الباحث القرآني

ولَمّا خَتَمَ - سُبْحانَهُ - بِذَلِكَ؛ تَأْكِيدًا لِإبْطالِ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الأصْنامِ؛ بِسَلْبِ العِلْمِ؛ الَّذِي هو مَناطُ السَّدادِ؛ عَنْهُمْ؛ حَسُنَ أنْ يَصِلَ بِهِ قَوْلَهُ - إقامَةً لِلدَّلِيلِ عَلى عِلْمِهِ بِأنَّ أمْثالَهُ لا يَتَطَرَّقُ إلَيْها الطَّعْنُ؛ ولا يَتَوَجَّهُ نَحْوَها الشُّكُوكُ -: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ كَمالُ العِلْمِ؛ وتَمامُ القُدْرَةِ؛ ﴿مَثَلا﴾؛ بِالأحْرارِ؛ والعَبِيدِ؛ لَهُ؛ ولِما عَبَدْتُمُوهُ مَعَهُ؛ ثُمَّ أبْدَلَ مِن ”مَثَلًا“: ﴿عَبْدًا﴾؛ ولَمّا كانَ العَبْدُ يُطْلَقُ عَلى الحُرِّ؛ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ (تَعالى)؛ قالَ (تَعالى): ﴿مَمْلُوكًا﴾؛ لا مُكاتَبًا؛ ولا فِيهِ شائِبَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ؛ ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾؛ بِإذْنِ سَيِّدِهِ؛ ولا غَيْرِهِ؛ وهَذا مَثَلُ شُرَكائِهِمْ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلى ”عَبْدًا“؛ قَوْلَهُ: ﴿ومَن رَزَقْناهُ مِنّا﴾؛ مِنَ الأحْرارِ؛ ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾؛ واسِعًا طَيِّبًا؛ ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنهُ﴾؛ دائِمًا؛ وهو مَعْنى ﴿سِرًّا وجَهْرًا﴾؛ وهَذا مَثَلُ الإلَهِ؛ ولَهُ المَثَلُ الأعْلى؛ ثُمَّ بَكَّتَهم إنْكارًا عَلَيْهِمْ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): (p-٢١٦)﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾؛ أيْ: هَذانِ الفَرِيقانِ؛ المُمَثَّلِ بِهِما؛ لِأنَّ المُرادَ الجِنْسُ؛ فَإذا كانَ لا يَسُوغُ في عَقْلٍ أنْ يُسَوّى بَيْنَ مَخْلُوقَيْنِ: أحَدُهُما حُرٌّ مُقْتَدِرٌ؛ والآخَرُ مَمْلُوكٌ عاجِزٌ؛ فَكَيْفَ يُسَوّى بَيْنَ حَجَرٍ مَواتٍ؛ أوْ غَيْرِهِ؛ وبَيْنَ اللَّهِ؛ الَّذِي لَهُ القُدْرَةُ التّامَّةُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ؟ ولَمّا كانَ الجَوابُ قَطْعًا: لا؛ وعُلِمَ أنَّ الفاضِلَ ما كانَ مِثالًا لَهُ - سُبْحانَهُ -؛ عَلى أنَّ مَن سَوّى بَيْنَهُما أوْ فَعَلَ ما يَؤُولُ إلى التَّسْوِيَةِ؛ أجْهَلُ الجَهَلَةِ. فَثَبَتَ مَضْمُونُ ”إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ“؛ وأنَّ غَيْرَهُ (تَعالى) لا يُساوِي شَيْئًا؛ فَثَبَتَ بِلا رَيْبٍ أنَّهُ المُخْتَصُّ بِالمَثَلِ الأعْلى؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أيْ: لَهُ الإحاطَةُ بِالعِلْمِ؛ وجَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي مِنها اخْتِصاصُهُ بِالشُّكْرِ؛ لِكَوْنِهِ هو المُنْعِمَ؛ ولَيْسَ لِغَيْرِهِ إحاطَةٌ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ ولا غَيْرِهِ؛ فَكَأنَّهم قالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ: ﴿بَلْ أكْثَرُهُمْ﴾؛ أيْ: في الظّاهِرِ؛ والباطِنِ - بِما أشارَ إلَيْهِ الإضْمارُ -؛ ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾؛ لِكَوْنِهِمْ يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ؛ ومَن نَفى عَنْهُ العِلْمَ - الَّذِي هو أعْلى صِفاتِ الكَمالِ - كانَ في عِدادِ الأنْعامِ؛ فَهم لِذَلِكَ يُشَبِّهُونَ بِهِ ما ذُكِرَ؛ ويَضْرِبُونَ الأمْثالَ الباطِلَةَ؛ ويُضِيفُونَ نِعَمَهُ إلى ما لا يُعَدُّ؛ ولَعَلَّهُ أتى بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلى مَن خَتَمَ بِمَوْتِهِ عَلى الضَّلالِ؛ أوْ يُقالُ - وهو أرْشَقُ -: لَمّا كانَ الجَوابُ قَطْعًا: لا يَسْتَوُونَ؛ والفاضِلُ مِثالُكَ؛ فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ ذِي لُبٍّ أنَّ لَكَ المَثَلَ الأعْلى؛ فَتَرْجَمَ عَنْ وصْفِهِ (p-٢١٧)بِقَوْلِهِ ”الحَمْدُ لِلَّهِ“؛ أيْ: الإحاطَةُ بِصِفاتِ الكَمالِ لِلْمَلِكِ الأعْظَمِ؛ وعَنْ نِسْبَتِهِمْ إلى عِلْمِ ذَلِكَ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ”بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ“؛ أيْ: لَيْسَ لَهم عِلْمٌ بِشَيْءٍ أصْلًا؛ لِأنَّهم يَعْمَلُونَ في هَذا بِالجَهْلِ؛ فَنِسْبَتُهم إلى الغَباوَةِ أحْسَنُ في حَقِّهِمْ مِن نِسْبَتِهِمْ إلى الضَّلالِ عَلى عِلْمٍ؛ وسَيَأْتِي في سُورَةِ ”لُقْمانَ“؛ إنْ شاءَ اللَّهُ (تَعالى) ما يَكُونُ نافِعًا في هَذا المَقامِ؛ وإنَّما فُسِّرَتْ ”الحَمْدُ“؛ بِما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّهُ قَدْ مَضى في سُورَةِ ”الفاتِحَةِ“؛ أنَّ مادَّةَ ”حَمَدَ“؛ تَدُورُ عَلى بُلُوغِ الغايَةِ؛ ويَلْزَمُ مِنهُ الِاتِّساعُ؛ والإحاطَةُ؛ والِاسْتِدارَةُ؛ فَيَلْزَمُها مُطَأْطَأةُ الرَّأْسِ؛ وقَدْ يَلْزَمُ الغايَةَ الرِّضا؛ فَيَلْزَمُهُ الشُّكْرُ؛ وبَيانُهُ أنَّ الحَمْدَ بِمَعْنى الرِّضا؛ والشُّكْرِ؛ لِأنَّهُما يَكُونانِ غالِبًا مِن غايَةِ الإحْسانِ؛ ويَرْجِعُ إلى ذَلِكَ ”الحَمْدُ“ بِمَعْنى: ”الجَزاءُ“؛ و”قَضاءُ الحَقِّ“؛ و”حُماداكَ“؛ بِالضَّمِّ؛ أيْ: غايَتُكَ؛ و”يَوْمٌ مُحْتَمِدٌ“: شَدِيدُ الحَرِّ؛ و”حَمَدُ النّارِ“؛ مُحَرَّكَةً: صَوْتُ التِهابِها؛ وأمّا ”يَتَحَمَّدُ عَلَيَّ“؛ بِمَعْنى يَمْتَنُّ؛ فَأصْلُهُ: يَذْكُرُ ما يَلْزَمُ مِنهُ حَمْدُهُ؛ ومِنهُ ”المَدْحُ“: وهو حُسْنُ الثَّناءِ؛ و”تَمَدَّحَ“؛ بِمَعْنى: تَكَلَّفَ أنْ يَمْدَحَ؛ وافْتَخَرَ؛ (p-٢١٨)وتَشَبَّعَ بِما لَيْسَ عِنْدَهُ؛ فَإنَّهُ في كُلِّ ذَلِكَ بَذَلَ جُهْدَهُ؛ و”دَحَمَهُ“؛ كَـ ”مَنَعَ“: دَفَعَهُ شَدِيدًا؛ و”المَرْأةَ“: نَكَحَها؛ لِما في ذَلِكَ مِن بُلُوغِ الغايَةِ في الشَّهْوَةِ؛ وما يَلْزَمُها مِنَ الدَّفْعِ؛ ونَحْوِهِ؛ و”الدِّحْمُ“؛ بِالكَسْرِ: الأصْلُ؛ لِأنَّهُ غايَةُ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ؛ و”حَدْمُ النّارِ“؛ ويُحَرَّكُ: شِدَّةُ احْتِراقِها؛ وحَمْيِها؛ و”احْتَدَمَ الدَّمُ“: اشْتَدَّتْ حُمْرَتُهُ حَتّى يَسْوَدَّ؛ و”الحَدَمَةُ“؛ مُحَرَّكَةً: النّارُ؛ لِأنَّها غايَةُ الحَرِّ؛ و”الحَدَمَةُ“ أيْضًا: صَوْتُها؛ لِدَلالَتِهِ عَلى قُوَّةِ التِهابِها؛ ومِن ذَلِكَ ”الحَدَمَةُ“؛ أيْضًا؛ لِصَوْتِ جَوْفِ الحَيَّةِ؛ أوْ صَوْتٍ في الجَوْفِ؛ كَأنَّهُ تَغَيُّظٌ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى غايَةِ التِهابِ الباطِنِ؛ و”الحَدْمَةُ“؛ كَـ ”فَرْحَةٌ“: السَّرِيعَةُ الغَلْيِ مِنَ القُدُورِ؛ ومِنَ الِاتِّساعِ: ”تَمَدَّحَتِ الأرْضُ؛ أيْ: اتَّسَعَتْ؛ ومِنَ الِاسْتِدارَةِ:“الدّاحُومُ”؛ لِحِبالَةِ الثَّعْلَبِ؛ لِأنَّها بَلَغَتِ الغايَةَ مِن مُرادِ الصّائِدِ؛ ولِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَقْدِرْ عَلى الخَلاصِ مِنها كانَتْ كَأنَّها قَدْ أحاطَتْ بِهِ؛ و“الدَّمَحْمَحُ”: المُسْتَدِيرُ المُلَمْلَمُ؛ و“دَمَحَ؛ تَدْمِيحًا": طَأْطَأ رَأْسَهُ؛ لِأنَّ الِانْعِطافَ مَبْدَأُ الِاسْتِدارَةِ؛ واللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - المُوَفِّقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب