِلْإيذانِ بِكَمالِ رَكاكَةِ رَأْيِهِمْ والقَضاءِ عَلَيْهِمْ بِنِهايَةِ الجَهْلِ والحَماقَةِ.
﴿وما أُمِرُوا﴾ أيْ والحالُ أنَّ أُولَئِكَ الكَفَرَةَ ما أُمِرُوا في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ وعَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ﴿إلا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا﴾ جَلِيلَ الشَّأْنِ وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ ويُطِيعُوا أمْرَهُ ولا يُطِيعُوا أمْرَ غَيْرِهِ بِخِلافِهِ فَإنَّ ذَلِكَ مُنافٍ لِعِبادَتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وأمّا إطاعَةُ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وسائِرِ مَن أمَرَ اللَّهُ بِطاعَتِهِ فَهي في الحَقِيقَةِ إطاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، أوْ وما أُمِرَ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ الكَفَرَةُ أرْبابًا مِنَ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ والأحْبارِ والرُّهْبانِ إلّا لِيُطِيعُوا (p-85)أوْ لِيُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعالى فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَكُونُوا أرْبابًا وهم مَأْمُورُونَ مُسْتَعْبَدُونَ مِثْلُهم، ولا يَخْفى أنَّ تَخْصِيصَ العِبادَةِ بِهِ تَعالى لا يَتَحَقَّقُ إلّا بِتَخْصِيصِ الطّاعَةِ أيْضًا بِهِ تَعالى ومَتى لَمْ يُخَصَّ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ تُخَصَّ العِبادَةُ بِهِ سُبْحانَهُ ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِإلَهًا أوِ اسْتِئْنافٌ، وهو عَلى الوَجْهَيْنِ مُقَرِّرٌ لِلتَّوْحِيدِ وفِيهِ عَلى ما قِيلَ فائِدَةٌ زائِدَةٌ وهو أنَّ ما سَبَقَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ التَّوْحِيدِ بِأنْ يُؤْمَرُوا بِعِبادَةِ إلَهٍ واحِدٍ مِن بَيْنِ الآلِهَةِ، فَإذا وُصِفَ المَأْمُورُ بِعِبادَتِهِ بِأنَّهُ هو المُنْفَرِدُ بِالأُلُوهِيَّةِ تَعَيَّنَ المُرادُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ صِفَةً مُفَسِّرَةً لِواحِدًا ﴿سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ تَنْزِيهٌ لَهُ أيْ تَنْزِيهٌ عَنِ الإشْراكِ بِهِ في العِبادَةِ والطّاعَةِ.
{"ayah":"ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق