﴿أَوَمَن كَانَ مَیۡتࣰا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورࣰا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِجࣲ مِّنۡهَاۚ كَذَ ٰلِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأنعام ١٢٢]
فَجمع لَهُ بَين النُّور والحياة كَما جمع لمن أعرض عَن كِتابه بَين المَوْت والظلمة.
قالَ ابْن عَبّاس وجَمِيع المُفَسّرين كانَ كافِرًا ضالًّا فهديناه.
وَقَوله
﴿وَجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ﴾ يتَضَمَّن أمورا:
أحدها أنه يمشي في النّاس بِالنورِ وهم في الظلمَة فَمثله ومثلهمْ كَمثل قوم أظلم عَلَيْهِم اللَّيْل فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر مَعَه نور يمشي بِهِ في الطَّرِيق ويراها ويرى ما يحذرهُ فِيها وثانِيها أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقتبسون مِنهُ لحاجتهم إلى النُّور وثالِثها أنه يمشي بنوره يَوْم القِيامَة على الصِّراط إذا بَقِي أهل الشّرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.
* (فائدة)
وَقَولُهُ جَلَّ وعَلا:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها. .﴾فَأحْياهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِرُوحِهِ الَّذِي هو وحْيُهُ وهو رُوحُ الإيمانِ والعِلْمِ، وجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ بَيْنَ أهْلِ الظُّلْمَةِ كَما يَمْشِي الرَّجُلُ بِالسِّراجِ المُضِيءِ في الظُّلْمَةِ، فَهو يَرى أهْلَ الظُّلْمَةِ في ظُلُماتِهِمْ وهم لا يَرَوْنَهُ كالبَصِيرِ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ العُمْيانِ.
* (فصل)
في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر وفتنة فيه
أصل كل خير وسعادة للعبد، بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره. فالحياة والنور مادة الخير كله، قال الله تعالى:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ في النّاسِ كَمن مَثَلُهُ فِى الظُّلُماتِ لَيْسَ بخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢].
فجمع بين الأصلين: الحياة، والنور، فبالحياة تكون قوته، وسمعه وبصره، وحياؤه وعفته، وشجاعته وصبره، وسائر أخلاقه الفاضلة، ومحبته للحسن، وبغضه للقبيح. فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات، وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه، فالقلب الصحيح الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر".
وكذلك القلب المريض بالشهوة، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه.
وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حُسْنَ الحسن بنوره، وآثره بحياته، وكذلك قبح القبيح، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه.
فقال تعالى:
﴿وَكَذلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِى ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِى به مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا وإنّكَ لَتَهْدِى إلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة، والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق، وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم متضمن للأمرين، فهو روح تحيا به القلوب، ونور تستضئ وتشرق به، كما قال تعالى:
﴿أوَمَن كانَ ميْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلهُ فِى الظُّلماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢].
أي أو من كان كافرا ميت القلب، مغمورًا في ظلمة الجهل: فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيا بعد موته، مشرقا مستنيرًا بعد ظلمته؟ فجعل الكافر لانصرافه عن طاعته، وجهله بمعرفته، وتوحيده وشرائع دينه، وترك الأخذ بنصيبه من رضاه، والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته: بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام وأنعشناه به، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله تعالى وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضيء به، فيمشي بنوره بين الناس، وهم في سدف الظلام، كما قيل:
لَيْلى بِوَجْهِكَ مُشْرِقٌ ∗∗∗ وظَلامُهُ في النّاسِ سارِي
النّاسُ في سُدُفِ الظّلا ∗∗∗ م ونَحْنُ فِى ضَوْءِ النّهارِ
* (فصل: الذكر وحقيقة النور الإلهي)
الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط، فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى، قال الله تعالى:
﴿أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾فالأول هو المؤمن استنار بالإيمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره، والآخر هو الغافل عن الله تعالى المعرض عن ذكره ومحبته، والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور، والشقاء كل الشقاء في فواته.
ولهذا كان النبي ﷺ يبالغ في سؤال ربه تبارك وتعالى حين يسأله أن يجعله في لحمه وعظامه وعصبه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه، حتى يقول واجعلني نورًا فسأل ربه تبارك وتعالى أن يجعل النور في ذراته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وجملته نورًا، فدين الله عز وجل نور، وكتابه نور، ورسوله نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه.
وفي دعاء النبي ﷺ يوم الطائف
«أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»وقال أبن مسعود رضي الله عنه: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه.
* [فَصْلُ: حَقِيقَةُ الحَياةِ]
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ:
(بابُ الحَياةِ) قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢].
اسْتِشْهادُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ في هَذا البابِ ظاهِرٌ جِدًّا، فَإنَّ المُرادَ بِها: مَن كانَ مَيِّتَ القَلْبِ بِعَدَمِ رُوحِ العِلْمِ والهُدى والإيمانِ، فَأحْياهُ الرَّبُّ تَعالى بِرُوحٍ أُخْرى غَيْرِ الرُّوحِ الَّتِي أحْيا بِها بَدَنَهُ، وهي رُوحُ مَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، ومَحَبَّتِهِ وعِبادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ إذْ لا حَياةَ لِلرُّوحِ إلّا بِذَلِكَ، وإلّا فَهي في جُمْلَةِ الأمْواتِ، ولِهَذا وصَفَ اللَّهُ تَعالى مَن عُدِمَ ذَلِكَ بِالمَوْتِ، فَقالَ:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وقالَ تَعالى:
﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ [النمل: ٨٠]وَسُمِّيَ وحْيُهُ رُوحًا، لِما يَحْصُلُ بِهِ مِن حَياةِ القُلُوبِ والأرْواحِ، فَقالَ تَعالى:
﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ [الشورى: ٥٢] فَأخْبَرَ أنَّهُ رُوحٌ تَحْصُلُ بِهِ الحَياةُ، وأنَّهُ نُورٌ تَحْصُلُ بِهِ الإضاءَةُ، وقالَ تَعالى:
﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقُونِ﴾ [النحل: ٢]، وقالَ تَعالى:
﴿رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ [غافر: ١٥] فالوَحْيُ حَياةُ الرُّوحِ، كَما أنَّ الرُّوحَ حَياةُ البَدَنِ، ولِهَذا مَن فَقَدَ هَذِهِ الرُّوحَ فَقَدْ فَقَدَ الحَياةَ النّافِعَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، أمّا في الدُّنْيا فَحَياتُهُ حَياةُ البَهائِمِ، ولَهُ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ، وأمّا في الآخِرَةِ فَلَهُ جَهَنَّمُ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الحَياةَ الطَّيِّبَةَ لِأهْلِ مَعْرِفَتِهِ ومَحَبَّتِهِ وعِبادَتِهِ، فَقالَ تَعالى:
﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] وقَدْ فُسِّرَتِ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ بِالقَناعَةِ والرِّضا، والرِّزْقِ الحَسَنِ وغَيْرِ ذَلِكَ، والصَّوابُ: أنَّها حَياةُ القَلْبِ ونَعِيمُهُ، وبَهْجَتُهُ وسُرُورُهُ بِالإيمانِ ومَعْرِفَةُ اللَّهِ، ومَحَبَّتُهُ، والإنابَةُ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لا حَياةَ أطْيَبُ مِن حَياةِ صاحِبِها، ولا نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إلّا نَعِيمَ الجَنَّةِ، كَما كانَ بَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أوْقاتٌ أقُولُ فِيها إنْ كانَ أهْلُ الجَنَّةِ في مِثْلِ هَذا إنَّهم لَفي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وقالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِالقَلْبِ أوْقاتٌ يَرْقُصُ فِيها طَرَبًا.
وَإذا كانَتْ حَياةُ القَلْبِ حَياةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَياةُ الجَوارِحِ، فَإنَّهُ مَلَكَها، ولِهَذا جَعَلَ اللَّهُ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وهي عَكْسُ الحَياةِ الطَّيِّبَةِ.
وَهَذِهِ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاثِ، أعْنِي: دارَ الدُّنْيا، ودارَ البَرْزَخِ، ودارَ القَرارِ، والمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أيْضًا تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاثِ، فالأبْرارُ في النَّعِيمِ هُنا وهُنالِكَ، والفُجّارُ في الجَحِيمِ هُنا وهُنالِكَ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: ٣٠]، وقالَ تَعالى:
﴿وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: ٣]فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ، والإقْبالُ عَلَيْهِ ضامِنٌ لِأطْيَبِ الحَياةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والإعْراضُ عَنْهُ والغَفْلَةُ ومَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالحَياةِ المُنَغَّصَةِ، والمَعِيشَةِ الضَّنْكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
[الحَياةُ المَقْصُودَةُ هُنا ثَلاثَةُ أشْياءَ]
* [فَصْلٌ الحَياةُ الأُولى حَياةُ العِلْمِ مِن مَوْتِ الجَهْلِ وهي عَشْرُ مَراتِبَ]
قالَ صاحِبُ المَنازِلِ: الحَياةُ في هَذا البابِ: يُشارُ بِها إلى ثَلاثَةِ أشْياءَ، الحَياةُ الأُولى: حَياةُ العِلْمِ مِن مَوْتِ الجَهْلِ، ولَها ثَلاثَةُ أنْفاسٍ: نَفْسُ الخَوْفِ، ونَفْسُ الرَّجاءِ، ونَفْسُ المَحَبَّةِ.
قَوْلُهُ " الحَياةُ في هَذا البابِ " يُرِيدُ: الحَياةَ الخاصَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْها القَوْمُ دُونَ الحَياةِ العامَّةِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ، بَلْ بَيْنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ، ولِلْحَياةِ مَراتِبُ ونَحْنُ نُشِيرُ إلَيْها.
المَرْتَبَةُ الأُولى: حَياةُ الأرْضِ بِالنَّباتِ، قالَ تَعالى:
﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: ٦٥]، وقالَ في الماءِ:
﴿وَأحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ [ق: ١١]، وقالَ:
﴿وَأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وجَعَلَ هَذِهِ الحَياةَ دَلِيلًا عَلى الحَياةِ يَوْمَ المَعادِ، وهَذِهِ حَياةٌ حَقِيقَةٌ في هَذِهِ المَرْتَبَةِ، مُسْتَعْمَلَةٌ في كُلِّ لُغَةٍ، جارِيَةً عَلى ألْسُنِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، قالَ الشّاعِرُ يَمْدَحُ عَبْدَ المُطَّلِبِ:
بِشَيْبَةِ الحَمْدِ أحْيا اللَّهُ بَلْدَتَنا ∗∗∗ لَمّا فَقَدْنا الحَيا واجْلَوَّزَ المَطَرُ
وَهَذا أكْثَرُ مِن أنْ نَذْكُرَ شَواهِدَهُ.
المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: حَياةُ النُّمُوِّ والِاغْتِذاءِ. وهَذِهِ الحَياةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّباتِ والحَيَوانِ الَّذِي يَعِيشُ بِالغِذاءِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠].
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الشُّعُورِ: هَلْ تُحِلُّها الحَياةُ؟ عَلى قَوْلَيْنِ، والصَّوابُ: أنَّها تُحِلُّها حَياةُ النُّمُوِّ والغِذاءِ، دُونَ الحِسِّ والحَرَكَةِ، ولِهَذا لا تُنَجَّسُ بِالمَوْتِ، إذْ لَوْ أوْجَبَ لَها فِراقُ النُّمُوِّ والِاغْتِذاءِ النَّجاسَةَ، لَنَجَسَ الزَّرْعُ والشَّجَرُ لِمُفارَقَتِهِ هَذِهِ الحَياةُ لَهُ، ولِهَذا كانَ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ الشُّعُورَ لا تَنْجُسُ بِالمَوْتِ.
المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: حَياةُ الحَيَوانِ المُتَغَذِّي بِقَدْرٍ زائِدٍ عَلى نُمُوِّهِ واغْتِذائِهِ، وهي إحْساسُهُ وحَرَكَتُهُ، ولِهَذا يَأْلَمُ بِوُرُودِ الكَيْفِيّاتِ المُؤْلِمَةِ عَلَيْهِ، وبِتَفَرُّقِ الِاتِّصالِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وهَذِهِ الحَياةُ فَوْقَ حَياةِ النَّباتِ، وهَذِهِ الحَياةُ تَقْوى وتَضْعُفُ في الحَيَوانِ الواحِدِ بِحَسَبِ أحْوالِهِ، فَحَياتُهُ بَعْدَ الوِلادَةِ: أكْمَلُ مِنها وهو جَنِينٌ في بَطْنِ أُمِّهِ، وحَياتُهُ وهو صَحِيحٌ مُعافى أكْمَلُ مِنها وهو سَقِيمٌ عَلِيلٌ.
فَنَفْسُ هَذِهِ الحَياةِ تَتَفاوَتُ تَفاوُتًا عَظِيمًا في مَحالِّها، فَحَياةُ الحَيَّةِ أكْمَلُ مِن حَياةِ البَعُوضَةِ، ومَن قالَ غَيْرَ هَذا فَقَدَ كابَرَ الحِسَّ والعَقْلَ.
المَرْتَبَةُ الرّابِعَةُ: حَياةُ الحَيَوانِ الَّذِي لا يَتَغَذّى بِالطَّعامِ والشَّرابِ، كَحَياةِ المَلائِكَةِ، وحَياةِ الأرْواحِ بَعْدَ مُفارَقَتِها لِأبْدانِها، فَإنَّ حَياتَها أكْمَلُ مِن حَياةِ الحَيَوانِ المُتَغَذِّي، ولِهَذا لا يَلْحَقُها كَلالٌ ولا فُتُورٌ، ولا نَوْمٌ ولا إعْياءٌ، قالَ تَعالى:
﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] وكَذَلِكَ الأرْواحُ إذا تَخَلَّصَتْ مِن هَذِهِ الأبْدانِ، وتَجَرَّدَتْ: صارَ لَها حَياةٌ أُخْرى أكْمَلُ مِن هَذِهِ إنْ كانَتْ سَعِيدَةً، وإنْ كانَتْ شَقِيَّةً كانَتْ عامِلَةً ناصِبَةً في العَذابِ.
المَرْتَبَةُ الخامِسَةُ: الحَياةُ الَّتِي أشارَ إلَيْها المُصَنِّفُ، وهي حَياةُ العِلْمِ مِن مَوْتِ الجَهْلِ، فَإنَّ الجَهْلَ مَوْتٌ لِأصْحابِهِ، كَما قِيلَ:
وَفِي الجَهْلِ قَبْلَ المَوْتِ مَوْتٌ لِأهْلِهِ ∗∗∗ وأجْسامُهم قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ
وَأرْواحُهم في وحْشَةٍ مِن جُسُومِهِمْ ∗∗∗ فَلَيْسَ لَهم حَتّى النُّشُورِ نُشُورُ
فَإنَّ الجاهِلَ مَيِّتُ القَلْبِ والرُّوحِ، وإنْ كانَ حَيَّ البَدَنِ فَجَسَدُهُ قَبْرٌ يَمْشِي بِهِ عَلى وجْهِ الأرْضِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وقالَ تَعالى:
﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكافِرِينَ﴾ [يس: ٦٩-٧٠] وقالَ تَعالى:
﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ [النمل: ٨٠]، وقالَ تَعالى:
﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢]وَشَبَّهَهم في مَوْتِ قُلُوبِهِمْ بِأهْلِ القُبُورِ، فَإنَّهم قَدْ ماتَتْ أرْواحُهُمْ، وصارَتْ أجْسامُهم قُبُورًا لَها، فَكَما أنَّهُ لا يَسْمَعُ أصْحابُ القُبُورِ، كَذَلِكَ لا يَسْمَعُ هَؤُلاءِ، وإذا كانَتِ الحَياةُ هي الحِسُّ والحَرَكَةُ ومَلْزُومُهُما، فَهَذِهِ القُلُوبُ لَمّا لَمْ تُحِسَّ بِالعِلْمِ والإيمانِ، ولَمْ تَتَحَرَّكْ لَهُ: كانَتْ مَيْتَةً حَقِيقِةً، ولَيْسَ هَذا تَشْبِيهًا لِمَوْتِها بِمَوْتِ البَدَنِ، بَلْ ذَلِكَ مَوْتُ القَلْبِ والرُّوحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ في كِتابِ الزُّهْدِ مِن كَلامِ لُقْمانَ، أنَّهُ قالَ لِابْنِهِ: يا بُنَيَّ جالِسِ العُلَماءَ، وزاحِمْهم بِرُكْبَتَيْكَ، فَإنَّ اللَّهَ يُحْيِي القُلُوبَ بِنُورِ الحِكْمَةِ، كَما يُحْيِي الأرْضَ بِوابِلِ القَطْرِ، وقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ تَعَلَّمُوا العِلْمَ، فَإنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وطَلَبَهُ عِبادَةٌ، ومُذاكَرَتَهٌ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَن لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وبَذْلَهُ لِأهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأنَّهُ مَعالِمُ الحَلالِ والحَرامِ، ومَنارُ سُبُلِ أهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنِيسُ في الوَحْشَةِ، والصّاحِبُ في الغُرْبَةِ، والمُحَدِّثُ في الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلى السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، والسِّلاحُ عَلى الأعْداءِ، والزَّيْنُ عِنْدَ الأخِلّاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أقْوامًا، فَيَجْعَلُهم في الخَيْرِ قادَةً، وأئِمَّةً تُقْتَصُّ آثارُهُمْ، ويُقْتَدى بِأفْعالِهِمْ، ويُنْتَهى إلى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ المَلائِكَةُ في خُلَّتِهِمْ، وبِأجْنِحَتِها تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهم كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ، وحِيتانُ البَحْرِ وهَوامُّهُ، وسِباعُ البَرِّ وأنْعامُهُ؛ لِأنَّ العِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ، ومَصابِيحُ الأبْصارِ مِنَ الظُّلَمِ، يَبْلُغُ العَبْدُ بِالعِلْمِ مَنازِلَ الأخْيارِ، والدَّرَجاتِ العُلى في الدُّنْيا والآخِرَةِ، التَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيامَ، ومُدارَسَتُهُ تَعْدِلُ القِيامَ، بِهِ تُوصَلُ الأرْحامُ، وبِهِ يُعْرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرامِ، وهو إمامُ العَمَلِ، والعَمَلُ تابِعٌ لَهُ يُلْهَمُهُ السُّعَداءُ، ويُحْرَمُهُ الأشْقِياءَ. رَواهُ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُما، وقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ، والوَقْفُ أصَحُّ.
والمَقْصُودُ: قَوْلُهُ؛ لِأنَّ العِلْمَ حَياةُ القُلُوبِ مِنَ الجَهْلِ فالقَلْبُ مَيِّتٌ، وحَياتُهُ بِالعِلْمِ والإيمانِ.
المَرْتَبَةُ السّادِسَةُ: حَياةُ الإرادَةِ والهِمَّةِ.
وَضَعْفُ الإرادَةِ والطَّلَبِ: مِن ضَعْفِ حَياةِ القَلْبِ، وكُلَّما كانَ القَلْبُ أتَمَّ حَياةٍ، كانَتْ هِمَّتُهُ أعْلى وإرادَتُهُ ومَحَبَّتُهُ أقْوى، فَإنَّ الإرادَةَ والمَحَبَّةَ تَتْبَعُ الشُّعُورَ بِالمُرادِ المَحْبُوبِ، وسَلامَةُ القَلْبِ مِنَ الآفَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ طَلَبِهِ وإرادَتِهِ، فَضَعْفُ الطَّلَبِ، وفُتُورُ الهِمَّةِ إمّا مِن نُقْصانِ الشُّعُورِ والإحْسانِ، وإمّا مِن وُجُودِ الآفَةِ المُضْعِفَةِ لِلْحَياةِ، فَقُوَّةُ الشُّعُورِ، وقُوَّةُ الإرادَةِ دَلِيلٌ عَلى قُوَّةِ الحَياةِ، وضَعْفُها دَلِيلٌ عَلى ضَعْفِها، وكَما أنَّ عُلُوَّ الهِمَّةِ، وصِدْقَ الإرادَةِ والطَّلَبِ مِن كَمالِ الحَياةِ: فَهو سَبَبٌ إلى حُصُولِ أكْمَلِ الحَياةِ وأطْيَبِها، فَإنَّ الحَياةَ الطَّيِّبَةَ إنَّما تُنالُ بِالهِمَّةِ العالِيَةِ، والمَحَبَّةِ الصّادِقَةِ، والإرادَةِ الخالِصَةِ، فَعَلى قَدْرِ ذَلِكَ تَكُونُ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ، وأخَسُّ النّاسِ حَياةً أخَسُّهم هِمَّةً، وأضْعَفُهم مَحَبَّةً وطَلَبًا، وحَياةُ البَهائِمِ خَيْرٌ مِن حَياتِهِ. كَما قِيلَ:
نَهارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وغَفْلَةٌ ∗∗∗ ولَيْلُكُ نَوْمٌ والرَّدى لَكَ لازِمُ
وَتَكْدَحُ فِيما سَوْفَ تُنْكِرُ غِبَّهُ ∗∗∗ كَذَلِكَ في الدُّنْيا تَعِيشُ البَهائِمُ
تُسَرُّ بِما يَفْنى وتَفْرَحُ بِالمُنى ∗∗∗ كَما غُرَّ بِاللَّذّاتِ في النَّوْمِ حالِمُ
والمَقْصُودُ: أنَّ حَياةَ القَلْبِ بِالعِلْمِ والإرادَةِ والهِمَّةِ، والنّاسُ إذا شاهَدُوا ذَلِكَ مِنَ الرَّجُلِ قالُوا: هو حَيُّ القَلْبِ، وحَياةُ القَلْبِ بِدَوامِ الذِّكْرِ، وتَرْكِ الذُّنُوبِ، كَما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ. رَحِمَهُ اللَّهُ:
رَأيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ∗∗∗ وقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَياةُ القُلُوبِ ∗∗∗ وخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيانُهُا
وَهَلْ أفْسَدَ الدِّينَ إلّا المُلُو ∗∗∗ كُ وأحْبارُ سُوءٍ ورُهْبانُها
وَباعُوا النُّفُوسَ ولَمْ يَرْبَحُوا ∗∗∗ ولَمْ يَغْلُ في البَيْعِ أثْمانُها
فَقَدْ رَتَعَ القَوْمُ في جِيفَةٍ ∗∗∗ يَبِينُ لِذِي اللُّبِّ خُسْرانُها
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: مَن واظَبَ عَلى " يا حَيُّ يا قَيُّومُ. لا إلَهَ إلّا أنْتَ " كَلَّ يَوْمٍ بَيْنَ سُنَّةِ الفَجْرِ وصَلاةِ الفَجْرِ أرْبَعِينَ مَرَّةً أحْيى اللَّهُ بِها قَلْبَهُ.
وَكَما أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ حَياةَ البَدَنِ بِالطَّعامِ والشَّرابِ، فَحَياةُ القَلْبِ بِدَوامِ الذِّكْرِ، والإنابَةِ إلى اللَّهِ، وتَرْكِ الذُّنُوبِ، والغَفْلَةِ الجاثِمَةِ عَلى القَلْبِ، والتَّعَلُّقِ بِالرَّذائِلِ والشَّهَواتِ المُنْقَطِعَةِ عَنْ قَرِيبٍ يُضْعِفُ هَذِهِ الحَياةَ، ولا يَزالُ الضَّعْفُ يَتَوالى عَلَيْهِ حَتّى يَمُوتَ، وعَلامَةُ مَوْتِهِ: أنَّهُ لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، كَما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أتَدْرُونَ مَن مَيِّتُ القَلْبِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ:
لَيْسَ مَن ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيِّتٍ ∗∗∗ إنَّما المَيِّتُ مَيِّتُ الأحْياءِ
قالُوا: ومَن هُوَ؟ قالَ: الَّذِي لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا.
والرَّجُلُ: هو الَّذِي يَخافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لا مَوْتَ بَدَنِهِ، إذْ أكْثَرُ هَؤُلاءِ الخَلْقِ يَخافُونَ مَوْتَ أبْدانِهِمْ، ولا يُبالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِمْ، ولا يَعْرِفُونَ مِنَ الحَياةِ إلّا الحَياةَ الطَّبِيعِيَّةَ، وذَلِكَ مِن مَوْتِ القَلْبِ والرُّوحِ، فَإنَّ هَذِهِ الحَياةَ الطَّبِيعِيَّةَ شَبِيهَةٌ بِالظِّلِّ الزّائِلِ، والنَّباتِ السَّرِيعِ الجَفافِ، والمَنامِ الَّذِي يُخَيَّلُ كَأنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَإذا اسْتَيْقَظَ عَرَفَ أنَّهُ كانَ خَيالًا، كَما قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا مِن أوَّلِها إلى آخِرِها أُوتِيَها رَجُلٌ واحِدٌ، ثُمَّ جاءَهُ المَوْتُ: لَكانَ بِمَنزِلَةِ مَن رَأى في مَنامِهِ ما يَسُرُّهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإذا لَيْسَ في يَدِهِ شَيْءٌ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ المَوْتَ مَوْتانِ: مَوْتٌ إرادِيٌّ، ومَوْتٌ طَبِيعِيٌّ، فَمَن أماتَ نَفْسَهُ مَوْتًا إرادِيًّا كانَ مَوْتُهُ الطَّبِيعِيُّ حَياةً لَهُ، ومَعْنى هَذا أنَّ المَوْتَ الإرادِيَّ: هو قَمْعُ الشَّهَواتِ المُرْدِيَةِ، وإخْمادُ نِيرانِها المُحْرِقَةِ، وتَسْكِينُ هَوائِجِها المُتْلِفَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَفَرَّغُ القَلْبُ والرُّوحُ لِلتَّفَكُّرِ فِيما فِيهِ كَمالُ العَبْدِ، ومَعْرِفَتِهِ، والِاشْتِغالِ بِهِ. ويَرى حِينَئِذٍ أنَّ إيثارَ الظِّلِّ الزّائِلِ عَنْ قَرِيبٍ عَلى العَيْشِ اللَّذِيذِ الدّائِمِ أخْسَرُ الخُسْرانِ، فَأمّا إذا كانَتِ الشَّهَواتُ وافِدَةً، واللَّذّاتُ مُؤْثَرَةً، والعَوائِدُ غالِبَةً، والطَّبِيعَةُ حاكِمَةً، فالقَلْبُ حِينَئِذٍ إمّا أنْ يَكُونَ أسِيرًا ذَلِيلًا، أوْ مَهْزُومًا مُخْرَجًا عَنْ وطَنِهِ ومُسْتَقَرِّهِ الَّذِي لا قَرارَ لَهُ إلّا فِيهِ أوْ قَتِيلًا مَيِّتًا، وما لِجُرْحٍ بِهِ إيلامٌ، وأحْسَنُ أحْوالِهِ: أنْ يَكُونَ في حَرْبٍ، يُدالُ لَهُ فِيها مَرَّةً، ويُدالُ عَلَيْهِ مَرَّةً، فَإذا ماتَ العَبْدُ مَوْتَهُ الطَّبِيعِيَّ، كانَتْ بَعْدَهُ حَياةُ رُوحِهِ بِتِلْكَ العُلُومِ النّافِعَةِ، والأعْمالِ الصّالِحَةِ، والأحْوالِ الفاضِلَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِإماتَةِ نَفْسِهِ، فَتَكُونُ حَياتُهُ هاهُنا عَلى حَسَبِ مَوْتِهِ الإرادِيِّ في هَذِهِ الدّارِ.
وَهَذا مَوْضِعٌ لا يَفْهَمُهُ إلّا ألِبّاءُ النّاسِ وعُقَلاؤُهُمْ، ولا يَعْمَلُ بِمُقْتَضاهُ إلّا أهْلُ الهِمَمِ العَلِيَّةِ، والنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ الأبِيَّةِ.
المَرْتَبَةُ السّابِعَةُ مِن مَراتِبِ الحَياةِ:
حَياةُ الأخْلاقِ، والصِّفاتُ المَحْمُودَةُ، الَّتِي هي حَياةٌ راسِخَةٌ لِلْمَوْصُوفِ بِها، فَهو لا يَتَكَلَّفُ التَّرَقِّيَ في دَرَجاتِ الكَمالِ، ولا يَشُقُّ عَلَيْهِ، لِاقْتِضاءِ أخْلاقِهِ وصِفاتِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ فارَقَهُ ذَلِكَ لَفارَقَ ما هو مِن طَبِيعَتِهِ وسَجِيَّتِهِ، فَحَياةُ مَن قَدْ طُبِعَ عَلى الحَياءِ والعِفَّةِ والجُودِ والسَّخاءِ، والمُرُوءَةِ والصِّدْقِ والوَفاءِ ونَحْوِها أتَمُّ مِن حَياةِ مَن يَقْهَرُ نَفْسَهُ، ويُغالِبُ طَبْعَهُ، حَتّى يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإنَّ هَذا بِمَنزِلَةِ مَن تُعارِضُهُ أسْبابُ الدّاءِ وهو يُعالِجُها ويَقْهَرُها بِأضْدادِها، وذَلِكَ بِمَنزِلَةِ مَن قَدْ عُوفِيَ مِن ذَلِكَ.
وَكُلَّما كانَتْ هَذِهِ الأخْلاقُ في صاحِبِها أكْمَلَ كانَتْ حَياتُهُ أقْوى وأتَمَّ، ولِهَذا كانَ خَلْقُ الحَياءِ مُشْتَقًّا مِنَ الحَياةِ اسْمًا وحَقِيقَةً، فَأكْمَلُ النّاسِ حَياةً: أكْمَلُهم حَياءً، ونُقْصانُ حَياءِ المَرْءِ مِن نُقْصانِ حَياتِهِ، فَإنَّ الرُّوحَ إذا ماتَتْ لَمْ تُحِسَّ بِما يُؤْلِمُها مِنَ القَبائِحِ، فَلا تَسْتَحِي مِنها، فَإذا كانَتْ صَحِيحَةَ الحَياةِ أحَسَّتْ بِذَلِكَ، فاسْتَحْيَتْ مِنهُ، وكَذَلِكَ سائِرُ الأخْلاقِ الفاضِلَةِ، والصِّفاتِ المَمْدُوحَةِ تابِعَةٌ لِقُوَّةِ الحَياةِ، وضِدِّها مِن نُقْصانِ الحَياةِ، ولِهَذا كانَتْ حَياةُ الشُّجاعِ أكْمَلَ مِن حَياةِ الجَبانِ، وحَياةُ السَّخِيِّ أكْمَلَ مِن حَياةِ البَخِيلِ، وحَياةُ الفَطِنِ الذَّكِيِّ أكْمَلَ مِن حَياةِ الفَدْمِ البَلِيدِ، ولِهَذا لَمّا كانَ الأنْبِياءُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أكْمَلَ النّاسِ حَياةً حَتّى إنَّ قُوَّةَ حَياتِهِمْ تَمْنَعُ الأرْضَ أنْ تُبْلِيَ أجْسامَهم كانُوا أكْمَلَ النّاسِ في هَذِهِ الأخْلاقِ، ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ مِن أتْباعِهِمْ.
فانْظُرِ الآنَ إلى حَياةِ
﴿حَلّافٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: ١٠]،
﴿مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أثِيمٍ﴾ [القلم: ١٢]،
﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: ١٣]، وحَياةُ جَوّادٍ شُجاعٍ، بَرٍّ عادِلٍ عَفِيفٍ مُحْسِنٍ تَجِدُ الأوَّلَ مَيِّتًا بِالنِّسْبَةِ إلى الثّانِي، ولِلَّهِ دَرُّ القائِلِ:
وَما لِلْمَرْءِ خَيْرٌ في حَياةٍ ∗∗∗ إذا ما عُدَّ مَن سَقْطِ المَتاعِ
المَرْتَبَةُ الثّامِنَةُ مِن مَراتِبِ الحَياةِ: حَياةُ الفَرَحِ والسُّرُورِ، وقُرَّةُ العَيْنِ بِاللَّهِ، وهَذِهِ الحَياةُ إنَّما تَكُونُ بَعْدَ الظَّفَرِ بِالمَطْلُوبِ، الَّذِي تَقَرُّ بِهِ عَيْنُ طالِبِهِ، فَلا حَياةَ نافِعَةً لَهُ بِدُونِهِ، وحَوْلَ هَذِهِ الحَياةِ يُدَنْدِنُ النّاسُ كُلُّهُمْ، وكُلُّهم قَدْ أخْطَأ طَرِيقَها، وسَلَكَ طُرُقًا لا تُفْضِي إلَيْها، بَلْ تَقْطَعُهُ عَنْها، إلّا أقَلَّ القَلِيلِ.
فَدارَ طَلَبُ الكُلِّ حَوْلَ هَذِهِ الحَياةِ، وحُرِمَها أكْثَرُهم.
وَسَبَبُ حِرْمانِهِمْ إيّاها: ضَعْفُ العَقْلِ والتَّمْيِيزِ والبَصِيرَةِ، وضَعْفُ الهِمَّةِ والإرادَةِ، فَإنَّ مادَّتَها بَصِيرَةٌ وقادَةٌ، وهِمَّةٌ نَقّادَةٌ، والبَصِيرَةُ كالبَصَرِ تَكُونُ عَمًى وعَوَرًا وعَمَشًا ورَمَدًا، وتامَّةَ النُّورِ والضِّياءِ، وهَذِهِ الآفاتُ قَدْ تَكُونُ لَها بِالخِلْقَةِ في الأصْلِ، وقَدْ تَحْدُثُ فِيها بِالعَوارِضِ الكَسْبِيَّةِ.
والمَقْصُودُ: أنَّ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مِن مَراتِبِ الحَياةِ هي أعْلى مَراتِبِها، ولَكِنْ كَيْفَ يَصِلُ إلَيْها مَن عَقْلُهُ مَسْبِيٌّ في بِلادِ الشَّهَواتِ، وأمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَلى اجْتِناءِ اللَّذّاتِ، وسِيرَتُهُ جارِيَةٌ عَلى أسْوَأِ العاداتِ، ودِينُهُ مُسْتَهْلَكٌ بِالمَعاصِي والمُخالَفاتِ، وهِمَّتُهُ واقِفَةٌ مَعَ السُّفْلِيّاتِ، وعَقِيدَتُهُ غَيْرُ مُتَلَقّاةٍ مِن مِشْكاةِ النُّبُوّاتِ؟!
فَهُوَ في الشَّهَواتِ مُنْغَمِسٌ، وفي الشُّبْهاتِ مُنْتَكِسٌ، وعَنِ النّاصِحِ مُعْرِضٌ، وعَلى المُرْشِدِ مُعْتَرِضٌ، وعَنِ السَّرّاءِ نائِمٌ، وقَلْبُهُ في كُلِّ وادٍ هائِمٌ، فَلَوْ أنَّهُ تَجَرَّدَ مِن نَفْسِهِ، ورَغِبَ عَنْ مُشارَكَةِ أبْناءِ جِنْسِهِ، وخَرَجَ مِن ضِيقِ الجَهْلِ إلى فَضاءِ العِلْمِ، ومِن سِجْنِ الهَوى إلى ساحَةِ الهُدى، ومِن نَجاسَةِ النَّفْسِ، إلى طَهارَةِ القُدْسِ لَرَأى الإلْفَ الَّذِي نَشَأ بِنَشْأتِهِ، وزادَ بِزِيادَتِهِ، وقَوِيَ بِقُوَّتِهِ، وشَرُفَ عِنْدَ نَفْسِهِ وأبْناءِ جِنْسِهِ بِحُصُولِهِ، وسَدِّ قَذًى في عَيْنِ بَصِيرَتِهِ، وشَجا في حَلْقِ إيمانِهِ، ومَرَضًا مُتَرامِيًا إلى هَلاكِهِ،
فَإنْ قُلْتَ: قَدْ أشَرْتَ إلى حَياةٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ بَيْنَ أمْواتِ الأحْياءِ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ وصْفُ طَرِيقِها، لِأصِلَ إلى شَيْءٍ مِن أذْواقِها، فَقَدْ بانَ لِيَ أنَّ ما نَحْنُ فِيهِ مِنَ الحَياةِ حَياةٌ بَهِيمِيَّةٌ، رُبَّما زادَتْ عَلَيْنا فِيهِ البَهائِمُ بِخُلُوِّها عَنِ المُنْكَراتِ والمُنَغِّصاتِ وسَلامَةِ العاقِبَةِ؟
قُلْتُ: لَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ اشْتِياقَكَ إلى هَذِهِ الحَياةِ، وطَلَبَ عِلْمِها ومَعْرِفَتِها: لَدَلِيلٌ عَلى حَياتِكَ، وأنَّكَ لَسْتَ مِن جُمْلَةِ الأمْواتِ.
فَأوَّلُ طَرِيقِها: أنْ تَعْرِفَ اللَّهَ، وتَهْتَدِيَ إلَيْهِ طَرِيقًا يُوَصِّلُكَ إلَيْهِ، ويُحْرِقُ ظُلُماتِ الطَّبْعِ بِأشِعَّةِ البَصِيرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شاهِدٌ مِن شَواهِدِ الآخِرَةِ، فَيَنْجَذِبُ إلَيْها بِكُلِّيَّتِهِ، ويَزْهَدُ في التَّعَلُّقاتِ الفانِيَةِ، ويَدْأبُ في تَصْحِيحِ التَّوْبَةِ، والقِيامِ بِالمَأْمُوراتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وتَرْكِ المَنهِيّاتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، ثُمَّ يَقُومُ حارِسًا عَلى قَلْبِهِ، فَلا يُسامِحُهُ بِخَطْرَةٍ يَكْرَهُها اللَّهُ، ولا بِخَطْرَةِ فُضُولٍ لا تَنْفَعُهُ، فَيَصْفُو بِذَلِكَ قَلْبُهُ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ووَسْواسِها، فَيُفْدى مِن أسْرِها، ويَصِيرُ طَلِيقًا، فَحِينَئِذٍ يَخْلُو قَلْبُهُ بِذِكْرِ رَبِّهِ، ومَحَبَّتِهِ والإنابَةِ إلَيْهِ، ويَخْرُجُ مِن بَيْنِ بُيُوتِ طَبْعِهِ ونَفْسِهِ، إلى فَضاءِ الخُلْوَةِ بِرَبِّهِ وذِكْرِهِ، كَما قِيلَ:
وَأخْرُجُ مِن بَيْنِ البُيُوتِ لَعَلَّنِي ∗∗∗ أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ في السِّرِّ خالِيًا
فَحِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ وخَواطِرُهُ وحَدِيثُ نَفْسِهِ عَلى إرادَةِ رَبِّهِ، وطَلَبِهِ والشَّوْقِ إلَيْهِ.
فَإذا صَدَقَ في ذَلِكَ رُزِقَ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ ﷺ، واسْتَوْلَتْ رُوحانِيَّتُهُ عَلى قَلْبِهِ، فَجَعَلَهُ إمامَهُ ومُعَلِّمَهُ، وأُسْتاذَهُ وشَيْخَهُ وقُدْوَتَهُ، كَما جَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ورَسُولَهُ وهادِيًا إلَيْهِ، فَيُطالِعُ سِيرَتَهُ ومَبادِئَ أمْرِهِ، وكَيْفِيَّةَ نُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ، ويَعْرِفُ صِفاتِهُ وأخْلاقَهُ، وآدابَهُ في حَرَكاتِهِ وسُكُونِهِ ويَقَظَتِهِ ومَنامِهِ، وعِبادَتِهِ ومُعاشَرَتِهِ لِأهْلِهِ وأصْحابِهِ، حَتّى يَصِيرَ كَأنَّهُ مَعَهُ مِن بَعْضِ أصْحابِهِ.
فَإذا رَسَخَ قَلْبُهُ في ذَلِكَ: فَتَحَ عَلَيْهِ بِفَهْمِ الوَحْيِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ مِن رَبِّهِ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَأ السُّورَةَ شاهَدَ قَلْبُهُ ما أُنْزِلَتْ فِيهِ، وما أُرِيدَ بِها، وحَظَّهُ المُخْتَصَّ بِهِ مِنها مِنَ الصِّفاتِ والأخْلاقِ والأفْعالِ المَذْمُومَةِ، فَيَجْتَهِدُ في التَّخَلُّصِ مِنها كَما يَجْتَهِدُ في الشِّفاءِ مِنَ المَرَضِ المَخُوفِ، وشاهَدَ حَظَّهُ مِنَ الصِّفاتِ والأفْعالِ المَمْدُوحَةِ، فَيَجْتَهِدُ في تَكْمِيلِها وإتْمامِها.
فَإذا تَمَكَّنَ مِن ذَلِكَ انْفَتَحَ في قَلْبِهِ عَيْنٌ أُخْرى، يُشاهِدُ بِها صِفاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ، حَتّى تَصِيرَ لِقَلْبِهِ بِمَنزِلَةِ المَرْئِيِّ لِعَيْنِهِ، فَيَشْهَدُ عُلُوَّ الرَّبِّ سُبْحانَهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، واسْتِواءَهُ عَلى عَرْشِهِ، ونُزُولَ الأمْرِ مِن عِنْدِهِ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وتَكْلِيمَهُ بِالوَحْيِ، وتَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ جِبْرِيلَ بِهِ، وإرْسالَهُ إلى مَن يَشاءُ بِما يَشاءُ، وصُعُودَ الأُمُورِ إلَيْهِ، وعَرْضَها عَلَيْهِ.
فَيُشاهِدُ قَلْبُهُ رَبًّا قاهِرًا فَوْقَ عِبادِهِ، آمِرًا ناهِيًا، باعِثًا لِرُسُلِهِ، مُنْزِلًا لِكُتُبِهِ، مَعْبُودًا مُطاعًا، لا شَرِيكَ لَهُ، ولا مَثِيلَ، ولا عَدْلَ لَهُ، لَيْسَ لِأحَدٍ مَعَهُ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الأمْرُ كُلُّهُ لَهُ، فَيَشْهَدُ رَبَّهُ سُبْحانَهُ قائِمًا بِالمُلْكِ والتَّدْبِيرِ، فَلا حَرَكَةَ ولا سُكُونَ، ولا نَفْعَ ولا ضَرَّ، ولا عَطاءَ ولا مَنعَ، ولا قَبْضَ ولا بَسْطَ إلّا بِقُدْرَتِهِ وتَدْبِيرِهِ، فَيَشْهَدُ قِيامَ الكَوْنِ كُلِّهِ بِهِ، وقِيامَهُ سُبْحانَهُ بِنَفْسِهِ، فَهو القائِمُ بِنَفْسِهِ، المُقِيمُ لِكُلِّ ما سِواهُ.
فَإذا رَسَخَ قَلْبُهُ في ذَلِكَ شَهِدَ الصِّفَةَ المُصَحِّحَةَ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ، وهي الحَياةُ الَّتِي كَمالُها يَسْتَلْزِمُ كَمالَ السَّمْعِ والبَصَرِ والقُدْرَةِ والإرادَةِ والكَلامِ وسائِرِ صِفاتِ الكَمالِ، وصِفَةَ القَيُّومِيَّةِ الصَّحِيحَةِ المُصَحِّحَةِ لِجَمِيعِ الأفْعالِ، فالحَيُّ القَيُّومُ: مَن لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمالٍ، وهو الفَعّالُ لِما يُرِيدُ.
فَإذا رَسَخَ قَلْبُهُ في ذَلِكَ: فَتَحَ لَهُ مَشْهَدَ القُرْبِ والمَعِيَّةِ فَيَشْهَدُهُ سُبْحانَهُ مَعَهُ، غَيْرَ غائِبٍ عَنْهُ، قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ، مَعَ كَوْنِهِ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ، بائِنًا مِن خَلْقِهِ، قائِمًا بِالصُّنْعِ والتَّدْبِيرِ، والخَلْقِ والأمْرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ التَّعْظِيمِ والإجْلالِ الأُنْسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَأْنَسُ بِهِ بَعْدَ أنْ كانَ مُسْتَوْحِشًا، ويَقْوى بِهِ بَعْدَ أنْ كانَ ضَعِيفًا، ويَفْرَحُ بِهِ بَعْدَ أنْ كانَ حَزِينًا، ويَجِدُ بَعْدَ أنْ كانَ فاقِدًا، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ طَعْمَ قَوْلِهِ: "
«وَلا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، ولَئِنْ سَألَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».
فَأطْيَبُ الحَياةِ عَلى الإطْلاقِ حَياةُ هَذا العَبْدِ، فَإنَّهُ مُحِبٌّ مَحْبُوبٌ، مُتَقَرِّبٌ إلى رَبِّهِ، ورَبُّهُ قَرِيبٌ مِنهُ، قَدْ صارَ لَهُ حَبِيبُهُ لِفَرْطِ اسْتِيلائِهِ عَلى قَلْبِهِ ولَهَجِهِ بِذِكْرِهِ وعُكُوفِ هِمَّتِهِ عَلى مَرْضاتِهِ بِمَنزِلَةِ سَمْعِهِ وبَصَرِهِ ويَدِهِ ورِجْلِهِ، وهَذِهِ آلاتُ إدْراكِهِ وعَمَلِهِ وسَعْيِهِ، فَإنْ سَمِعَ سَمِعَ بِحَبِيبِهِ، وإنْ أبْصَرَ أبْصَرَ بِهِ، وإنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وإنْ مَشى مَشى بِهِ.
فَإنْ صَعُبَ عَلَيْكَ فَهْمُ هَذا المَعْنى، وكَوْنُ المُحِبِّ الكامِلِ المَحَبَّةِ يَسْمَعُ ويُبْصِرُ ويَبْطِشُ ويَمْشِي بِمَحْبُوبِهِ، وذاتُهُ غائِبَةٌ عَنْهُ، فاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا، وخَلِّ هَذا الشَّأْنَ لِأهْلِهِ.
خَلِّ الهَوى لِأُناسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ ∗∗∗ قَدْ كابَدُوا الحُبَّ حَتّى لانَ أصْعَبُهُ
فَإنَّ السّالِكَ إلى رَبِّهِ لا تَزالُ هِمَّتُهُ عاكِفَةً عَلى أمْرَيْنِ؛ اسْتِفْراغُ القَلْبِ في صِدْقِ الحُبِّ، وبَذْلُ الجُهْدِ في امْتِثالِ الأمْرِ، فَلا يَزالُ كَذَلِكَ حَتّى يَبْدُوَ عَلى سِرِّهِ شَواهِدُ مَعْرِفَتِهِ، وآثارُ صِفاتِهِ وأسْمائِهِ، ولَكِنْ يَتَوارى عَنْهُ ذَلِكَ أحْيانًا، ويَبْدُو أحْيانًا، يَبْدُو مِن عَيْنِ الجُودِ، ويَتَوارى بِحُكْمِ الفَتْرَةِ، والفَتَراتُ أمْرٌ لازِمٌ لِلْعَبْدِ، فَكُلُّ عامِلٍ لَهُ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شِرَّةٌ فَتْرَةٌ، فَأعْلاها فَتْرَةُ الوَحْيِ؛ وهي لِلْأنْبِياءِ، وفَتْرَةُ الحالِ الخاصِّ لِلْعارِفِينَ، وفَتْرَةُ الهِمَّةِ لِلْمُرِيدِينَ، وفَتْرَةُ العَمَلِ لِلْعابِدِينَ، وفي هَذِهِ الفَتَراتِ أنْواعٌ مِنَ الحِكْمَةِ والرَّحْمَةِ، والتَّعَرُّفاتِ الإلَهِيَّةِ، وتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعْمَةِ، وتَجْدِيدِ الشَّوْقِ إلَيْها، ومَحْضِ التَّواجُدِ إلَيْها وغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلا تَزالُ تِلْكَ الشَّواهِدُ تَتَكَرَّرُ وتَتَزايَدُ، حَتّى تَسْتَقِرَّ، ويَنْصَبِغَ بِها قَلْبُهُ، وتَصِيرُ الفَتْرَةُ غَيْرَ قاطِعَةٍ لَهُ، بَلْ تَكُونُ نِعْمَةً عَلَيْهِ، وراحَةً لَهُ، وتَرْوِيحًا وتَنْفِيسًا عَنْهُ.
فَهِمَّةُ المُحِبِّ إذا تَعَلَّقَتْ رُوحُهُ بِحَبِيبِهِ، عاكِفًا عَلى مَزِيدِ مَحَبَّتِهِ، وأسْبابِ قُوَّتِها، فَهو يَعْمَلُ عَلى هَذا، ثُمَّ يَتَرَقّى مِنهُ إلى طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ، فَيَعْمَلُ عَلى حُصُولِ ذَلِكَ، ولا يُعْدَمُ الطَّلَبَ الأوَّلَ، ولا يُفارِقُهُ ألْبَتَّةَ، بَلْ يَنْدَرِجُ في هَذا الطَّلَبِ الثّانِي، فَتَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِالأمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَإنَّهُ إنَّما يَحْصُلُ لَهُ مَنزِلَةُ " كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " بِهَذا الأمْرِ الثّانِي، وهو كَوْنُهُ مَحْبُوبًا لِحَبِيبِهِ، كَما قالَ في الحَدِيثِ
«فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ» إلَخْ، فَهو يَتَقَرَّبُ إلى رَبِّهِ حِفْظًا لِمَحَبَّتِهِ لَهُ، واسْتِدْعاءً لِمَحَبَّةِ رَبِّهِ لَهُ.
فَحِينَئِذٍ يَشُدُّ مِئْزَرَ الجِدِّ في طَلَبِ مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ لَهُ بِأنْواعِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ، فَقَلْبُهُ؛ لِلْمَحَبَّةِ والإنابَةِ والتَّوَكُّلِ والخَوْفِ والرَّجاءِ، ولِسانُهُ؛ لِلذِّكْرِ وتِلاوَةِ كَلامِ حَبِيبِهِ، وجَوارِحُهُ: لِلطّاعاتِ، فَهو لا يَفْتُرُ عَنِ التَّقَرُّبِ مِن حَبِيبِهِ.
وَهَذا هو السَّيْرُ المُفْضِي إلى هَذِهِ الغايَةِ الَّتِي لا تُنالُ إلّا بِهِ، ولا يُتَوَصَّلُ إلَيْها إلّا مِن هَذا البابِ، وهَذِهِ الطَّرِيقِ، وحِينَئِذٍ تُجْمَعُ لَهُ في سَيْرِهِ جَمِيعُ مُتَفَرِّقاتِ السُّلُوكِ مِنَ الحُضُورِ والهَيْبَةِ والمُراقَبَةِ ونَفْيِ الخَواطِرِ وتَخْلِيَةِ الباطِنِ.
فَإنَّ المُحِبَّ يَشْرَعُ أوَّلًا في التَّقَرُّباتِ بِالأعْمالِ الظّاهِرَةِ، وهي ظاهِرُ التَّقَرُّبِ، ثُمَّ يَتَرَقّى مِن ذَلِكَ إلى حالِ التَّقَرُّبِ، وهو الِانْجِذابُ إلى حَبِيبِهِ بِكُلِّيَّتِهِ بِرُوحِهِ وقَلْبِهِ، وعَقْلِهِ وبَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَرَقّى مِن ذَلِكَ إلى حالِ الإحْسانِ، فَيَعْبُدُ اللَّهَ كَأنَّهُ يَراهُ، فَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ مِن باطِنِهِ بِأعْمالِ القُلُوبِ؛ مِنَ المَحَبَّةِ والإنابَةِ والتَّعْظِيمِ والإجْلالِ والخَشْيَةِ، فَيَنْبَعِثُ حِينَئِذٍ مِن باطِنِهِ الجُودُ بِبَذْلِ الرُّوحِ والجُودُ في مَحَبَّةِ حَبِيبِهِ بِلا تَكَلُّفٍ، فَيَجُودُ بِرُوحِهِ ونَفْسِهِ، وأنْفاسِهِ وإرادَتِهِ، وأعْمالِهِ لِحَبِيبِهِ حالًا لا تَكَلُّفًا، فَإذا وجَدَ المُحِبُّ ذَلِكَ فَقَدْ ظَفِرَ بِحالِ التَّقَرُّبِ وسِرِّهِ وباطِنِهِ، وإنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهو يَتَقَرَّبُ بِلِسانِهِ وبَدَنِهِ وظاهِرِهِ فَقَطْ، فَلْيَدُمْ عَلى ذَلِكَ، ولْيَتَكَلَّفِ التَّقَرُّبَ بِالأذْكارِ والأعْمالِ عَلى الدَّوامِ، فَعَساهُ أنْ يَحْظى بِحالِ القُرْبِ.
وَوَراءَ هَذا القُرْبِ الباطِنِ أمْرٌ آخَرُ أيْضًا، وهو شَيْءٌ لا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأحْسَنِ مِن عِبارَةِ أقْرَبِ الخَلْقِ إلى اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذا المَعْنى، حَيْثُ يَقُولُ حاكِيًا عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى:
«مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنهُ ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِراعًا تَقَرَّبْتُ مِنهُ باعًا، ومَن أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» فَيَجِدُ هَذا المُحِبُّ في باطِنِهِ ذَوْقَ مَعْنى هَذا الحَدِيثِ ذَوْقًا حَقِيقِيًّا.
فَذَكَرَ مِن مَراتِبِ القُرْبِ ثَلاثَةً، ونَبَّهَ بِها عَلى ما دُونَها وما فَوْقَها. فَذَكَرَ تَقَرُّبَ العَبْدِ إلَيْهِ بِالبِرِّ، وتَقَرُّبَهُ سُبْحانَهُ إلى العَبْدِ ذِراعًا، فَإذا ذاقَ العَبْدُ حَقِيقَةَ هَذا التَّقَرُّبِ انْتَقَلَ مِنهُ إلى تَقَرُّبِ الذِّراعِ، فَيَجِدُ ذَوْقَ تَقَرُّبِ الرَّبِّ إلَيْهِ باعًا.
فَإذا ذاقَ حَلاوَةَ هَذا القُرْبِ الثّانِي أسْرَعَ المَشْيَ حِينَئِذٍ إلى رَبِّهِ، فَيَذُوقُ حَلاوَةَ إتْيانِهِ إلَيْهِ هَرْوَلَةً، وهاهُنا مُنْتَهى الحَدِيثِ، مُنَبِّهًا عَلى أنَّهُ إذا هَرْوَلَ عَبْدُهُ إلَيْهِ كانَ قُرْبُ حَبِيبِهِ مِنهُ فَوْقَ هَرْوَلَةِ العَبْدِ إلَيْهِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ قَدْ أمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ لِعَظِيمِ شاهِدِ الجَزاءِ، أوْ لِأنَّهُ يَدْخُلُ في الجَزاءِ الَّذِي لَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، ولَمْ يَخْطُرْ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، أوْ إحالَةً لَهُ عَلى المَراتِبِ المُتَقَدِّمَةِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ وقِسْ عَلى هَذا، فَعَلى قَدْرِ ما تَبْذُلُ مِنكَ مُتَقَرِّبًا إلى رَبِّكَ يَتَقَرَّبُ إلَيْكَ بِأكْثَرَ مِنهُ، وعَلى هَذا فَلازِمُ هَذا التَّقَرُّبِ المَذْكُورِ في مَراتِبِهِ؛ أيْ مَن تَقَرَّبَ إلى حَبِيبِهِ بِرُوحِهِ وجَمِيعِ قُواهُ، وإرادَتِهِ وأقْوالِهِ وأعْمالِهِ تَقَرَّبَ الرَّبُّ مِنهُ سُبْحانَهُ بِنَفْسِهِ في مُقابَلَةِ تَقَرُّبِ عَبْدِهِ إلَيْهِ.
وَلَيْسَ القُرْبُ في هَذِهِ المَراتِبِ كُلِّها قُرْبَ مَسافَةٍ حِسِّيَّةٍ ولا مُماسَّةٍ، بَلْ هو قُرْبٌ حَقِيقِيٌّ، والرَّبُّ تَعالى فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ، والعَبْدُ في الأرْضِ.
وَهَذا المَوْضِعُ هو سِرُّ السُّلُوكِ، وحَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ، وهو مَعْنى الوُصُولِ الَّذِي يُدَنْدِنُ حَوْلَهُ القَوْمُ.
وَمَلاكُ هَذا الأمْرِ هو قَصْدُ التَّقَرُّبِ أوَّلًا، ثُمَّ التَّقَرُّبُ ثانِيًا، ثُمَّ حالُ القُرْبِ ثالِثًا، وهو الِانْبِعاثُ بِالكُلِّيَّةِ إلى الحَبِيبِ.
وَحَقِيقَةُ هَذا الِانْبِعاثِ: أنْ تَفْنى بِمُرادِهِ عَنْ هَواكَ، وبِما مِنهُ عَنْ حَظِّكَ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ هو مَجْمُوعُ حَظِّكَ ومُرادِكَ، وقَدْ عَرَفْتَ أنَّ مَن تَقَرَّبَ إلى حَبِيبِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ جُوزِيَ عَلى ذَلِكَ بِقُرْبٍ هو أضْعافُهُ، وعَرَفْتَ أنَّ أعْلى أنْواعِ التَّقَرُّبِ تَقَرُّبُ العَبْدِ بِجُمْلَتِهِ بِظاهِرِهِ وباطِنِهِ، وبِوُجُودِهِ إلى حَبِيبِهِ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَقَرَّبَ بِكُلِّهِ، ولَمْ تَبْقَ مِنهُ بَقِيَّةٌ لِغَيْرِ حَبِيبِهِ، كَما قِيلَ:
لا كانَ مَن لِسِواكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ ∗∗∗ يَجِدُ السَّبِيلَ بِها إلَيْهِ العُذَّلُ
وَإذا كانَ المُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالأعْمالِ يُعْطِي أضْعافَ أضْعافَ ما تُقُرِّبَ بِهِ، فَما الظَّنُّ بِمَن أُعْطِيَ حالَ التَّقَرُّبِ وذَوْقَهُ ووَجْدَهُ؟ فَما الظَّنُّ بِمَن تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِرُوحِهِ، وجَمِيعِ إرادَتِهِ وهِمَّتِهِ، وأقْوالِهِ وأعْمالِهِ؟
وَعَلى هَذا فَكَما جادَ لِحَبِيبِهِ بِنَفْسِهِ، فَإنَّهُ أهْلٌ أنْ يُجادَ عَلَيْهِ، بِأنْ يَكُونَ رَبُّهُ سُبْحانَهُ هو حَظُّهُ ونَصِيبُهُ، عِوَضًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، جَزاءً وِفاقًا، فَإنَّ الجَزاءَ مِن جِنْسِ العَمَلِ. وشَواهِدُ هَذا كَثِيرَةٌ.
مِنها: قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٢] فَفَرَّقَ بَيْنَ الجَزاءَيْنِ كَما تَرى، وجَعَلَ جَزاءَ المُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ سُبْحانَهُ حَسْبَهُ وكافِيهِ.
وَمِنها: أنَّ الشَّهِيدَ لَمّا بَذَلَ حَياتَهُ لِلَّهِ أعاضَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ حَياةً أكْمَلَ مِنها عِنْدَهُ في مَحَلِّ قُرْبِهِ وكَرامَتِهِ.
وَمِنها: أنَّ مَن بَذَلَ لِلَّهِ شَيْئًا أعاضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنهُ.
وَمِنها: قَوْلُهُ تَعالى
﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢].
وَمِنها: قَوْلُهُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ
«مَن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنهُ».
وَمِنها: قَوْلُهُ
«مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنهُ ذِراعًا» الحَدِيثَ.
فالعَبْدُ لا يَزالُ رابِحًا عَلى رَبِّهِ أفْضَلَ مِمّا قَدَّمَ لَهُ، وهَذا المُتَقَرِّبُ بِقَلْبِهِ ورُوحِهِ وعَمَلِهِ يَفْتَحُ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِحَياةٍ لا تُشْبِهُ ما النّاسُ فِيهِ مِن أنْواعِ الحَياةِ، بَلْ حَياةُ مَن لَيْسَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى حَياتِهِ، كَحَياةِ الجَنِينِ في بَطْنِ أُمِّهِ بِالنِّسْبَةِ إلى حَياةِ أهْلِ الدُّنْيا ولَذَّتِهِمْ فِيها، بَلْ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ.
فَهَذا نَمُوذَجُ مَن بايَنَ شَرَفَ هَذِهِ الحَياةِ وفَضْلَها، وإنْ كانَ عِلْمُ هَذا يُوجِبُ لِصاحِبِهِ حَياةً طَيِّبَةً، فَكَيْفَ إنِ انْصَبَغَ القَلْبُ بِهِ، وصارَ حالًا مُلازِمًا لِذاتِهِ؟ فاللَّهُ المُسْتَعانُ.
فَهَذِهِ الحَياةُ: هي حَياةُ الدُّنْيا ونَعِيمُها في الحَقِيقَةِ، فَمَن فَقَدَها فَفَقْدُهُ لِحَياتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ أوْلى بِهِ.
هَذِي حَياةُ الفَتى فَإنْ فُقِدَتْ ∗∗∗ فَفَقْدُهُ لِلْحَياةِ ألْيَقُ بِهِ
فَلا عَيْشَ إلّا عَيْشَ المُحِبِّينَ، الَّذِينَ قَرَّتْ أعْيُنُهم بِحَبِيبِهِمْ، وسَكَنَتْ نُفُوسُهم إلَيْهِ، واطْمَأنَّتْ قُلُوبُهم بِهِ، واسْتَأْنَسُوا بِقُرْبِهِ، وتَنَعَّمُوا بِحُبِّهِ، فَفي القَلْبِ فاقَةٌ لا يَسُدُّها إلّا مَحَبَّةُ اللَّهِ والإقْبالُ عَلَيْهِ والإنابَةُ إلَيْهِ، ولا يُلَمُّ شَعَثُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ألْبَتَّةَ، ومَن لَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ: فَحَياتُهُ كُلُّها هُمُومٌ وغُمُومٌ، وآلامٌ وحَسَراتٌ، فَإنَّهُ إنْ كانَ ذا هِمَّةٍ عالِيَةٍ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلى الدُّنْيا حَسَراتٍ، فَإنَّ هِمَّتَهُ لا تَرْضى فِيها بِالدُّونِ وإنْ كانَ مَهِينًا خَسِيسًا، فَعَيْشُهُ كَعَيْشِ أخَسِّ الحَيَواناتِ، فَلا تَقَرُّ العُيُونُ إلّا بِمَحَبَّةِ الحَبِيبِ الأوَّلِ.
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوى ∗∗∗ ما الحُبُّ إلّا لِلْحَبِيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتى ∗∗∗ وحَنِينُهُ أبَدًا لِأوَّلِ مَنزِلِ
المَرْتَبَةُ التّاسِعَةُ مِن مَراتِبِ الحَياةِ: حَياةُ الأرْواحِ بَعْدَ مُفارَقَتِها الأبْدانَ وخَلاصِها مِن هَذا السِّجْنِ وضِيقِهِ، فَإنَّ مِن ورائِهِ فَضاءً ورَوْحًا ورَيْحانًا وراحَةً، نِسْبَةُ هَذِهِ الدّارِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ بَطْنِ الأُمِّ إلى هَذِهِ الدّارِ، أوْ أدْنى مِن ذَلِكَ، قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: لِتَكُنْ مُبادَرَتُكَ إلى الخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيا كَمُبادَرَتِكَ إلى الخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ الضَّيِّقِ إلى أحِبَّتِكَ، والِاجْتِماعِ بِهِمْ في البَساتِينِ المُونِقَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الحَياةِ:
﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٨].
وَيَكْفِي في طِيبِ هَذِهِ الحَياةِ: مُرافَقَةُ الرَّفِيقِ الأعْلى، ومُفارَقَةُ الرَّفِيقِ المُؤْذِي المُنَكِّدِ، الَّذِي تُنَغِّصُ رُؤْيَتُهُ ومُشاهَدَتُهُ الحَياةَ، فَضْلًا عَنْ مُخالَطَتِهِ وعِشْرَتِهِ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، في جِوارِ الرَّبِّ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَدْ قُلْتُ إذْ مَدَحُوا الحَياةَ فَأسْرَفُوا ∗∗∗ في المَوْتِ ألْفُ فَضِيلَةٍ لا تُعْرَفُ
مِنها أمانُ لِقائِهِ بِلِقائِهِ ∗∗∗ وفِراقُ كُلِّ مُعاشِرٍ لا يُنْصِفُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في المَوْتِ مِنَ الخَيْرِ إلّا أنَّهُ بابُ الدُّخُولِ إلى هَذِهِ الحَياةِ، وجِسْرٌ يُعْبَرُ مِنهُ إلَيْها: لَكَفى بِهِ تُحْفَةً لِلْمُؤْمِنِ.
جَزى اللَّهُ عَنّا المَوْتَ خَيْرًا فَإنَّهُ ∗∗∗ أبَرُّ بِنا مِن كُلِّ بِرٍّ وألْطَفُ
يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الأذى ∗∗∗ ويُدْنِي إلى الدّارِ الَّتِي هي أشْرَفُ
فالِاجْتِهادُ في هَذا العُمْرِ القَصِيرِ، والمُدَّةِ القَلِيلَةِ، والسَّعْيِ والكَدْحِ، وتَحَمُّلِ الأثْقالِ، والتَّعَبِ والمَشَقَّةِ إنَّما هو لِهَذِهِ الحَياةِ، والعُلُومُ والأعْمالُ وسِيلَةٌ إلَيْها، وهي يَقَظَةٌ، وما قَبْلَها مِنَ الحَياةِ نَوْمٌ، وهي عَيْنٌ، وما قَبْلَها أثَرٌ، وهي حَياةٌ جامِعَةٌ بَيْنَ فَقْدِ المَكْرُوهِ، وحُصُولِ المَحْبُوبِ في مَقامِ الأُنْسِ، وحَضْرَةِ القُدْسِ، حَيْثُ لا يَتَعَذَّرُ مَطْلُوبٌ، ولا يُفْقَدُ مَحْبُوبٌ؛ حَيْثُ الطُّمَأْنِينَةُ والرّاحَةُ، والبَهْجَةُ والسُّرُورُ، حَيْثُ لا عِبارَةَ لِلْعَبْدِ عَنْ حَقِيقَةِ كُنْهِها؛ لِأنَّها في بَلَدٍ لا عَهْدَ لَنا بِهِ، ولا إلْفَ بَيْنَنا وبَيْنَ ساكِنِهِ، فالنَّفْسُ لِإلْفِها لِهَذا السِّجْنِ الضَّيِّقِ النَّكِدِ زَمانًا طَوِيلًا تَكْرَهُ الِانْتِقالَ مِنهُ إلى ذَلِكَ البَلَدِ، وتَسْتَوْحِشُ إذا اسْتَشْعَرَتْ مُفارَقَتَهُ.
وَحُصُولُ العِلْمِ بِهَذِهِ الحَياةِ إنَّما وصَلَ إلَيْنا بِخَبَرٍ إلَهِيٍّ عَلى يَدِ أكْمَلِ الخَلْقِ وأعْلَمِهِمْ وأنْصَحِهِمْ ﷺ، فَقامَتْ شَواهِدُها في قُلُوبِ أهْلِ الإيمانِ، حَتّى صارَتْ لَهم بِمَنزِلَةِ العِيانِ، فَفَرَّتْ نُفُوسُهم مِن هَذا الظِّلِّ الزّائِلِ، والخَيالِ المُضْمَحِلِّ، والعَيْشِ الفانِي المَشُوبِ بِالتَّنْغِيصِ وأنْواعِ الغَصَصِ، رَغْبَةً عَنْ هَذِهِ الحَياةِ، وشَوْقًا إلى ذَلِكَ المَلَكُوتِ، ووَجْدًا بِهَذا السُّرُورِ، وطَرَبًا عَلى هَذا الحَدِّ، واشْتِياقًا لِهَذا النَّسِيمِ الوارِدِ مِن مَحَلِّ النَّعِيمِ المُقِيمِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ مَن سافَرَ إلى بَلَدِ العَدْلِ والخِصْبِ والأمْنِ والسُّرُورِ صَبَرَ في طَرِيقِهِ عَلى كُلِّ مَشَقَّةٍ وإعْوازٍ وجَدْبٍ، وفارَقَ المُتَخَلِّفِينَ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِمْ، وأجابَ المُنادِي إذا نادى بِهِ حَيَّ عَلى الفَلاحِ، وبَذَلَ نَفْسَهُ في الوُصُولِ بَذْلَ المُحِبِّ بِالرِّضا والسَّماحِ، وواصَلَ السَّيْرَ بِالغُدُوِّ والرَّواحِ، فَحَمِدَ عِنْدَ الوُصُولِ مَسْراهُ، وإنَّما يَحْمَدُ المُسافِرُ السُّرى عِنْدَ الصَّباحِ.
عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى ∗∗∗ وفي المَماتِ يَحْمَدُ القَوْمُ اللِّقا
وَما هَذا واللَّهِ بِالصَّعْبِ ولا بِالشَّدِيدِ، مَعَ هَذا العُمْرِ القَصِيرِ، الَّذِي هو بِالنِّسْبَةِ إلى تِلْكَ الدّارِ كَساعَةٍ مِن نَهارٍ
﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥]،
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥]،
﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٦]،
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ﴾ [الروم: ٥٥]،
﴿قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ - قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٢-١١٤] فَلَوْ أنَّ أحَدَنا يُجَرُّ عَلى وجْهِهِ يَتَّقِي بِهِ الشَّوْكَ والحِجارَةَ إلى هَذِهِ الحَياةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا ولا غَبْنًا في جَنْبِ ما يُوَقّاهُ.
فَواحَسْرَتاهُ عَلى بَصِيرَةٍ شاهَدَتْ هاتَيْنِ الحَياتَيْنِ عَلى ما هُما عَلَيْهِ، وعَلى هِمَّةٍ تُؤْثِرُ الأدْنى عَلى الأعْلى، وما ذاكَ إلّا بِتَوْفِيقِ مَن أزِمَّةُ الأُمُورِ بِيَدَيْهِ، ومِنهُ ابْتِداءُ كُلِّ شَيْءٍ وانْتِهاؤُهُ إلَيْهِ، أقْعَدَ نُفُوسَ مَن غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشَّقاوَةُ عَنِ السَّفَرِ إلى هَذِهِ الدّارِ، وجَذَبَ قُلُوبَ مَن سَبَقَتْ لَهم مِنهُ الحُسْنى، وأقامَهم في الطَّرِيقِ، وسَهَّلَ عَلَيْهِمْ رُكُوبَ الأخْطارِ، فَأضاعَ أُولَئِكَ مَراحِلَ أعْمارِهِمْ مَعَ المُتَخَلِّفِينَ وقَطَعَ هَؤُلاءِ مَراحِلَ أعْمارِهِمْ مَعَ السّائِرِينَ، وعُقِدَتِ الغَبَرَةُ وثارَ العَجاجُ، فَتَوارى عَنْهُ السّائِرُونَ والمُتَخَلِّفُونَ.
وَسَيَنْجَلِي عَنْ قَرِيبٍ، فَيَفُوزُ العامِلُونَ، ويَخْسِرُ المُبْطِلُونَ.
وَمِن طِيبِ هَذِهِ الحَياةِ ولَذَّتِها: قالَ النَّبِيُّ ﷺ
«ما مِن نَفْسٍ تَمُوتُ لَها عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّها أنْ تَرْجِعَ إلى الدُّنْيا، وأنَّ لَها الدُّنْيا وما فِيها، إلّا الشَّهِيدُ، فَإنَّهُ يَتَمَنّى الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا، لِما يَرى مِن كَرامَةِ اللَّهِ لَهُ» يَعْنِي لِيُقْتَلَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرى. وسَمِعَ بَعْضُ العارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ:
إنَّما العَيْشُ في بَهِيمِيَّةِ اللَّ ∗∗∗ ذَةِ وهو ما يَقُولُهُ الفَلْسَفِيُّ
حُكْمُ كَأْسِ المَنُونِ أنْ يَتَساوى ∗∗∗ في حِساها البَلِيدُ والألْمَعِيُّ
وَيَصِيرُ الغَبِيُّ تَحْتَ ثَرى الأرْ ∗∗∗ ضِ كَما صارَ تَحْتَها اللَّوْذَعِيُّ
فَسَلِ الأرْضَ عَنْهُما إنْ أزالَ الشَّ ∗∗∗ كَّ والشُّبْهَةَ السُّؤالُ الجَلِيُّ
فَقالَ: قاتَلَهُ اللَّهُ، ما أشَدَّ مُعانَدَتَهُ لِلدِّينِ والعَقْلِ! هَذا نَفْسُ عَدُوِّ الفِطْرَةِ والشَّرِيعَةِ والعَقْلِ والإيمانِ والحِكْمَةِ، يا مِسْكِينُ أمِن أجْلِ أنَّ المَوْتَ تَساوى فِيهِ الصّالِحُ والطّالِحُ، والعالِمُ والجاهِلُ، وصارُوا جَمِيعًا تَحْتَ أطْباقِ الثَّرى، أيَجِبُ أنْ يَتَساوَوْا في العاقِبَةِ؟ أما تَساوى قَوْمٌ سافَرُوا مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ في الطَّرِيقِ؟ فَلَمّا بَلَغُوا القَصْدَ نَزَلَ كُلُّ واحِدٍ في مَكانٍ كانَ مُعَدًّا لَهُ، وتُلُقِّي بِغَيْرِ ما تُلُقِّيَ بِهِ رَفِيقُهُ في الطَّرِيقِ؟ أما لِكُلِّ قَوْمٍ دارٌ فَأُجْلِسَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ؟ وقُوبِلَ هَذا بِشَيْءٍ، وهَذا بِضِدِّهِ؟ أما قَدِمَ عَلى المَلِكِ مَن جاءَهُ بِما يُحِبُّهُ فَأكْرَمَهُ عَلَيْهِ، ومَن جاءَهُ بِما يُسْخِطُهُ فَعاقَبَهُ عَلَيْهِ؟ أما قَدِمَ رَكْبُ المَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضُهم في قُصُورِها وبَساتِينِها وأماكِنِها الفاضِلَةِ، ونَزَلَ قَوْمٌ عَلى قَوارِعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الكِلابِ؟ أما قَدِمَ اثْنانِ مِن بَطْنِ الأُمِّ الواحِدَةِ، فَصارَ هَذا إلى المُلْكِ، وهَذا إلى الأسْرِ والعَناءِ؟
وَقَوْلُكَ " سَلِ الأرْضَ عَنْهُما " أما إنّا قَدْ سَألْناها، فَأخْبَرَتْنا أنَّها قَدْ ضَمَّتْ أجْسادَهم وجُثَثَهم وأوْصالَهُمْ، لا كُفْرَهم وإيمانَهُمْ، ولا أنْسابَهم وأحْسابَهُمْ، ولا حِلْمَهم وسَفَهَهُمْ، ولا طاعَتَهم ومَعْصِيَتَهُمْ، ولا يَقِينَهم وشَكَّهُمْ، ولا تَوْحِيدَهم وشِرْكَهُمْ، ولا جَوْرَهم وعَدْلَهُمْ، ولا عِلْمَهم وجَهْلَهُمْ، فَأخْبَرَتْنا عَنْ هَذِهِ الجُثَثِ البالِيَةِ والأبْدانِ المُتَلاشِيَةِ، والأوْصالِ المُتَمَزِّقَةِ، وقالَتْ هَذا خَبْرُ ما عِنْدِي.
وَأمّا خَبْرُ تِلْكَ الأرْواحِ وما صارَتْ إلَيْهِ، فَسَلُوا عَنْها كُتُبَ رَبِّ العالَمِينَ، ورُسُلَهُ الصّادِقِينَ، وخُلَفاءَهُمُ الوارِثِينَ، سَلُوا القُرْآنَ فَعِنْدَهُ الخَبَرُ اليَقِينُ، وسَلُوا مَن جاءَ بِهِ فَهو بِذَلِكَ أعْرَفُ العارِفِينَ، وسَلُوا العِلْمَ والإيمانَ فَهُما الشّاهِدانِ المَقْبُولانِ، وسَلُوا العُقُولَ والفِطَرَ فَعِنْدَها حَقِيقَةُ الخَبَرِ
﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهم ومَماتُهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١] تَعالى اللَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ عَنْ هَذا الظَّنِّ والحُسْبانِ، الَّذِي لا يَلِيقُ إلّا بِأجْهَلِ الجاهِلِينَ.
ثُمَّ قالَ: النّاظِرُ في هَذا البابِ رَجُلانِ، رَجُلٌ يَنْظُرُ إلى الأشْياءِ، ورَجُلٌ يَنْظُرُ في الأشْياءِ، فالأوَّلُ: يَحارُ فِيها، فَإنَّ صُوَرَها وأشْكالَها وتَخاطِيطَها تَسْتَفْرِغُ ذِهْنَهُ وحِسَّهُ، وتُبَدِّدُ فِكْرَهُ وقَلْبَهُ، فَنَظَرُهُ إلَيْها بِعَيْنِ حِسِّهِ، لا يُفِيدُهُ مِنها ثَمَرَةَ الِاعْتِبارِ، ولا زُبْدَةَ الِاخْتِبارِ؛ لِأنَّهُ لَمّا فَقَدَ الِاعْتِبارَ أوَّلًا، فَإنَّهُ فَقَدَ الِاخْتِيارَ ثانِيًا.
وَأمّا النّاظِرُ في الأشْياءِ: فَإنَّ نَظَرَهُ يَبْعَثُهُ عَلى العُبُورِ مِن صُوَرِها إلى حَقائِقِها والمُرادِ بِها، وما اقْتَضى وُجُودُها مِنَ الحِكْمَةِ البالِغَةِ والعِلْمِ التّامِّ، فَيُفِيدُهُ هَذا النَّظَرُ تَمْيِيزَ مَراتِبِها، ومَعْرِفَةَ نافِعِها مِن ضارِّها، وصَحِيحِها مِن سَقِيمِها، وباقِيها مِن فانِيها، وقِشْرِها مِن لُبِّها، ويُمَيِّزُ بَيْنَ الوَسِيلَةِ والغايَةِ، وبَيْنَ وسِيلَةِ الشَّيْءِ ووَسِيلَةِ ضِدِّهِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ أنَّ الدُّنْيا قِشْرُهُ والآخِرَةَ لُبُّهُ، وأنَّ الدُّنْيا مَحَلُّ الزَّرْعِ، والآخِرَةَ وقْتُ الحَصادِ، وأنَّ الدُّنْيا مَعْبَرٌ ومَمَرٌّ، والآخِرَةَ دارُ مُسْتَقَرٍّ.
وَإذا عَرَفَ أنَّ الدُّنْيا طَرِيقٌ ومَمَرٌّ كانَ حَرِيًّا بِتَهْيِئَةِ الزّادِ لِقَرارِهِ، ويَعْلَمُ حِينَئِذٍ أنَّهُ لَمْ يَنْشَأْ في هَذِهِ الدّارِ لِلِاسْتِيطانِ والخُلُودِ، ولَكِنْ لِلْجَوازِ إلى مَكانٍ آخَرَ، هو المَنزِلُ والمُتَبَوَّأُ، وأنَّ الإنْسانَ دُعِيَ إلى ذَلِكَ بِكُلِّ شَرِيعَةٍ، وعَلى لِسانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وبِكُلِّ إشارَةٍ ودَلِيلٍ، ونُصِبَ لَهُ عَلى ذَلِكَ عِلْمٌ، وضُرِبَ لِأجَلِهِ كُلُّ مَثَلٍ، ونُبِّهَ عَلَيْهِ بِنَشْأتِهِ الأُولى ومَبادِئِهِ، وسائِرِ أحْوالِهِ، وأحْوالِ طَعامِهِ وشَرابِهِ، وأرْضِهِ وسَمائِهِ، بِحَيْثُ أُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، وأُوْضِحَتْ لَهُ المَحَجَّةُ، وأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، وأُعْذِرَ إلَيْهِ غايَةَ الإعْذارِ، وأُمْهِلَ أتَمَّ الإمْهالِ، فاسْتَبانَ لِذِي العَقْلِ الصَّحِيحِ والفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أنَّ الظَّعْنَ عَنْ هَذا المَكانِ ضَرُورِيٌّ، والِانْتِقالَ عَنْهُ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ، وأنَّ لَهُ مَحَلًّا آخَرَ لَهُ قَدْ أُنْشِئَ ولِأجْلِهِ قَدْ خُلِقَ ولَهُ هُيِّئَ، فَمَصِيرُهُ إلَيْهِ وقُدُومُهُ بِلا رَيْبٍ عَلَيْهِ، وأنَّ دارَهُ هَذِهِ مَنزِلُ عُبُورٍ، لا مَنزِلُ قَرارٍ.
وَبِالجُمْلَةِ: مَن نَظَرَ في المَوْجُوداتِ، ولَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْها وحْدَها: وجَدَها دالَّةً عَلى أنَّ وراءَ هَذِهِ الحَياةِ حَياةً أُخْرى أكْمَلَ مِنها، وأنَّ هَذِهِ الحَياةَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها كالمَنامِ بِالنِّسْبَةِ إلى اليَقَظَةِ، وكالظِّلِّ بِالنِّسْبَةِ إلى الشَّخْصِ، وسَمِعَها كُلَّها تُنادِي بِما نادى بِهِ رَبُّها وخالِقُها وفاطِرُها
﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ [فاطر: ٥] وتُنادِي بِلِسانِ الحالِ، بِما نادى بِهِ رَبُّها بِصَرِيحِ المَقالِ
﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: ٤٥] وقالَ تَعالى:
﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤] وقالَ تَعالى:
﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكم وتَكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٌ وما الحَياةُ الدُّنْيا إلّا مَتاعُ الغُرُورِ﴾ [الحديد: ٢٠] ثُمَّ نَدَبَهم إلى المُسابَقَةِ إلى الدّارِ الآخِرَةِ الباقِيَةِ الَّتِي لا زَوالَ لَها.: فَقالَ
﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد: ٢١].
وَسَمِعَ بَعْضُ العارِفِينَ مُنْشِدًا يُنْشِدُ عَنْ بَعْضِ الزَّنادِقَةِ عِنْدَ مَوْتِهِ وهو مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيّا المُتَطَبِّبُ:
لَعَمْرِيَ ما أدْرِي وقَدْ أذِنَ البِلى ∗∗∗ بِعاجِلِ تِرْحالِي إلى أيْنَ تِرْحالِي
وَأيْنَ مَحَلُّ الرُّوحِ بَعْدَ خُرُوجِهِ ∗∗∗ عَنِ الهَيْكَلِ المُنْحَلِّ والجَسَدِ البالِي
فَقالَ: وما عَلَيْنا مِن جَهْلِهِ، إذا لَمْ يَدْرِ أيْنَ تِرْحالُهُ؟ ولَكِنَّنا نَدْرِي إلى أيْنَ تِرْحالُنا وتِرْحالُهُ، أمّا تِرْحالُهُ فَإلى دارِ الأشْقِياءِ، ومَحِلِّ المُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ، والمُكَذِّبِينَ بِما اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ المُرْسَلِينَ عَنْ رَبِّهِمْ
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وأُولَئِكَ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ - وقالُوا أئِذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ - قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكم ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ - ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إنّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٥-١٢].
وَأمّا تِرْحالُنا أيُّها المُسْلِمُونَ المُصَدِّقُونَ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ فَإلى نَعِيمٍ دائِمٍ، وخُلُودٍ مُتَّصِلٍ، ومَقامٍ كَرِيمٍ، وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ في جِوارِ رَبِّ العالَمِينَ، وأرْحَمِ الرّاحِمِينَ، وأقْدَرِ القادِرِينَ، وأحْكَمِ الحاكِمِينَ، الَّذِي لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ، وبِيَدِهِ النَّفْعُ والضُّرُّ، الأوَّلُ بِالحَقِّ، المَوْجُودُ بِالضَّرُورَةِ، المَعْرُوفُ بِالفِطْرَةِ، الَّذِي أقَرَّتْ بِهِ العُقُولُ، ودَلَّتْ عَلَيْهِ المَوْجُوداتُ، وشَهِدَتْ بِوَحْدانِيَّتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ جَمِيعُ المَخْلُوقاتِ، وأقَرَّتْ بِها الفِطَرُ، المَشْهُودُ وجُودُهُ وقَيُّومِيَّتُهُ بِكُلِّ حَرَكَةٍ وسُكُونٍ، بِكُلِّ ما كانَ وما هو كائِنٌ وما سَيَكُونُ، الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مِن أنْواعِ النَّباتاتِ، وبَثَّ بِهِ في الأرْضِ جَمِيعَ الحَيَواناتِ
﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا﴾ [النمل: ٦١] الَّذِي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ، ويُغِيثُ المَلْهُوفَ إذا ناداهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ ويُفَرِّجُ الكُرُباتِ، ويُقِيلُ العَثَراتِ، الَّذِي يَهْدِي خَلْقَهُ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ، ويُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، فَيُحْيِي الأرْضَ بِوابِلِ القَطْرِ، الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، ويَرْزُقُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ مِن خَلْقِهِ وعَبِيدِهِ، الَّذِي يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ، ويُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأمْرَ
﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهو يُجِيرُ ولا يُجارُ عَلَيْهِ - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٨٨-٢] المُسْتَعانُ بِهِ عَلى كُلِّ نائِبَةٍ وفادِحَةٍ، والمَعْهُودُ مِنهُ كُلُّ بِرٍّ وكَرامَةٍ، الَّذِي عَنَتْ لَهُ الوُجُوهُ، وخَشَعَتْ لَهُ الأصْواتُ، وسَبَّحَتْ بِحَمْدِهِ الأرْضُ والسَّماواتُ وجَمِيعُ المَوْجُوداتِ، الَّذِي لا تَسْكُنُ الأرْواحُ إلّا بِحُبِّهِ، ولا تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ إلّا بِذِكْرِهِ، ولا تَزْكُو العُقُولُ إلّا بِمَعْرِفَتِهِ، ولا يُدْرَكُ النَّجاحُ إلّا بِتَوْفِيقِهِ، ولا تَحْيا القُلُوبُ إلّا بِنَسِيمِ لُطْفِهِ وقُرْبِهِ، ولا يَقَعُ أمْرٌ إلّا بِإذْنِهِ، ولا يَهْتَدِي ضالٌّ إلّا بِهِدايَتِهِ، ولا يَسْتَقِيمُ ذُو أوَدٍ إلّا بِتَقْوِيمِهِ، ولا يَفْهَمُ أحَدٌ إلّا بِتَفْهِيمِهِ، ولا يُتَخَلَّصُ مِن مَكْرُوهٍ إلّا بِرَحْمَتِهِ، ولا يُحْفَظُ شَيْءٌ إلّا بِكِلاءَتِهِ، ولا يُفْتَتَحُ أمْرٌ إلّا بِاسْمِهِ، ولا يَتِمُّ إلّا بِحَمْدِهِ، ولا يُدْرَكُ مَأْمُولٌ إلّا بِتَيْسِيرِهِ، ولا تُنالُ سَعادَةٌ إلّا بِطاعَتِهِ، ولا حَياةٌ إلّا بِذِكْرِهِ ومَحَبَّتِهِ ومَعْرِفَتِهِ، ولا طابَتِ الجَنَّةُ إلّا بِسَماعِ خِطابِهِ ورُؤْيَتِهِ، الَّذِي وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا، وأوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَضْلًا وبِرًّا.
فَهُوَ الإلَهُ الحَقُّ، والرَّبُّ الحَقُّ، والمَلِكُ الحَقُّ، والمُنْفَرِدُ بِالكَمالِ المُطْلَقِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، المُبَرَّأُ عَنِ النَّقائِصِ والعُيُوبِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، لا يَبْلُغُ المُثْنُونَ وإنِ اسْتَوْعَبُوا جَمِيعَ الأوْقاتِ بِكُلِّ أنْواعِ الثَّناءِ ثَناءً عَلَيْهِ، بَلْ ثَناؤُهُ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، فَهو كَما أثْنى عَلى نَفْسِهِ هَذا الجارُ.
وَأمّا الدّارُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ حُسْنَها وبَهاءَها، وسِعَتَها ونَعِيمَها، وبَهْجَتَها ورُوحَها وراحَتَها، فِيها ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، فِيها ما تَشْتَهِي الأنْفُسُ، وتَلَذُّ الأعْيُنُ، فَهي الجامِعَةُ لِجَمِيعِ أنْواعِ الأفْراحِ والمَسَرّاتِ، الخالِيَةُ مِن جَمِيعِ المُنَكِّداتِ والمُنَغِّصاتِ، رَيْحانَةٌ تَهْتَزُّ، وقَصْرٌ مُشَيَّدٌ، وزَوْجَةٌ حَسْناءُ، وفاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ.
فَتِرْحالُنا أيُّها الصّادِقُونَ المُصَدِّقُونَ إلى هَذِهِ الدّارِ بِإذْنِ رَبِّنا وتَوْفِيقِهِ وإحْسانِهِ.
وَتِرْحالُ الكاذِبِينَ المُكَذِّبِينَ إلى الدّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَن كَفَرَ بِاللَّهِ ولِقائِهِ، وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ.
وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَ المُوَحِّدِينَ لَهُ الطّالِبِينَ لِمَرْضاتِهِ، السّاعِينَ في طاعَتِهِ، الدّائِبِينَ في خِدْمَتِهِ، المُجاهِدِينَ في سَبِيلِهِ وبَيْنَ المُلْحِدِينَ - السّاعِينَ في مَساخِطِهِ، الدّائِبِينَ في مَعْصِيَتِهِ، المُسْتَفْرِغِينَ جُهْدَهم في أهْوائِهِمْ وشَهَواتِهِمْ - في دارٍ واحِدَةٍ، إلّا عَلى سَبِيلِ الجَوازِ والعُبُورِ، كَما جَمَعَ بَيْنَهُما في هَذِهِ الدُّنْيا، ويَجْمَعُ بَيْنَهم في مَوْقِفِ القِيامَةِ، فَحاشاهُ مِن هَذا الظَّنِّ السَّيِّئِ الَّذِي لا يَلِيقُ بِكَمالِهِ وحِكْمَتِهِ.
* (فَصْلٌ)
وَفِي هَذِهِ المَرْتَبَةِ تُعْلَمُ حَياةُ الشُّهَداءِ، وأنَّهم عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وأنَّها أكْمَلُ مِن حَياتِهِمْ في هَذِهِ الدُّنْيا، وأتَمُّ وأطْيَبُ، وإنْ كانَتْ أجْسادُهم مُتَلاشِيَةً، ولُحُومُهم مُتَمَزِّقَةً، وأوْصالُهم مُتَفَرِّقَةً، وعِظامُهم نَخِرَةً، فَلَيْسَ العَمَلُ عَلى الطَّلَلِ إنَّما الشَّأْنُ في السّاكِنِ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، وقالَ تَعالى:
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ بَلْ أحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٥٤] وإذا كانَ الشُّهَداءُ إنَّما نالُوا هَذِهِ الحَياةَ بِمُتابَعَةِ الرُّسُلِ وعَلى أيْدِيهِمْ، فَما الظَّنُّ بِحَياةِ الرُّسُلِ في البَرْزَخِ؟ ولَقَدْ أحْسَنَ القائِلُ:
فالعَيْشُ نَوْمٌ والمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ ∗∗∗ والمَرْءُ بَيْنَهُما خَيالٌ سارِي
فَلِلرُّسُلِ والشُّهَداءِ والصِّدِّيقِينَ مِن هَذِهِ الحَياةِ الَّتِي هي يَقْظَةٌ مِن نَوْمِ الدُّنْيا أكْمَلُها وأتَمُّها، وعَلى قَدْرِ حَياةِ العَبْدِ في هَذا العالَمِ يَكُونُ شَوْقُهُ إلى هَذِهِ الحَياةِ، وسَعْيُهُ وحِرْصُهُ عَلى الظَّفَرِ بِها، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
المَرْتَبَةُ العاشِرَةُ مِن مَراتِبِ الحَياةِ الحَياةُ الدّائِمَةُ الباقِيَةُ بَعْدَ طَيِّ هَذا العالَمِ، وذَهابِ الدُّنْيا وأهْلِها في دارِ الحَيَوانِ، وهي الحَياةُ الَّتِي شَمَّرَ إلَيْها المُشَمِّرُونَ، وسابَقَ إلَيْها المُتَسابِقُونَ، ونافَسَ فِيها المُتَنافِسُونَ، وهي الَّتِي أجْرَيْنا الكَلامَ إلَيْها، ونادَتِ الكُتُبُ السَّماوِيَّةُ ورُسُلُ اللَّهِ جَمِيعُهم عَلَيْها، وهي الَّتِي يَقُولُ مَن فاتَهُ الِاسْتِعْدادُ لَها
﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا - وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا - وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى - يَقُولُ يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي - فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ - ولا يُوثِقُ وثاقَهُ أحَدٌ﴾ [الفجر: ٢١-٢٦]، وهي الَّتِي قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيها:
﴿وَما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
والحَياةُ المُتَقَدِّمَةُ كالنَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها، وكُلُّ ما تَقَدَّمَ مِن وصْفِ السَّيْرِ ومَنازِلِهِ، وأحْوالِ السّائِرِينَ، وعُبُودِيَّتِهِمُ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ فَوَسِيلَةٌ إلى هَذِهِ الحَياةِ، وإنَّما الحَياةُ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلَيْها، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا كَما يُدْخِلُ أحَدُكم إصْبَعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟».
وَكَما قِيلَ: تَنَفَّسَتِ الآخِرَةُ فَكانَتِ الدُّنْيا نَفَسًا مِن أنْفاسِها، فَأصابَ أهْلُ السَّعادَةِ نَفَسَ نَعِيمِها، فَهم عَلى هَذا النَّفَسِ يَعْمَلُونَ، وأصابَ أهْلُ الشَّقاوَةِ نَفَسَ عَذابِها، فَهم عَلى ذَلِكَ النَّفَسِ يَعْمَلُونَ.
وَإذا كانَتْ حَياةُ أهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ في هَذِهِ الدّارِ حَياةً طَيِّبَةً، فَما الظَّنُّ بِحَياتِهِمْ في البَرْزَخِ، وقَدْ تَخَلَّصُوا مِن سِجْنِ الدُّنْيا وضِيقِها؟ فَما الظَّنُّ بِحَياتِهِمْ في دارِ النَّعِيمِ المُقِيمِ الَّذِي لا يَزُولُ، وهم يَرَوْنَ وجْهَ رَبِّهِمْ تَبارَكَ وتَعالى بُكْرَةً وعَشِيًّا ويَسْمَعُونَ خِطابَهُ؟
فَإنْ قُلْتَ: ما سَبَبُ تَخَلُّفِ النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الحَياةِ الَّتِي لا خَطَرَ لَها، وما الَّذِي زَهَّدَها فِيها؟ وما سَبَبُ رَغْبَتِها في الحَياةِ الفانِيَةِ المُضْمَحِلَّةِ، الَّتِي هي كالخَيالِ والمَنامِ؟ أفَسادٌ في تَصَوُّرِها وشُعُورِها؟ أمْ تَكْذِيبٌ بِتِلْكَ الحَياةِ؟ أمْ لِآفَةٍ في العَقْلِ، وعَمًى هُناكَ؟ أمْ إيثارٌ لِلْحاضِرِ المَشْهُودِ بِالعِيانِ عَلى الغائِبِ المَعْلُومِ بِالإيمانِ؟
قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ مُرَكَّبَةٍ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأقْوى الأسْبابِ في ذَلِكَ: ضَعْفُ الإيمانِ، فَإنَّ الإيمانَ هو رُوحُ الأعْمالِ، وهو الباعِثُ عَلَيْها، والآمِرُ بِأحْسَنِها، والنّاهِي عَنْ أقْبَحِها، وعَلى قَدْرِ قُوَّةِ الإيمانِ يَكُونُ أمْرُهُ ونَهْيُهُ لِصاحِبِهِ، وائْتِمارُ صاحِبِهِ وانْتِهاؤُهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكم بِهِ إيمانُكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩٣].
وَبِالجُمْلَةِ: فَإذا قَوِيَ الإيمانُ قَوِيَ الشَّوْقُ إلى هَذِهِ الحَياةِ، واشْتَدَّ طَلَبُ صاحِبِهِ لَها.
السَّبَبُ الثّانِي: جُثُومُ الغَفْلَةِ عَلى القَلْبِ، فَإنَّ الغَفْلَةَ نَوْمُ القَلْبِ، ولِهَذا تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الأيْقاظِ في الحِسِّ نِيامًا في الواقِعِ، فَتَحْسَبُهم أيْقاظًا وهم رُقُودٌ، ضِدَّ حالِ مَن يَكُونُ يَقْظانَ القَلْبِ وهو نائِمٌ، فَإنَّ القَلْبَ إذا قَوِيَتْ فِيهِ الحَياةُ لا يَنامُ إذا نامَ البَدَنُ، وكَمالُ هَذِهِ الحَياةِ كانَ لِنَبِيِّنا ﷺ، ولِمَن أحْيا اللَّهُ قَلْبَهُ بِمَحَبَّتِهِ واتِّباعِ رِسالَتِهِ عَلى بَصِيرَةٍ مِن ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنهُما.
فالغَفْلَةُ واليَقَظَةُ يَكُونانِ في الحِسِّ والعَقْلِ والقَلْبِ، فَمُسْتَيْقِظُ القَلْبِ وغافِلُهُ كَمُسْتَيْقِظِ البَدَنِ ونائِمِهِ، وكَما أنَّ يَقَظَةَ الحِسِّ عَلى نَوْعَيْنِ، فَكَذَلِكَ يَقَظَةُ القَلْبِ عَلى نَوْعَيْنِ.
فالنَّوْعُ الأوَّلُ مِن يَقَظَةِ الحِسِّ: أنَّ صاحِبَها يَنْفُذُ في الأُمُورِ الحِسِّيَّةِ، ويَتَوَغَّلُ فِيها بِكَسْبِهِ وفَطانَتِهِ، واحْتِيالِهِ وحُسْنِ تَأتِّيهِ.
والنَّوْعُ الثّانِي: أنْ يُقْبِلَ عَلى نَفْسِهِ وقَلْبِهِ وذاتِهِ، فَيَعْتَنِي بِتَحْصِيلِ كَمالِهِ، فَيَلْحَظُ عَوالِيَ الأُمُورِ وسَفْسافَها، فَيُؤْثِرُ الأعْلى عَلى الأدْنى، ويُقَدِّمُ خَيْرَ الخَيْرَيْنِ بِتَفْوِيتِ أدْناهُما، ويَرْتَكِبُ أخَفَّ الشَّرَّيْنِ خَشْيَةَ حُصُولِ أقْواهُما، ويَتَحَلّى بِمَكارِمِ الأخْلاقِ ومَعالِي الشِّيَمِ، فَيَكُونُ ظاهِرُهُ جَمِيلًا، وباطِنُهُ أجْمَلُ مِن ظاهِرِهِ، وسَرِيرَتُهُ خَيْرًا مِن عَلانِيَتِهِ، فَيُزاحِمُ أصْحابَ المَعالِي عَلَيْها كَما يَتَزاحَمُ أهْلُ الدِّينارِ والدِّرْهَمِ عَلَيْهِما، فَبِهَذِهِ اليَقَظَةِ يَسْتَعِدُّ لِلنَّوْعَيْنِ الآخَرَيْنِ مِنهُما.
أحَدُهُما: يَقَظَةٌ تَبْعَثُهُ عَلى اقْتِباسِ الحَياةِ الدّائِمَةِ الباقِيَةِ الَّتِي لا خَطَرَ لَها مِن هَذِهِ الحَياةِ الزّائِلَةِ الفانِيَةِ، الَّتِي لا قِيمَةَ لَها.
فَإنْ قُلْتَ: مَثِّلْ لِي كَيْفَ تُقْتَبَسُ الحَياةُ الدّائِمَةُ مِنَ الحَياةِ الفانِيَةِ؟ وكَيْفَ يَكُونُ هَذا؟ فَإنِّي لا أفْهَمُهُ.
قُلْتُ: وهَذا أيْضًا مِن نَوْمِ القَلْبِ بَلْ مِن مَوْتِهِ، وهَلْ تُقْتَبَسُ الحَياةُ الدّائِمَةُ إلّا مِن هَذِهِ الحَياةِ الزّائِلَةِ؟ وأنْتَ قَدْ تُشْعِلُ سِراجَكَ مِن سِراجٍ آخَرَ قَدْ أشَفى عَلى الِانْطِفاءِ، فَيَتَّقِدُ الثّانِي ويُضِيءُ غايَةَ الإضاءَةِ، ويَتَّصِلُ ضَوْءُهُ ويَنْطَفِئُ الأوَّلُ، والمُقْتَبِسُ لِحَياتِهِ الدّائِمَةِ مِن حَياتِهِ المُنْقَطِعَةِ إنَّما يَنْتَقِلُ مِن دارٍ مُنْقَطِعَةٍ إلى دارٍ باقِيَةٍ، وقَدْ تَوَسَّطَ المَوْتُ بَيْنَ الدّارَيْنِ، فَهو قَنْطَرَةٌ لا يُعْبَرُ إلى تِلْكَ الدّارِ إلّا عَلَيْها، وبابٌ لا يُدْخَلُ إلَيْها إلّا مِنهُ، فَهُما حَياتانِ في دارَيْنِ بَيْنَهُما المَوْتُ، وكَما أنَّ نُورَ تِلْكَ الدّارِ مُقْتَبَسٌ مِن نُورِ هَذِهِ الدّارِ، فَحَياتُها كَذَلِكَ مُقْتَبَسَةٌ مِن حَياتِها، فَعَلى قَدْرِ نُورِ الإيمانِ في هَذِهِ الدّارِ يَكُونُ نُورُ العَبْدِ في تِلْكَ الدّارِ، وعَلى قَدْرِ حَياتِهِ في هَذِهِ الدّارِ تَكُونُ حَياتُهُ هُناكَ.
نَعَمْ؛ هَذا النُّورُ والحَياةُ الَّذِي يُقْتَبَسُ مِنهُ ذَلِكَ النُّورُ والحَياةُ لا يَنْقَطِعُ، بَلْ يُضِيءُ لِلْعَبْدِ في البَرْزَخِ وفي مَوْقِفِ القِيامَةِ، وعَلى الصِّراطِ، فَلا يُفارِقُهُ إلى دارِ الحَيَوانِ، يُطْفَأُ نُورُ الشَّمْسِ وهَذا النُّورُ لا يُطْفَأُ، وتَبْطُلُ الحَياةُ المَحْسُوسَةُ وهَذِهِ الحَياةُ لا تَبْطُلُ، هَذا أحَدُ نَوْعَيْ يَقَظَةِ القَلْبِ.
النَّوْعُ الثّانِي: يَقَظَةٌ تَبْعَثُ عَلى حَياةٍ، لا تُدْرِكُها العِبارَةُ، ولا يَنالُها التَّوَهُّمُ، ولا يُطابِقُ فِيها اللَّفْظُ لِمَعْناهُ ألْبَتَّةَ، والَّذِي يُشارُ بِهِ إلَيْها حَياةُ المُحِبِّ مَعَ حَبِيبِهِ الَّذِي لا قِوامَ لِقَلْبِهِ ورُوحِهِ وحَياتِهِ إلّا بِهِ ولا غِنًى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا قُرَّةَ لِعَيْنِهِ، ولا طُمَأْنِينَةَ لِقَلْبِهِ، ولا سُكُونَ لِرُوحِهِ إلّا بِهِ، فَهو أحْوَجُ إلَيْهِ مِن سَمْعِهِ وبَصَرِهِ وقُوَّتِهِ، بَلْ ومِن حَياتِهِ، فَإنَّ حَياتَهُ بِدُونِهِ عَذابٌ وآلامٌ، وهُمُومٌ وأحْزانٌ، فَحَياتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلى قُرْبِهِ وحُبِّهِ ومُصاحَبَتِهِ، وعَذابُ حِجابِهِ عَنْهُ أعْظَمُ مِنَ العَذابِ الآخَرِ، كَما أنَّ نَعِيمَ القَلْبِ والرُّوحِ بِإزالَةِ ذَلِكَ الحِجابِ أعْظَمُ مِنَ النَّعِيمِ بِالأكْلِ والشُّرْبِ، والتَّمَتُّعِ بِالحُورِ العِينِ، فَهَكَذا عَذابُ الحِجابِ أعْظَمُ مِن عَذابِ الجَحِيمِ، ولِهَذا جَمَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِأوْلِيائِهِ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ في قَوْلِهِ:
﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] فالحُسْنى الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ: رُؤْيَةُ وجْهِهِ الكَرِيمِ في جَنّاتِ عَدْنٍ، وجَمَعَ لِأعْدائِهِ بَيْنَ العَذابَيْنِ في قَوْلِهِ:
﴿كَلّا إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ - ثُمَّ إنَّهم لَصالُو الجَحِيمِ﴾ [المطففين: ١٥-١٦].
والمَقْصُودُ: أنَّ الغَفْلَةَ هي نَوْمُ القَلْبِ عَنْ طَلَبِ هَذِهِ الحَياةِ، وهي حِجابٌ عَلَيْهِ، فَإنْ كُشِفَ هَذا الحِجابَ بِالذِّكْرِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى يَصِيرَ حِجابَ بِطالَةٍ ولَعِبٍ واشْتِغالٍ بِما لا يُفِيدُ، فَإنْ بادَرَ إلى كَشْفِهِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى يَصِيرَ حِجابَ مَعاصٍ وذُنُوبٍ صِغارٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، فَإنْ بادَرَ إلى كَشْفِهِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى يَصِيرَ حِجابَ كَبائِرٍ تُوجِبُ مَقْتَ الرَّبِّ تَعالى لَهُ وغَضَبَهُ ولَعْنَتَهُ، فَإنْ بادَرَ إلى كَشْفِهِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى صارَ حِجابَ بِدَعٍ عَمَلِيَّةٍ يُعَذِّبُ العامِلُ فِيها نَفْسَهُ، ولا تُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإنْ بادَرَ إلى كَشْفِهِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى صارَ حِجابَ بِدَعٍ قَوْلِيَّةٍ اعْتِقادِيَّةٍ؛ تَتَضَمَّنُ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، والتَّكْذِيبَ بِالحَقِّ الَّذِي جاءَ بِهِ الرَّسُولُ، فَإنْ بادَرَ إلى كَشْفِهِ وإلّا تَكاثَفَ حَتّى صارَ حِجابَ شَكٍّ وتَكْذِيبٍ؛ يَقْدَحُ في أُصُولِ الإيمانِ الخَمْسَةِ، وهِيَ: الإيمانُ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ ولِقائِهِ، فَلِغِلَظِ حِجابِهِ وكَثافَتِهِ وظُلْمَتِهِ وسَوادِهِ لا يَرى حَقائِقَ الإيمانِ، ويَتَمَكَّنُ مِنهُ الشَّيْطانُ، يَعِدُهُ ويُمَنِّيهِ، والنَّفْسُ الأمّارَةُ بِالسُّوءِ تَهْوى وتَشْتَهِي، وسُلْطانُ الطَّبْعِ قَدْ ظَفِرَ بِسُلْطانِ الإيمانِ، فَأسَرَهُ وسَجَنَهُ إنْ لَمْ يُهْلِكْهُ، وتَوَلّى تَدْبِيرَ المَمْلَكَةِ واسْتِخْدامَ جُنُودِ الشَّهَواتِ، وأقْطَعَها العَوائِدَ الَّتِي جَرى عَلَيْها العَمَلُ، وأغْلَقَ بابَ اليَقَظَةِ، وأقامَ عَلَيْهِ بَوّابَ الغَفْلَةِ، وقالَ: إيّاكَ أنْ نُؤْتى مِن قِبَلِكَ، واتَّخَذَ حاجِبًا مِنَ الهَوى، وقالَ: إيّاكَ أنْ تُمَكِّنَ أحَدًا يَدْخُلُ عَلَيَّ إلّا مَعَكَ، فَأمْرُ هَذِهِ المَمْلَكَةِ قَدْ صارَ إلَيْكَ وإلى البَوّابِ، فَيا بَوّابَ الغَفْلَةِ، ويا حاجِبَ الهَوى لِيَلْزَمْ كُلٌّ مِنكُما ثَغْرَهُ، فَإنْ أخْلَيْتُما فَسَدَ أمْرُ مَمْلَكَتِنا، وعادَتِ الدَّوْلَةُ لِغَيْرِنا، وسامَنا سُلْطانُ الإيمانِ شَرَّ الخِزْيِ والهَوانِ، ولا نَفْرَحُ بِهَذِهِ المَدِينَةِ أبَدًا.
فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ! إذا اجْتَمَعَتْ عَلى القَلْبِ هَذِهِ العَساكِرُ مَعَ رِقَّةِ الإيمانِ وقِلَّةِ الأعْوانِ، والإعْراضِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، والِانْخِراطِ في سِلْكِ أبْناءِ الزَّمانِ، وطُولِ الأمَلِ المُفْسِدِ لِلْإنْسانِ أنْ آثَرَ العاجِلَ الحاضِرَ عَلى الغائِبِ المَوْعُودِ بِهِ بَعْدَ طَيِّ هَذِهِ الأكْوانِ، فاللَّهُ المُسْتَعانُ وعَلَيْهِ التُّكْلانُ.
فَهَذا فَصْلٌ مُخْتَصَرٌ نافِعٌ في ذِكْرِ الحَياةِ وأنْواعِها، والتَّشْوِيقِ إلى أشْرَفِها وأطْيَبِها، فَمَن صادَفَ مِن قَلْبِهِ حَياةً انْتَفَعَ بِهِ، وإلّا فَخُودٌ تُزَفُّ إلى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ.
فَلْنَرْجِعْ إلى شَرْحِ كَلامِ صاحِبِ المَنازِلِ:
قالَ: ولَها ثَلاثَةُ أنْفاسٍ: نَفَسُ الخَوْفِ، ونَفَسُ الرَّجاءِ، ونَفَسُ المَحَبَّةِ.
لَمّا كانَ لِكُلِّ حَيَوانٍ مُتَنَفَّسًا، فَإنَّ النَّفَسَ مُوجِبُ الحَياةِ وعَلامَتُها، كانَتْ أنْفاسُ الحَياةِ المُشارُ إلَيْها ثَلاثَةُ أنْفاسٍ: نَفَسُ الخَوْفِ؛ ومَصْدَرُهُ: مُطالَعَةُ الوَعِيدِ، وما أعَدَّ اللَّهُ لِمَن آثَرَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ، والمَخْلُوقَ عَلى الخالِقِ، والهَوى عَلى الهُدى، والغَيَّ عَلى الرَّشادِ.
وَنَفَسُ الرَّجاءِ؛ ومَصْدَرُهُ مُطالَعَةُ الوَعْدِ، وحُسْنُ الظَّنِّ بِالرَّبِّ تَعالى، وما اللَّهُ أعَدَّ لِمَن آثَرَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ، وحَكَّمَ الهُدى عَلى الهَوى، والوَحْيَ عَلى الآراءِ، والسُّنَّةَ عَلى البِدْعَةِ، وما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ عَلى عَوائِدِ الخَلْقِ.
وَنَفَسٌ بِالمَحَبَّةِ؛ مَصْدَرُهُ مُطالَعَةُ الأسْماءِ والصِّفاتِ، ومُشاهَدَةُ النَّعْماءِ والآلاءِ.
فَإذا ذَكَرَ ذُنُوبَهُ تَنَفَّسَ بِالخَوْفِ، وإذا ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّهِ وسَعَةَ مَغْفِرَتِهِ وعَفْوِهِ تَنَفَّسَ بِالرَّجاءِ، وإذا ذَكَرَ جَمالَهُ وجَلالَهُ وكَمالَهُ وإحْسانَهُ وإنْعامَهُ تَنَفَّسَ بِالحُبِّ.
فَلْيَزِنِ العَبْدُ إيمانَهُ بِهَذِهِ الأنْفاسِ الثَّلاثَةِ، لِيَعْلَمَ ما مَعَهُ مِنَ الإيمانِ، فَإنَّ القُلُوبَ مَفْطُورَةٌ عَلى حُبِّ الجَمالِ والإجْمالِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ جَمِيلٌ، بَلْ لَهُ الجَمالُ التّامُّ الكامِلُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ جَمالُ الذّاتِ، وجَمالُ الصِّفاتِ، وجَمالُ الأفْعالِ، وجَمالُ الأسْماءِ وإذا جُمِعَ جَمالُ المَخْلُوقاتِ كُلِّهِ عَلى شَخْصٍ واحِدٍ، ثُمَّ كانَتْ جَمِيعُها عَلى جَمالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، ثُمَّ نُسِبَ هَذا الجَمالُ إلى جَمالِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى، كانَ أقَلَّ مِن نِسْبَةِ سِراجٍ ضَعِيفٍ إلى عَيْنِ الشَّمْسِ.
فالنَّفَسُ الصّادِرُ عَنْ هَذِهِ المُلاحَظَةِ والمُطالَعَةِ أشْرَفُ أنْفاسِ العَبْدِ عَلى الإطْلاقِ، فَأيْنَ نَفَسُ المُشْتاقِ المُحِبِّ الصّادِقِ إلى نَفَسِ الخائِفِ الرّاجِي؟ ولَكِنْ لا يَحْصُلُ لَهُ هَذا النَّفَسُ إلّا بِتَحْصِيلِ ذَيْنِكَ النَّفْسَيْنِ، فَإنَّ أحَدَهُما ثَمَرَةُ تَرْكِهِ لِلْمُخالَفاتِ، والثّانِي: ثَمَرَةُ فِعْلِهِ لِلطّاعاتِ، فَمِن هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ يَصِلُ إلى النَّفَسِ الثّالِثِ.
* [فَصْلٌ الحَياةُ الثّانِيَةُ حَياةُ الجَمْعِ مِن مَوْتِ التَّفْرِقَةِ]
قالَ: الحَياةُ الثّانِيَةُ: حَياةُ الجَمْعِ مِن مَوْتِ التَّفْرِقَةِ، ولَها ثَلاثَةُ أنْفاسٍ: نَفَسُ الِاضْطِرارِ، ونَفَسُ الِافْتِقارِ، ونَفَسُ الِافْتِخارِ.
وَمُرادُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ بِالجَمْعِ في هَذِهِ الدَّرَجَةِ: جَمْعُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ، وجَمْعُ الخَواطِرِ والعُزُومِ في التَّوَجُّهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، لا الجَمْعُ الَّذِي هو حَضْرَةُ الوُجُودِ؛ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ حَياةَ هَذا الجَمْعِ في الدَّرَجَةِ الثّالِثَةِ، وسَمّاها حَياةَ الوُجُودِ.
وَإنَّما كانَ جَمْعُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ والخَواطِرِ عَلى السَّيْرِ إلَيْهِ حَياةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأنَّ القَلْبَ لا سَعادَةَ لَهُ، ولا فَلاحَ ولا نَعِيمَ، ولا فَوْزَ ولا لَذَّةَ، ولا قُرَّةَ عَيْنٍ إلّا بِأنْ يَكُونَ اللَّهُ وحْدَهُ هو غايَةُ طَلَبِهِ، ونِهايَةُ قَصْدِهِ، ووَجْهُهُ الأعْلى هو كُلُّ بُغْيَتِهِ، فالتَّفْرِقَةُ المُتَضَمِّنَةُ لِلْإعْراضِ عَنِ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ، واجْتِماعِ القَلْبِ عَلَيْهِ هي مَرَضُهُ إنْ لَمْ يَمُتْ مِنها.
قالَ: ولِهَذِهِ الحَياةِ ثَلاثَةُ أنْفاسٍ، نَفَسُ الِاضْطِرارِ؛ وذَلِكَ لِانْقِطاعِ أمَلِهِ مِمّا سِوى اللَّهِ، فَيُضْطَرُّ حِينَئِذٍ بِقَلْبِهِ ورُوحِهِ ونَفْسِهِ وبَدَنِهِ إلى رَبِّهِ ضَرُورَةً تامَّةً، بِحَيْثُ يَجِدُ في كُلِّ مَنبَتِ شَعْرَةٍ مِنهُ فاقَةً تامَّةً إلى رَبِّهِ ومَعْبُودِهِ، فَهَذا النَّفَسُ نَفَسٌ مُضْطَرٌّ إلى ما لا غِنى لَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وضَرُورَتُهُ إلَيْهِ مِن جِهَةِ كَوْنِهِ رَبَّهُ، وخالِقَهُ وفاطِرَهُ وناصِرَهُ، وحافِظَهُ ومُعِينَهُ ورازِقَهُ، وهادِيَهُ ومُعافِيَهُ، والقائِمَ بِجَمِيعِ مَصالِحِهِ، ومِن جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْبُودَهُ وإلَهَهُ، وحَبِيبَهُ الَّذِي لا تَكْمُلُ حَياتُهُ ولا تَنْفَعُ إلّا بِأنْ يَكُونَ هو وحْدَهُ أحَبَّ شَيْءٍ إلَيْهِ، وأشْوَقَ شَيْءٍ إلَيْهِ، وهَذا الِاضْطِرارُ هو اضْطِرارُ " إيّاكَ نَعْبُدُ " والِاضْطِرارُ الأوَّلُ: اضْطِرارُ " إيّاكَ نَسْتَعِينُ ".
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ نَفَسَ الِافْتِقارِ هو هَذا النَّفَسُ، أوْ مِن نَوْعِهِ، ولَكِنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُما نَفَسَيْنِ، فَجَعَلَ نَفَسَ الِاضْطِرارِ بِدايَةً، ونَفَسَ الِافْتِقارِ تَوَسُّطًا، ونَفَسَ الِافْتِخارِ نِهايَةً، وكَأنَّ نَفَسَ الِاضْطِرارِ يَقْطَعُ الخَلْقَ مِن قَلْبِهِ، ونَفَسَ الِافْتِقارِ يُعَلِّقُ قَلْبَهُ بِرَبِّهِ.
والتَّحْقِيقُ: أنَّهُ نَفَسٌ واحِدٌ مُمْتَدٌّ، أوَّلُهُ انْقِطاعٌ، وآخِرُهُ اتِّصالٌ.
وَأمّا نَفَسُ الِافْتِخارِ فَهو نَتِيجَةُ هَذَيْنِ النَّفَسَيْنِ؛ لِأنَّهُما إذا صَحا لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ القُرْبُ مِن رَبِّهِ، والأُنْسُ بِهِ، والفَرَحُ بِهِ، وبِالخِلَعِ الَّتِي خَلَعَها رَبُّهُ عَلى قَلْبِهِ ورُوحِهِ مِمّا لا يَقُومُ لِبَعْضِهِ مَمالِكُ الدُّنْيا بِحَذافِيرِها، فَحِينَئِذٍ يَتَنَفَّسُ نَفَسًا آخَرَ، يَجِدُ بِهِ مِنَ التَّفْرِيجِ والتَّرْوِيحِ والرّاحَةِ والِانْشِراحِ ما يُشَبَّهُ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ بِنَفَسِ مَن جُعِلَ في عُنُقِهِ حَبْلٌ لِيُخْنَقَ بِهِ حَتّى يَمُوتَ، ثُمَّ كُشِفَ عَنْهُ وقَدْ حُبِسَ نَفَسُهُ، فَتَنَفَّسَ نَفَسَ مَن أُعِيدَتْ عَلَيْهِ حَياتُهُ، وتَخَلَّصَ مِن أسْبابِ المَوْتِ.
فَإنْ قُلْتَ: ما لِلْعَبْدِ والِافْتِخارِ؟ وأيْنَ العُبُودِيَّةُ مِن نَفَسِ الِافْتِخارِ؟
قُلْتُ: لا يُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّ العَبْدَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، ويَخْتالُ عَلى بَنِي جِنْسِهِ، بَلْ هو فَرَحٌ وسُرُورٌ لا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِما فَتَحَ عَلَيْهِ رَبُّهُ، ومَنَحَهُ إيّاهُ، وخَصَّهُ بِهِ، وأوْلى ما فَرِحَ بِهِ العَبْدُ فَضْلُ رَبِّهِ عَلَيْهِ؛ فَإنَّهُ تَعالى يُحِبُّ أنْ يَرى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ، ويُحِبُّ الفَرَحَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مِنَ الشُّكْرِ، ومَن لا يَفْرَحْ بِنِعْمَةِ المُنْعِمِ لا يُعَدُّ شَكُورًا، فَهو افْتِخارٌ بِما هو مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ ونِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ، لا افْتِخارَ بِما مَنَّ العَبْدُ، فَهَذا هو الَّذِي يُنافِي العُبُودِيَّةَ لا ذاكَ.
وَهُنا سِرٌّ لَطِيفٌ، وهو أنَّ هَذا النَّفَسَ يَفْخَرُ عَلى أنْفاسِهِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَما تَفْخَرُ الحَياةُ عَلى المَوْتِ، والعِلْمُ عَلى الجَهْلِ، والسَّمْعُ عَلى الصَّمَمِ، والبَصَرُ عَلى العَمى، فَيَكُونُ الِافْتِخارُ لِلنَّفَسِ عَلى النَّفَسِ، لا لِلْمُتَنَفِّسِ عَلى النّاسِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الحَياةُ الثّالِثَةُ حَياةُ الوُجُودِ]
قالَ: الحَياةُ الثّالِثَةُ: حَياةُ الوُجُودِ. وهي حَياةٌ بِالحَقِّ، ولَها ثَلاثَةُ أنْفاسٍ: نَفَسُ الهَيْبَةِ، وهو يُمِيتُ الِاعْتِدالَ. ونَفَسُ الوُجُودِ، وهو يَمْنَعُ الِانْفِصالَ. ونَفَسُ الِانْفِرادِ وهو يُورِثُ الِاتِّصالَ، ولَيْسَ وراءَ ذَلِكَ مَلْحَظٌ لِلنَّظّارَةِ، ولا طاقَةٌ لِلْإشارَةِ.
هَذِهِ المَرْتَبَةُ مِنَ الحَياةِ هي حَياةُ الواجِدِ، وهي أكْمَلُ مِنَ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَها، ووُجُودُ العَبْدِ لِرَبِّهِ هو الَّذِي أشارَ إلَيْهِ في الحَدِيثِ الإلَهِيِّ بِقَوْلِهِ:
«فَإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِها، ورِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِها، فَبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي يَبْطِشُ، وبِي يَمْشِي» والمُشارُ إلَيْهِ في قَوْلِهِ:
«ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإنْ وجَدْتَنِي وجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وإنْ فُتُّكَ فاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ».
وَسَيَأْتِي في بابِ الوُجُودِ مَزِيدٌ لِهَذا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَإنَّما كانَتْ حَياةُ الوُجُودِ أكْمَلَ الحَياةِ، لِشَرَفِها وكَمالِها بِمُوجِدِها؛ وهو الحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَمَن حُبِيَ بِوُجُودِهِ فَقَدْ فازَ بِأعْلى أنْواعِ الحَياةِ.
فَإنْ قُلْتَ: يَصْعُبُ عَلَيَّ فَهْمُ مَعْنى الحَياةِ بِوُجُودِهِ.
قُلْتُ: لِأجْلِ الحِجابِ الَّذِي ضُرِبَ بَيْنَكَ وبَيْنَ هَذِهِ الحَياةِ، فافْهَمِ الحَياةَ بِوُجُودِ الفَناءِ، وبِوُجُودِ المالِكِ القادِرِ إذا كانَ مَعَكَ وناصِرَكَ، دُونَ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ ولا مَعْرِفَةَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ ألْبَتَّةَ فَحَقِيقَةُ الحَياةِ: هي الحَياةُ بِالرَّبِّ تَعالى، لا الحَياةُ النَّفَسُ والفَناءُ وأسْبابُ العَيْشِ.
وَقَدْ تُفَسَّرُ " حَياةُ الوُجُودِ " بِشُهُودِ القَيُّومِيَّةِ، حَيْثُ لا يَرى شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ إلّا وهو بِاللَّهِ، وهو الَّذِي أقامَهُ، وبِحالِ هَذا الشُّهُودِ، وهو أنْ لا يَلْتَفِتَ بِقَلْبِهِ إلى شَيْءٍ سِوى اللَّهِ، ولا يَخافَهُ ولا يَرْجُوهُ، بَلْ قَدْ قَصَرَ خَوْفَهُ ورَجاءَهُ، وتَوَكُّلَهُ وإنابَتَهُ عَلى الحَيِّ القَيُّومِ، قَيُّومِ الوُجُودِ وقَيِّمِهِ وقِيامِهِ ومُقَيِمِهِ وحْدَهُ، فَمَتى حَصَلَ لَهُ هَذا الشُّهُودُ وهَذا الحالُ، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ حَياةُ الوُجُودِ.
فَتارَةً يَتَنَفَّسُ بِالهَيْبَةِ، وهي سَطْوَةُ نُورِ الصِّفاتِ، وذَلِكَ عِنْدَ أوَّلِ ما يَسْطَعُ نُورُ الوُجُودِ، فَيَقَعُ القَلْبُ في هَيْبَةٍ تَسْتَغْرِقُ حِسَّهُ عَنْ الِالتِفاتِ إلى شَيْءٍ مِن عَوالِمِ النَّفَسِ، وذَلِكَ هو الِاعْتِلالُ الَّذِي يُمِيتُهُ النَّفَسُ الثّانِي، وهو قَوْلُهُ: " ونَفَسُ يُمِيتُ الِاعْتِلالَ " فَتَمُوتُ مِنهُ عِلَلُ أعْمالِهِ، وآثارُ حُظُوظِهِ، وشُهُودُ إنِّيَّتِهِ.
قَوْلُهُ: " ونَفَسُ الوُجُودِ " يُرِيدُ بِهِ: وُجُودَ العَبْدِ بِرَبِّهِ، فَيَتَنَفَّسُ بِهَذا الوُجُودِ، كَما يَسْمَعُ بِهِ، ويُبْصِرُ بِهِ، ويَبْطِشُ بِهِ، ويَمْشِي بِهِ.
وَلا تُصْغِ إلى غَيْرِ هَذا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها.