الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم ولآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ [١١٩]
﴿ولأُضِلَّنَّهُمْ﴾ أيْ: عَنِ الهُدى ﴿ولأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أيِ: الأمانِيَّ الباطِلَةَ مِن طُولِ الأعْمارِ وبُلُوغِ الآمالِ، قالَ الرّازِيُّ: إنَّ الشَّيْطانَ لَمّا ادَّعى أنَّهُ يُضِلُّ الخَلْقَ قالَ: ﴿ولأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ (p-١٥٦٨)وهَذا يُشْعِرُ بِأنَّهُ لا حِيلَةَ لَهُ في الإضْلالِ أقْوى مِنَ الأمانِيِّ في قُلُوبِ الخَلْقِ، وطَلَبِ ما يُورِثُ شَيْئَيْنِ: الحِرْصَ والأمَلَ، والحِرْصُ والأمَلُ يَسْتَلْزِمُ أكْثَرَ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، وهُما كالأمْرَيْنِ اللّازِمَيْنِ لِجَوْهَرِ الإنْسانِ، قالَ ﷺ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ ويَشِبُّ مَعَهُ اثْنَتانِ: الحِرْصُ والأمَلُ» .
والحِرْصُ يَسْتَلْزِمُ رُكُوبَ أهْوالِ الدُّنْيا وأهْوالِ الدِّينِ، فَإنَّهُ إذا اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلى الشَّيْءِ فَقَدْ لا يَقْدِرُ عَلى تَحْصِيلِهِ إلّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وإيذاءِ الخَلْقِ، وإذا طالَ أمَلُهُ نَسِيَ الآخِرَةَ وصارَ غَرِيقًا في الدُّنْيا، فَلا يَكادُ يَقْدَمُ عَلى التَّوْبَةِ ولا يَكادُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الوَعْظُ فَيَصِيرُ قَلْبُهُ كالحِجارَةِ أوْ أشَدَّ قَسْوَةً.
﴿ولآمُرَنَّهُمْ﴾ أيْ: عَلى خِلافِ أمْرِكَ إضْلالًا لَهم ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ﴾ أيْ: فَلَيُقَطِّعُنَّها ويَشُقُّنَّها سِمَةً وعَلامَةً لِلْبَحائِرِ والسَّوائِبِ لِيُحَرِّمُوها بَعْدَما أحْلَلْتَها.
قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّبْتِيكُ: هَهُنا هو قَطْعُ آذانِ البَحِيرَةِ بِإجْماعِ المُفَسِّرِينَ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَشُقُّونَ آذانَ النّاقَةِ إذا ولَدَتْ خَمْسَةَ أبْطُنٍ وجاءَ الخامِسُ ذَكَرًا ثُمَّ تُسَيَّبُ، وحَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمُ الِانْتِفاعَ بِها، فَأعْفَوْا ظَهْرَها مِنَ الرُّكُوبِ والحَمْلِ والذَّبْحِ، ولا يَرُدُّونَها عَنْ ماءٍ ولا مَرْعًى، وإذا لَقِيَها المُعْيى المُنْقَطِعُ بِهِ لَمْ يَرْكَبْها، وسَوَّلَ لَهم إبْلِيسُ أنَّ هَذا قُرْبَةٌ وهي البَحِيرَةُ.
قالَ ابْنُ سِيدَهْ: بَحَرَ النّاقَةَ والشّاةَ يَبْحَرُها: شَقَّ أُذُنَها بِنِصْفَيْنِ، وقَلَّ بِنِصْفَيْنِ طُولًا.
﴿ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ أيْ: دِينَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ورَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وكَثِيرِينَ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠] [الرُّومِ: ٣٠] عَلى قَوْلِ مَن جَعَلَ ذَلِكَ أمْرًا، أيْ: لا تُبَدِّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، (p-١٥٦٩)ودَعُوا النّاسَ عَلى فِطْرَتِهِمْ.
كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ، كَما تُولَدُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هَلْ تَجِدُونَ بِها مِن جَدْعاءَ؟»
وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عِياضِ بْنِ حِمارٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: «إنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ فَجاءَتْهُمُ الشَّياطِينُ فاجْتالَتْهم عَنْ دِينِهِمْ وحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهم» .
(p-١٥٧٠)ورَوى الإمامُ أحْمَدُ والشَّيْخانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الخُزاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ، وكانَ أوَّلَ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ وبَحَرَ البَحِيرَةَ» .
ورَوى الطَّبَرانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا: «أوَّلُ مَن غَيَّرَ دِينَ إبْراهِيمَ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدَفَ، أبُو خُزاعَةَ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ عَنى بِالآيَةِ خَصْيَ الدَّوابِّ، وقالَ أنَسٌ: مِنهُ الخَصا.
وقَدْ رَوى ابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الإخْصاءِ.
ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ أيْضًا عَنْهُ بِلَفْظِ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ خِصاءِ الخَيْلِ والبَهائِمِ».
ورَوى الطَّبَرانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «نَهى النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُخْصى أحَدٌ مِن ولَدِ آدَمَ».
ورَوى (p-١٥٧١)البَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ صَبْرِ الرُّوحِ وخِصاءِ البَهائِمِ».
وقالَ الحَسَنُ: عَنى بِالآيَةِ الوَشْمَ (بِالشِّينِ المُعْجَمَةِ) أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ.
رَوى الإمامُ أحْمَدُ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الوَشْمِ».
وفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ والنّامِصاتِ والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ثُمَّ قالَ: ألا ألْعَنُ مَن لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]»
قالَ السُّيُوطِيُّ في "الإكْلِيلِ": فَيُسْتَدَلُّ بِالآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ الخِصاءِ والوَشْمِ وما يَجْرِي مَجْراهُ مِنَ الوَصْلِ في الشَّعْرِ، والتَّفَلُّجِ: وهو تَفْرِيقُ الأسْنانِ، والتَّنْمِيصِ: وهو نَتْفُ الشَّعْرِ في الوَجْهِ. انْتَهى.
(p-١٥٧٢)قالَ بَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ: ويُلْحَقُ بِالوَشْرِ ما يُفْعَلُ في الخَدِّ مِنَ الشُّرَطِ لِلزِّينَةِ.
وحَكى الزَّجّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ في مَعْنى الآيَةِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الأنْعامَ لِيَرْكَبُوها ويَأْكُلُوها، فَحَرَّمُوها عَلى أنْفُسِهِمْ كالبَحائِرِ والسَّوائِبِ والوَصائِلِ، وخَلَقَ الشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّرَةً لِلنّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِها، فَعَبَدَها المُشْرِكُونَ فَغَيَّرُوا خَلْقَ اللَّهِ، ولا يَخْفى أنَّ عُمُومَ الآيَةِ يَصْدُقُ عَلى جَمِيعِ المَعانِي؛ إذْ كُلُّها مِن تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، فَلا مانِعَ مِن حَمْلِ الآيَةِ عَلَيْها.
قالَ البَيْضاوِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ أيْ: عَنْ وجْهِهِ وصُورَتِهِ، أوْ صِفَتِهِ، ويَنْدَرِجُ فِيهِ ما قِيلَ مِن فَقْءِ عَيْنِ الحامِي، وخِصاءِ العَبِيدِ، والوَشْمِ والوَشْرِ، واللِّواطِ، والسَّحْقِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وعِبادَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وتَغْيِيرِ فِطْرَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي هي الإسْلامُ، واسْتِعْمالِ الجَوارِحِ والقُوى فِيما لا يَعُودُ عَلى النَّفْسِ كَمالًا، ولا يُوجِبُ لَها مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى زُلْفى. انْتَهى.
وهَذِهِ الجُمَلُ المَحْكِيَّةُ عَنِ اللَّعِينِ مِمّا نَطَقَ بِهِ لِسانُهُ مَقالًا أوْ حالًا، وما فِيها مِنَ (اللّاماتِ) كُلُّها لِلْقَسَمِ، والمَأْمُورُ بِهِ في المَوْضِعَيْنِ مَحْذُوفٌ؛ ثِقَةً بِدَلالَةِ النَّظْمِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ حَذَّرَ تَعالى عَنْ مُتابَعَتِهِ فَقالَ: ﴿ومَن يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ بِإيثارِ ما يَدْعُو إلَيْهِ، مُجاوِزًا وِلايَةَ اللَّهِ بِتَرْكِ ما يَدْعُو إلَيْهِ ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ أيْ: بَيِّنًا لِمَصِيرِهِ إلى النّارِ المُؤَبَّدَةِ عَلَيْهِ.
{"ayah":"وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّیَنَّهُمۡ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَلَـَٔامُرَنَّهُمۡ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











