الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكم أمْوالُكم ولا أولادُكم عن ذِكْرِ اللهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ ﴿وَأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِن الصالِحِينَ﴾ ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إذا جاءَ أجَلُها واللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ الإلْهاءُ: الِاشْتِغالُ بِشَهْوَةٍ ولَذَّةٍ، و"ذِكْرُ اللهِ" هُنا عامٌّ في التَوْحِيدِ والصَلاةِ والدُعاءِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن فَرْضٍ ومَندُوبٍ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ وجَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقالَ الضَحّاكُ، وعَطاءٌ وأصْحابُهُ: المُرادُ بِالذِكْرِ الصَلاةُ المَكْتُوبَةُ، والأوَّلُ أظْهَرُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكُمْ﴾ قالَ جُمْهُورٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: المُرادُ الزَكاةُ، وقالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ عامٌّ في مَفْرُوضٍ ومَندُوبٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ أيْ: عَلاماتُهُ وأوائِلُ أمْرِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ طَلَبٌ لِلْكَرَّةِ والإمْهالِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أخَّرْتَنِ" بِغَيْرِ ياءٍ، وسَمّاهُ قَرِيبًا لِأنَّهُ آتٍ، وأيْضًا فَإنَّما يَتَمَنّى ذَلِكَ لِيَقْضِيَ فِيهِ العَمَلَ الصالِحَ فَقَطْ، ولَيْسَ يَتَّسِعُ الأمَلُ حِينَئِذٍ لِطَلَبِ العَيْشِ وتَصَرُّفِهِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: "فَأتَصَدَّقُ"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأكُنْ مِنَ الصالِحِينَ﴾ ظاهِرُهُ العُمُومُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هو الحَجُّ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ في (p-٣١٦)مَجْلِسِهِ يَوْمًا: "ما مِن رَجُلٍ لا يُؤَدِّي الزَكاةَ والحَجَّ إلّا طَلَبَ الكَرَّةَ عِنْدَ مَوْتِهِ"، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: أما تَتَّقِي اللهَ؟ أمُؤْمِنٌ يَطْلُبُ الكَرَّةَ؟ فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: نَعَمْ وقَرَأ الآيَةَ. وقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ والناسُ: "وَأكُنْ" بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى المَوْضِعِ؛ لِأنَّ التَقْدِيرَ: إنْ تُؤَخِّرْنِي أصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصالِحِينَ، هَذا مَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ، فَأمّا ما حَكاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الخَلِيلِ فَهو غَيْرُ هَذا، وهو أنَّهُ جَزَمَ عَلى تَوَهُّمِ الشَرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ التَمَنِّي، ولا مَوْضِعَ هُنا لِأنَّ الشَرْطَ لَيْسَ بِظاهِرٍ، وإنَّما يُعْطَفُ عَلى الوَضْعِ حَيْثُ يَظْهَرُ الشَرْطُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ويَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٦]، فَمَن قَرَأ بِالجَزْمِ عَطَفَ عَلى مَوْضِع "فَلا هادِيَ لَهُ" لِأنَّهُ وقَعَ هُناكَ فِعْلٌ كانَ مَجْزُومًا، وكَذَلِكَ مَن قَرَأ: "وَيَكْفُرْ" بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى مَوْضِع ( فَهو خَيْرٌ لَكم )، وقَرَأها أبُو عَمْرٍو، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، والأعْمَشُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعُبَيْدُ اللهِ بْنُ الحَسَنِ العنبَرِيُّ: "وَأكُونَ" بِالنَصْبِ عَطْفًا عَلى "فَأصَّدَّقَ"، وقالَ أبُو حاتِمٍ في كَتْبِها في المُصْحَفِ بِغَيْرِ واوٍ: إنَّهم حَذَفُوا الواوَ كَما حَذَفُوها مِنِ "اتَّخَذَ" وغَيْرِهِ، ورَجَّحَها أبُو عَلِيٍّ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَأتَصَدَّقُ وأكُنْ" وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إذا جاءَ أجَلُها﴾ حَضٌّ عَلى المُبادَرَةِ ومُسابَقَةِ الأجَلِ بِالعَمَلِ الصالِحِ، وقَرَأ السَبْعَةُ والجُمْهُورُ: "تَعْمَلُونَ" بِالتاءِ عَلى المُخاطَبَةِ لِجَمِيعِ الناسِ، وقَرَأ عاصِمٌ -فِي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ -: "يَعْمَلُونَ" بِالياءِ عَلى تَخْصِيصِ الكَفّارِ بِالوَعِيدِ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ المُنافِقُونَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب