الباحث القرآني

قال الضحاك: "مفروضا أي معلوما" وقال الزجاج: "أى نصيبا افترضته على نفسي" قال الفراء: "يعني ما جعل له عليه السبيل من الناس، فهو كالمفروض". قلت: حقيقة الفرض هو التقدير. والمعنى: أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظه المقسوم، فكل من أطاع عدو الله فهو من مفروضه، فالناس قسمان: نصيب الشيطان ومفروضه، وأولياء الله وحزبه وخاصته. وقوله ﴿ولأضلنهم﴾ يعني عن الحق ﴿ولأمنينهم﴾، قال ابن عباس: "يريد تعويق التوبة وتأخيرها". وقال الكلبى: "أمُنَيِّهم أنه لا جنة، ولا نار، ولا بعث". وقال الزجاج: "أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون مع ذلك حظهم من الآخرة". وقيل: "لأمنينهم ركوب الأهواء الداعية إلى العصيان والبدع". وقيل: "أمنيهم طول البقاء في نعيم الدنيا، فأطيل لهم الأمل فيها ليؤثروها على الآخرة". وقوله: ﴿وَلآمُرَنّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ﴾ [النساء: ١١٩]. البتك: القطع وهو في هذا الموضع: قطع آذان البحيرة، عن جميع المفسرين، ومن هاهنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذنى الطفل للحلق، ورخص بعضهم في ذلك للأنثى، دون الذكر، لحاجتها إلى الحلية، واحتجوا بحديث أم زَرْعٍ، وفيه: "أناسَ مِن حُلِىّ أُذُنىّ " وقال النبي ﷺ: "كُنْتُ لَكِ كَأبِي زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ". ونص أحمد رحمه الله على جواز ذلك في حق البنت وكراهته في حق الصبي. وقوله: ﴿وَلآمُرَنّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ [النساء: ١١٩]. قال ابن عباس: "يريد دين الله". وهو قول إبراهيم، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، والسُّدى، وسعيد بن المسيَّب، وسعيد بن جُبير. ومعنى ذلك: هو أن الله تعالى فطر عباده على الفطرة المستقيمة؛ وهى ملَّة الإسلام؛ كما قال تعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولِكنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتّقُوهُ﴾ [الروم: ٣٠-٣١]. ولهذا قال ﷺ: "ما مِن مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمجِّسانِهِ كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، فَهَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ، حَتّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَها". ثم قرأ أبو هريرة: ﴿فِطرَتَ اللهِ الّتِى فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] الآية، متفق عليه. فجمع النبيّ عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر، وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغيروا الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة. ثم قال: ﴿يعدهم ويمنيهم﴾ فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان، نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا إربك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أن الوعد في الخير والتمنية في الطلب والإرادة، فيعده الباطل الذي لا حقيقة له - وهو الغرور - ويمنيه المحال الذي لا حاصل له. ومن تأمل أحوال أكثر الناس وجدهم متعلقين بوعده وتمنيه وهم لا يشعرون أنه يعد الباطل، ويمنى المحال، والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذى بوعده وتمنيته، كما قال القائل: ؎مُنًى إنْ تَكُنْ حَقا تَكُنْ أحْسَنَ المُنى ∗∗∗ وإلا فَقَدْ عِشْنا بِها زَمَنًا رَغْدا فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانى الباطلة والوعود الكاذبة، وتفرح بها، كما يفرح بها النساء والصيبان ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيه، فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مبطل فله نصيب من قوله: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلا غُرُورًا﴾. * [فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُدْخِلُ العَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ] وَمِنها: أنَّ الذُّنُوبَ تُدْخِلُ العَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنَّهُ لَعَنَ عَلى مَعاصِي والَّتِي غَيْرُها أكْبَرُ مِنها، فَهي أوْلى بِدُخُولِ فاعِلِها تَحْتَ اللَّعْنَةِ. فَلَعَنَ الواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والنّامِصَةَ والمُتَنَمِّصَةَ، والواشِرَةَ والمُسْتَوْشِرَةَ. وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُؤْكِلَهُ وكاتِبَهُ وشاهِدَهُ. وَلَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ. وَلَعَنَ السّارِقَ. وَلَعَنَ شارِبَ الخَمْرِ وساقِيها وعاصِرَها ومُعْتَصِرَها، وبائِعَها ومُشْتَرِيها، وآكِلَ ثَمَنِها وحامِلَها والمَحْمُولَةَ إلَيْهِ. وَلَعَنَ مَن غَيَّرَ مَنارَ الأرْضِ وهي أعْلامُها وحُدُودُها. وَلَعَنَ مَن لَعَنَ والِدَيْهِ. وَلَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا يَرْمِيهِ بِسَهْمٍ. وَلَعَنَ المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجالِ والمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّساءِ. وَلَعَنَ مَن ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَلَعَنَ مَن أحْدَثَ حَدَثًا أوْ آوى مُحْدِثًا. وَلَعَنَ المُصَوِّرِينَ. وَلَعَنَ مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ. وَلَعَنَ مَن سَبَّ أباهُ وأُمَّهُ. وَلَعَنَ مَن كَمِهَ أعْمًى عَنِ الطَّرِيقِ. وَلَعَنَ مَن أتى بَهِيمَةً. وَلَعَنَ مَن وسَمَ دابَّةً في وجْهِها. وَلَعَنَ مَن ضارَّ مُسْلِمًا أوْ مَكَرَ بِهِ. وَلَعَنَ زَوّاراتِ القُبُورِ والمُتَّخِذِينَ عَلَيْها المَساجِدَ والسُّرُجَ. وَلَعَنَ مَن أفْسَدَ امْرَأةً عَلى زَوْجِها، أوْ مَمْلُوكًا عَلى سَيِّدِهِ. وَلَعَنَ مَن أتى امْرَأةً في دُبُرِها. وَأخْبَرَ أنَّ مَن باتَتْ مُهاجِرَةً لِفِراشِ زَوْجِها لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ. وَلَعَنَ مَنِ انْتَسَبَ إلى غَيْرِ أبِيهِ. وَأخْبَرَ أنَّ مَن أشارَ إلى أخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإنَّ المَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ. وَلَعَنَ مَن سَبَّ الصَّحابَةَ. مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَن أفْسَدَ في الأرْضِ وقَطَعَ رَحِمَهُ، وآذاهُ وآذى رَسُولَهُ ﷺ. وَلَعَنَ مَن كَتَمَ ما أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِنَ البَيِّناتِ والهُدى. وَلَعَنَ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ بِالفاحِشَةِ. وَلَعَنَ مَن جَعَلَ سَبِيلَ الكافِرِ أهْدى مِن سَبِيلِ المُسْلِمِ. وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ المَرْأةِ والمَرْأةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ. وَلَعَنَ الرّاشِي والمُرْتَشِي والرّائِشَ، وهُوَ: الواسِطَةُ في الرِّشْوَةِ. وَلَعَنَ عَلى أشْياءَ أُخْرى غَيْرِ هَذِهِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ في فِعْلِ ذَلِكَ إلّا رِضاءُ فاعِلِهِ بِأنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلْعَنُهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ ومَلائِكَتُهُ لَكانَ في ذَلِكَ ما يَدْعُو إلى تَرْكِهِ. وَمِنها: حِرْمانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ودَعْوَةِ المَلائِكَةِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ، وقالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذابَ الجَحِيمِ - رَبَّنا وأدْخِلْهم جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدْتَهم ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ - وقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [غافر: ٧-٩]. فَهَذا دُعاءُ المَلائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ التّائِبِينَ المُتَّبِعِينَ لِكِتابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّذِينَ لا سَبِيلَ لَهم غَيْرُهُما، فَلا يَطْمَعُ غَيْرُ هَؤُلاءِ بِإجابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، إذْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفاتِ المَدْعُوِّ لَهُ بِها، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب