الباحث القرآني

قال ابن جريج: سمعت عطاء ابن أبي رباح يقول هي الصلاة المكتوبة. ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن ألهاه ماله وولده عن الصلاة والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح يوضحه أنه سبحانه وتعالى أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد: أحدهما: إتيانه بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث. الثاني: تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم، فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له بخلاف قولك عالم صالح. الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ ونظائره. الرابع: إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين قوة الإسناد واختصاص المسند إليه بالمسند كقوله: ﴿وَإنَّ اللَّهَ لَهو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾، وقوله: ﴿واللَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾، وقوله: ﴿إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ونظائر ذلك. * (فصل) المقصود: أن دوام الذكر لما كان سببا لدوام المحبة، وكان الله سبحانه أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال، كان كثرة ذكره من أنفع ما للعبد. وكان عدوه حقا هو الصاد له عن ذكر ربه، وعبوديته. ولهذا أمر سبحانه بكثرة ذكره في القرآن. وجعله سببا للفلاح. فقال تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وقال: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ وقال: ﴿والذّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذّاكِراتِ﴾ وقال: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكم أمْوالُكم ولا أوْلادُكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. ومَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ وقال: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ وقال النبي ﷺ «سبق المفردون. قالوا: يا رسول الله وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا» وفي الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: «ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله» وهو في الموطأ موقوف على أبي الدرداء. وقال معاذ بن جبل «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله». وذكر رسول الله ﷺ تبع لذكره. والمقصود: أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة. فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به. وهو أنواع: ذكره بأسمائه وصفاته، والثناء عليه بها. الثاني: تسبيحه وتحميده، وتكبيره وتهليله، وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين. الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه. وهو ذكر أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم. ومن أفضل ذكره: ذكره بكلامه. قال تعالى: ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا. ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ فذكره هاهنا هو كلامه الذي أنزله على رسوله، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ. ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾. ومن ذكره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه. فهذه خمسة أنواع من الذكر. * (فصل) إن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل في المنافقين: ﴿ولا يذكرون الله إلا قليلًا﴾ وقال كعب: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق ولهذا - والله أعلم - ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون﴾. فإن في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل فوقعوا في النفاق. وسئل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الخوارج: منافقون هم؟ قال: لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلًا. فهذا من علامة النفاق قلة ذكر الله عز وجل، وكثرة ذكره أمان من النفاق، والله عز وجل أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل. * (فصل: في بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين) قال ابن القيم - بعد كلام - إذا تبين هذا ظهر أن أحدًا من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالمقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل، فإذا دعوته فقد دعوت من ضرُّه أقرب من نفعه. وأما الرب تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظة تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه لا يريد ذلك ألبتة بالقصد الأول، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلًا أو آجلًا، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْسًا من المخلوقين، سدًا لباب عبوديتهم وفتحًا لباب عبودية الله وحده، فما أعظم حظ من عرف هذه المسألة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم. فكما لا تخافهم فلا ترجوهم، ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك. وهذا إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة، وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرًا ومعبرًا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم، وربما علمت. وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك، ورحت صفر اليدين، وكم فَوَّتُوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إلى منازلك الأُولى ودارك التي دعيت إليها وقالوا: نحن أحبابك وخدمك، وشيعتك وأعوانك، والساعون في مصالحك. وكذبوا والله إنهم لأعداءٌ في صورة أولياءَ، وحرب في صورة مسالمين، وقطاع طريق في صورة أعوان. فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذي يغيث ولا يغاث ﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ إنّ مِن أزْواجِكم وأوْلاَدِكم عَدُوًّا لّكم فاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: ١٤] ﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكم أمْوالُكم ولاَ أوْلاَدُكم عَن ذِكْرِ اللهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [المنافقون: ٩]. فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم في الله، وأمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأحيا حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذي يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحًا، بشرط أن يصبر على أذاهم ويتخذه مغنمًا لا مغرمًا وربحًا لا خسرانًا. ومما يوضح الأمر أن الخلق لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة ألبتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو في الحقيقة الذي لا يأْتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو: ﴿وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كاشِفَ لَهُ إلاّ هو وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: ١٠٧]، قال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس: "واعْلَمْ أنَّ الخَليقَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلى أنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ولَوْ اجْتَمَعُوا عَلى أنْ يضروك لم يضروكَ إلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ" وإذا كانت هذه حال الخلقة، فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب