الباحث القرآني

يَعْنِي إذا كانَ لا يَسْتَوِي عنْدكم عبد مَمْلُوك لا يقدر على شَيْء وغني موسع عَلَيْهِ ينْفق مِمّا رزقه الله فَكيف تَجْعَلُونَ الصَّنَم الَّذِي هو أسْوَأ حالا من هَذا العَبْد شَرِيكا لله، وكَذَلِكَ إذا كانَ لا يَسْتَوِي عنْدكم رجلانِ أحدهما أبكم لا يعقل ولا ينْطق وهو مَعَ ذَلِك عاجز لا يقدر على شَيْء وآخر على طَرِيق مُسْتَقِيم في أقْواله وأفعاله وهو آمُر بِالعَدْلِ عامل بِهِ لِأنَّهُ على صِراط مُسْتَقِيم فَكيف تسوون بَين الله وبَين الصَّنَم في العِبادَة؟! ونظائر ذَلِك كَثِيرَة في القُرْآن وفي الحَدِيث كَقَوْلِه في حَدِيث الحارِث الأشْعَرِيّ "وأن الله أمركُم أن تَعْبُدُوهُ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وإن مثل من أشرك كَمثل رجل اشْترى عبدا من خالص ماله وقالَ لَهُ اعْمَلْ وأد إلَيَّ، فَكانَ يعْمل ويُؤَدِّي إلى غَيره فَأيكم يحب أن يكون عَبده كَذَلِك؟ فالله سُبْحانَهُ لا تضرب [له] الأمْثال الَّتِي يشْتَرك هو وخلقه فِيها لا شمولا ولا تمثيلا، وإنما يسْتَعْمل في حَقه قِياس الأولى كَما تقدم. * (فائدة) قَولُهُ - تَعالى -: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ قالُوا: ومَن تَأمَّلَ هَذِهِ الآيَةَ حَقَّ التَّأمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّها نَصٌّ عَلى إبْطالِ القِياسِ وتَحْرِيمِهِ؛ لِأنَّ القِياسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الأمْثالِ لِلدَّيْنِ، وتَمْثِيلُ ما لا نَصَّ فِيهِ بِما فِيهِ نَصٌّ، ومَن مَثَّلَ ما لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلى تَحْرِيمِهِ أوْ إيجابِهِ بِما حَرَّمَهُ أوْ أوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الأمْثالَ، ولَوْ عَلِمَ - سُبْحانَهُ - أنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لَأعْلَمَنا بِهِ، ولَما أغْفَلَهُ - سُبْحانَهُ - ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤]، ولْيُبَيِّنْ لَنا ما نَتَّقِي كَما أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إذْ يَقُولُ - سُبْحانَهُ -: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥] وَلَمّا وكَلَهُ إلى آرائِنا ومَقايِيسِنا الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُها بَعْضًا، فَهَذا يَقِيسُ ما يَذْهَبُ إلَيْهِ عَلى ما يَزْعُمُ أنَّهُ نَظِيرُهُ فَيَجِيءُ مُنازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِياسِهِ مِن كُلِّ وجْهٍ، ويُبْدِي مِن الوَصْفِ الجامِعِ مِثْلَ ما أبْداهُ مُنازِعُوهُ أوْ أظْهَرَ مِنهُ، ومُحالٌ أنْ يَكُونَ القِياسانِ مَعًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولَيْسَ أحَدُهُما أوْلى مِن الآخَرِ، فَلَيْسا مِن عِنْدِهِ، وهَذا وحْدَهُ كافٍ في إبْطالِ القِياسِ. * (فصل) هَذانِ مَثَلانِ مُتَضَمِّنانِ قِياسَيْنِ مِن قِياسِ العَكْسِ، وهو نَفْيُ الحُكْمِ لِنَفْيِ عِلَّتِهِ ومُوجِبِهِ، فَإنْ القِياسَ نَوْعانِ: قِياسُ طَرْدٍ يَقْتَضِي إثْباتَ الحُكْمِ في الفَرْعِ لِثُبُوتِ عِلَّةِ الأصْلِ فِيهِ؛ وقِياسُ عَكْسٍ يَقْتَضِي نَفْيِ الحُكْمِ عَنْ الفَرْعِ لِنَفْيِ عِلَّةِ الحُكْمِ فِيهِ؛ فالمَثَلُ الأوَّلُ ما ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِنَفْسِهِ ولِلْأوْثانِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ هو المالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُ كَيْف يَشاءُ عَلى عَبِيدِهِ سِرًّا وجَهْرًا ولَيْلًا ونَهارًا يَمِينُهُ مَلْأى لا يَغِيضُها نَفَقَةُ سَحّاءَ اللَّيْلَ والنَّهارَ، والأوْثانُ مَمْلُوكَةٌ عاجِزَةٌ لا تَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، فَكَيْف يَجْعَلُونَها شُرَكاءَ لِي ويَعْبُدُونَها مِن دُونِي مَعَ هَذا التَّفاوُتِ العَظِيمِ والفَرْقِ المُبِينِ؟ هَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ في الخَيْرِ الَّذِي عِنْدَهُ ثُمَّ رَزَقَهُ مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهو يُنْفِقُ مِنهُ عَلى نَفْسِهِ وعَلى غَيْرِهِ سِرًّا وجَهْرًا، والكافِرُ بِمَنزِلَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عاجِزٍ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لِأنَّهُ لا خَيْرَ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَسْتَوِي الرَّجُلانِ عِنْدَ أحَدٍ مِن العُقَلاءِ؟ والقَوْلُ الأوَّلُ أشْبَهَ بِالمُرادِ، فَإنَّهُ أظْهَرُ في بُطْلانِ الشِّرْكِ، وأوْضَحُ عِنْدَ المُخاطَبِ، وأعْظَمُ في إقامَةِ الحُجَّةِ، وأقْرَبُ نَسَبًا بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [النحل: ٧٣] ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٤] ثُمَّ قالَ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] ومِن لَوازِمِ هَذا المِثْلِ وأحْكامِهِ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ المُوَحِّدُ كَمِن رَزَقَهُ مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا، والكافِرُ المُشْرِكُ كالعَبْدِ المَمْلُوكِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، فَهَذا مِمّا نَبَّهَ عَلَيْهِ المِثْلُ وأرْشِدْ إلَيْهِ، فَذَكَره ابْنُ عَبّاسٍ مُنَبِّهًا عَلى إرادَتِهِ لا أنَّ الآيَةَ اخْتَصَّتْ بِهِ، فَتَأمَّلْهُ فَإنَّك تَجِدْهُ كَثِيرًا في كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ مِن السَّلَفِ في فَهْمِ القُرْآنِ، فَيُظَنُّ أنَّ ذَلِكَ هو مَعْنى الآيَةِ الَّتِي لا مَعْنى لَها غَيْرُهُ فَيَحْكِيه قَوْلُهُ. * (فَصْلٌ) وَأمّا المَثَلُ الثّانِي فَهو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لِنَفْسِهِ ولِما يُعْبَدُ مِن دُونِهِ أيْضًا فالصَّنَمُ الَّذِي يُعْبَدُ مِن دُونِهِ بِمَنزِلَةِ رَجُلٍ أبْكَمَ لا يَعْقِلُ ولا يَنْطِقُ، بَلْ هو أبْكَمُ القَلْبِ واللِّسانِ، قَدْ عَدِمَ النُّطْقَ القَلْبِيَّ واللِّسانِيَّ، ومَعَ هَذا فَهو عاجِزٌ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ألْبَتَّةَ، ومَعَ هَذا فَأيْنَما أرَسْلَتَهُ لا يَأْتِيَك بِخَيْرٍ، ولا يَقْضِي لَك حاجَةً، واللَّهُ سُبْحانَهُ حَيٌّ قادِرٌ مُتَكَلِّمٌ، يَأْمُرُ بِالعَدْلِ، وهو صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ، وهَذا وصْفٌ لَهُ بِغايَةِ الكَمالِ والحَمْدِ، فَإنَّ أمْرَهُ بِالعَدْلِ - وهو الحَقُّ - يَتَضَمَّنُ أنَّهُ سُبْحانَهُ عالَمٌ بِهِ، مُعَلِّمٌ لَهُ، راضٍ بِهِ، آمِرٌ لِعِبادِهِ بِهِ، مُحِبٌّ لِأهْلِهِ، لا يَأْمُرُ بِسِواهُ، بَلْ تَنَزَّهَ عَنْ ضِدِّهِ الَّذِي هو الجَوْرُ والظُّلْمُ والسَّفَهُ والباطِلُ، بَلْ أمْرُهُ وشَرْعُهُ عَدْلٌ كُلُّهُ، وأهْلُ العَدْلِ هم أوْلِياؤُهُ وأحِبّاؤُهُ، وهم المُجاوِرُونَ لَهُ عَنْ يَمِينِهِ عَلى مَنابِرَ مِن نُورٍ، وأمْرُهُ بِالعَدْلِ يَتَناوَلُ الأمْرَ الشَّرْعِيَّ الدِّينِيَّ والأمْرَ القَدَرِيَّ الكَوْنِيَّ، وكِلاهُما عَدْلٌ لا جَوْرَ فِيهِ بِوَجْهٍ ما، كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أمَتِك، ناصِيَتِي بِيَدِك، ماضٍ في حُكْمُك، عَدْلٌ في قَضاؤُك» فَقَضاؤُهُ هو أمْرُهُ الكَوْنِيُّ. فَإنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ، فَلا يَأْمُرُ إلّا بِحَقٍّ وعَدْلٍ، وقَضاؤُهُ وقَدَرُهُ القائِمُ بِهِ حَقٌّ وعَدْلٌ، وإنْ كانَ في المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ ما هو جَوْرٌ وظُلْمٌ فالقَضاءُ غَيْرُ المَقْضِيِّ، والقَدَرُ غَيْرُ المُقَدَّرِ، ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِ رَسُولِهِ [هود]: ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] فَقَوْلُهُ: ﴿ما مِن دابَّةٍ إلا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾ نَظِيرُ قَوْلِهِ: «ناصِيَتِي بِيَدِك» وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ نَظِيرُ قَوْلِهِ: «عَدْلٌ في قَضاؤُك». فالأوَّلُ مُلْكُهُ، والثّانِي حَمْدُهُ، وهو سُبْحانَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، وكَوْنُهُ سُبْحانَهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَقْتَضِي أنَّهُ لا يَقُولُ إلّا الحَقَّ، ولا يَأْمُرُ إلّا بِالعَدْلِ، ولا يَفْعَلُ إلّا ما هو مَصْلَحَةٌ ورَحْمَةٌ وحِكْمَةٌ وعَدْلٌ؛ فَهو عَلى الحَقِّ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ؛ فَلا يَقْضِي عَلى العَبْدِ بِما يَكُونُ ظالِمًا لَهُ بِهِ، ولا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ، ولا يَنْقُصُهُ مِن حَسَناتِهِ شَيْئًا، ولا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِن سَيِّئاتِ غَيْرِهِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْها ولَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْها شَيْئًا، ولا يُؤاخِذُ أحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، ولا يَفْعَلُ قَطُّ ما لا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، ويُثْنى بِهِ عَلَيْهِ، ويَكُونُ لَهُ فِيهِ العَواقِبُ الحَمِيدَةُ، والغاياتُ المَطْلُوبَةُ، فَإنَّ كَوْنَهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَأْبى ذَلِكَ كُلَّهُ. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] يَقُولُ: إنّ رَبِّي عَلى طَرِيقِ الحَقِّ، يُجازِي المُحْسِنَ مِن خَلْقِهِ بِإحْسانِهِ، والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ، لا يَظْلِمُ أحَدًا مِنهم شَيْئًا، ولا يَقْبَلُ مِنهم إلّا الإسْلامَ لَهُ، والإيمانَ بِهِ، ثُمَّ حَكى عَنْ مُجاهِدٍ مِن طَرِيقِ شِبْلِ بْنِ أبِي نَجِيحٍ عَنْهُ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] قالَ: الحَقُّ، وكَذَلِكَ رَواهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ. وَقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] وهَذا اخْتِلافُ عِبارَةٍ، فَإنَّ كَوْنَهُ بِالمِرْصادِ هو مُجازاةُ المُحْسِنِ بِإحْسانِهِ والمُسِيءِ بِإساءَتِهِ. وَقالَتْ فِرْقَةٌ: في الكَلامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: إنّ رَبِّي يَحُثُّكم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ويَحُضُّكم عَلَيْهِ؛ وهَؤُلاءِ إنْ أرادُوا أنَّ هَذا مَعْنى الآيَةِ الَّتِي أُرِيدَ بِها فَلَيْسَ كَما زَعَمُوا، ولا دَلِيلَ عَلى هَذا المُقَدَّرِ، وقَدْ فَرَّقَ سُبْحانَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ آمِرًا بِالعَدْلِ وبَيْنَ كَوْنِهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وإنْ أرادُوا أنَّ حَثَّهُ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ مِن جُمْلَةِ كَوْنِهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَدْ أصابُوا. وَقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: مَعْنى كَوْنِهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مَرَدَّ العِبادِ والأُمُورِ كُلِّها إلى اللَّهِ لا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنها، وهَؤُلاءِ إنْ أرادُوا أنَّ هَذا مَعْنى الآيَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وإنْ أرادُوا أنَّ هَذا مِن لَوازِمِ كَوْنِهِ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ومِن مُقْتَضاهُ ومُوجِبِهِ فَهو حَقٌّ. وَقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: مَعْناهُ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وقَهْرِهِ وفي مِلْكِهِ وقَبْضَتِهِ، وهَذا وإنْ كانَ حَقًّا فَلَيْسَ هو مَعْنى الآيَةِ، وقَدْ فَرَّقَ شُعَيْبٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ما مِن دابَّةٍ إلا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾ [هود: ٥٦] وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] فَهُما مَعْنَيانِ مُسْتَقِلّانِ. فالقَوْلُ قَوْلُ مُجاهِدٍ، وهو قَوْلُ أئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، ولا تَحْتَمِلُ العَرَبِيَّةُ غَيْرَهُ إلّا عَلى اسْتِكْراهٍ؛ وقالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ: ؎أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلى صِراطٍ ∗∗∗ إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مُسْتَقِيمِ وَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ومَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٣٩] وإذا كانَ سُبْحانَهُ هو الَّذِي جَعَلَ رُسُلَهُ وأتْباعَهم عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ فَهو سُبْحانَهُ أحَقُّ بِأنْ يَكُونَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، وإنْ كانَ صِراطُ الرُّسُلِ وأتْباعِهِمْ هو مُوافَقَةُ أمْرِهِ؛ فَصِراطُهُ الَّذِي هو سُبْحانَهُ عَلَيْهِ هو ما يَقْتَضِيهِ حَمْدُهُ وكَمالُهُ ومَجْدُهُ مِن قَوْلِ الحَقِّ وفِعْلِهِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِي الآيَةِ قَوْلٌ ثانٍ مِثْلُ الآيَةِ الأُولى سَواءٌ، أنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما في هَذا القَوْلِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وقال في مفتاح دار السعادة: فالمثل الأول للصنم وعابديه. والمثل الثاني: ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. فكيف تسوّى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده: هو غاية الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم، وأمرهم ونهيهم. فدعوى المدعي: أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض، ويسبي بعضهم بعضا أكذب دعوى وأبطلها. والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره، والتنبيه عليه. والحمد لله الغني الحميد. فغناه التام فارق، وحمده وملكه، وعزته وحكمته وعلمه، وإحسانه وعدله، ودينه وشرعه وحكمه وكرمه، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة، والصفح عن المسيئين، وقبوله توبة التائبين، وصبر الصابرين، وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره، ويتطلبون مرضاته، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده سيرة العدل والإحسان والنصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته. ليتميز الخبيث من الطيب، ووليه من عدوه، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب، والحمد لأوليائه والذم لأعدائه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب