الباحث القرآني

ثم قال تَعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا فَهو يُنْفِقُ مِنهُ سِرًّا وجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أكَّدَ إبْطالَ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الأصْنامِ بِهَذا المِثالِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في تَفْسِيرِ هَذا المَثَلِ قَوْلانِ: (p-٦٨)القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ أنّا لَوْ فَرَضْنا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وفَرَضْنا حُرًّا كَرِيمًا غَنِيًّا كَثِيرَ الإنْفاقِ سِرًّا وجَهْرًا، فَصَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّهُ لا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُما في التَّعْظِيمِ والإجْلالِ لَمّا لَمْ تَجُزِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُما مَعَ اسْتِوائِهِما في الخِلْقَةِ والصُّورَةِ والبَشَرِيَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يُسَوِّي بَيْنَ اللَّهِ القادِرِ عَلى الرِّزْقِ والإفْضالِ، وبَيْنَ الأصْنامِ الَّتِي لا تَمْلِكُ ولا تَقْدِرُ البَتَّةَ ! والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالعَبْدِ المَمْلُوكِ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو الكافِرُ، فَإنَّهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعالى وعَنْ طاعَتِهِ صارَ كالعَبْدِ الذَّلِيلِ الفَقِيرِ العاجِزِ، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ هو المُؤْمِنُ؛ فَإنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِالتَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى والشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُما لا يَسْتَوِيانِ في المَرْتَبَةِ والشَّرَفِ والقُرْبِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أقْرَبُ؛ لِأنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وما بَعْدَها إنَّما ورَدَ في إثْباتِ التَّوْحِيدِ، وفي الرَّدِّ عَلى القائِلِينَ بِالشِّرْكِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى أوْلى. المسألة الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾، فَقِيلَ: المُرادُ بِهِ الصَّنَمُ؛ لِأنَّهُ عَبْدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٩٣] . وأمّا أنَّهُ مَمْلُوكٌ ولا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فَظاهِرٌ، والمُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا فَهو يُنْفِقُ مِنهُ سِرًّا وجَهْرًا﴾ عابِدُ الصَّنَمِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى رَزَقَهُ المالَ، وهو يُنْفِقُ مِن ذَلِكَ المالِ عَلى نَفْسِهِ وعَلى أتْباعِهِ سِرًّا وجَهْرًا. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هُما لا يَسْتَوِيانِ في بَدِيهَةِ العَقْلِ، بَلْ صَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّ ذَلِكَ القادِرَ أكْمَلُ حالًا وأفْضَلُ مَرْتَبَةً مِن ذَلِكَ العاجِزِ، فَهُنا صَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّ عابِدَ الصَّنَمِ أفْضَلُ مِن ذَلِكَ الصَّنَمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الحكم بِكَوْنِهِ مُساوِيًا لِرَبِّ العالَمِينَ في العُبُودِيَّةِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ عَبْدٌ مُعَيَّنٌ، وقِيلَ: هو عَبْدٌ لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وحَمَلُوا قَوْلَهُ: ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ عَلى عُثْمانَ خاصَّةً. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ عَبْدٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وفي كُلِّ حُرٍّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وهَذا القَوْلُ هو الأظْهَرُ؛ لِأنَّهُ هو المُوافِقُ لِما أرادَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الفُقَهاءُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ شَيْئًا. فَإنْ قالُوا: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَبْدًا مِنَ العَبِيدِ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ كُلَّ عَبْدٍ كَذَلِكَ ؟ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ الحكم المَذْكُورَ عَقِيبَ الوَصْفِ المُناسِبِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ الوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحكم، وكَوْنُهُ عَبْدًا وصْفٌ مُشْعِرٌ بِالذُّلِّ والمَقْهُورِيَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ حُكْمٌ مَذْكُورٌ عَقِيبَهُ. فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ العِلَّةَ لِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى شَيْءٍ هو كَوْنُهُ عَبْدًا، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ العُمُومُ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَهُ: ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ فَمَيَّزَ هَذا القِسْمَ الثّانِيَ عَنِ القِسْمِ الأوَّلِ، وهو العَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وهو أنَّهُ يَرْزُقُهُ رِزْقًا، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ هَذا الوَصْفُ لِلْعَبْدِ حَتّى يَحْصُلَ الِامْتِيازُ بَيْنَ القِسْمِ الثّانِي وبَيْنَ القِسْمِ الأوَّلِ، ولَوْ مَلَكَ العَبْدُ لَكانَ اللَّهُ قَدْ آتاهُ رِزْقًا حَسَنًا؛ لِأنَّ المِلْكَ الحَلالَ رِزْقٌ حَسَنٌ، سَواءٌ كانَ قَلِيلًا أوْ كَثِيرًا. فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الوجه يْنِ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ العَبْدَ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ولا (p-٦٩)يَمْلِكُ شَيْئًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ التَّشَدُّدُ في ذَلِكَ حَتّى قالَ: لا يَمْلِكُ الطَّلاقَ أيْضًا. وأكْثَرُ الفُقَهاءِ قالُوا: يَمْلِكُ الطَّلاقَ إنَّما لا يَمْلِكُ المالَ ولا ما لَهُ تَعَلُّقٌ بِالمالِ. واخْتَلَفُوا في أنَّ المالِكَ إذا مَلَّكَهُ شَيْئًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أمْ لا ؟ وظاهِرُ الآيَةِ يَنْفِيهِ. * * * بَقِيَ في الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ قالَ: ﴿مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾، وكُلُّ عَبْدٍ فَهو مَمْلُوكٌ وغَيْرُ قادِرٍ عَلى التَّصَرُّفِ ؟ قُلْنا: أمّا ذِكْرُ المَمْلُوكِ فَلِيَحْصُلَ الِامْتِيازُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحُرِّ؛ لِأنَّ الحُرَّ قَدْ يُقالُ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وأما قوله: ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ قَدْ يَحْصُلُ الِامْتِيازُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُكاتَبِ، وبَيْنَ العَبْدِ المَأْذُونِ؛ لِأنَّهُما لا يَقْدِرانِ عَلى التَّصَرُّفِ. السُّؤالُ الثّانِي: ”مَن“ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن رَزَقْناهُ﴾ ما هي ؟ قُلْنا: الظّاهِرُ أنَّها مَوْصُوفَةٌ كَأنَّهُ قِيلَ: وحُرًّا رَزَقْناهُ لِيُطابِقَ عَبْدًا، ولا يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ قالَ: ”يَسْتَوُونَ“ عَلى الجَمْعِ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ هَلْ يَسْتَوِي الأحْرارُ والعَبِيدُ. ثم قال: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى ما فَعَلَ بِأوْلِيائِهِ وأنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ. والثّانِي: المَعْنى أنَّ كُلَّ الحَمْدِ لِلَّهِ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الحَمْدِ لِلْأصْنامِ؛ لِأنَّها لا نِعْمَةَ لَها عَلى أحَدٍ. وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي: أنَّهم لا يَعْلَمُونَ أنَّ كُلَّ الحَمْدِ لِلَّهِ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ لِلْأصْنامِ. الثّالِثُ: قالَ القاضِي في التَّفْسِيرِ: قالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قُلِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِمَن رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا أنْ يَقُولَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى أنْ مَيَّزَهُ في هَذِهِ القُدْرَةِ عَنْ ذَلِكَ العَبْدِ الضَّعِيفِ. الرّابِعُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذا المَثَلَ، وكانَ هَذا مَثَلًا مُطابِقًا لِلْغَرَضِ كاشِفًا عَنِ المَقْصُودِ قالَ بَعْدَهُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يَعْنِي: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى قُوَّةِ هَذِهِ الحُجَّةِ وظُهُورِ هَذِهِ البَيِّنَةِ. ثم قال: ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي: أنَّها مَعَ غايَةِ ظُهُورِها ونِهايَةِ وُضُوحِها لا يَعْلَمُها ولا يَفْهَمُها هَؤُلاءِ الضُّلّالُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب