الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ والإيمان والطاعة من أجل النعم بل هما أجل النعم على الإطلاق فهما منه سبحانه تعليما وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا ولا يصح أن يقال أنها أمرا وبيانا فقط فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم إذ نعمة البيان والإرشاد مشتركة وهذا قول القدرية وقد صرح به كثير منهم ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منه في إعطائه الجزاء بل قالوا ذلك محض حقه الذي لا منة لله عليه فيه واحتجوا بقوله: ﴿لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قالوا أي غير ممنون به عليهم إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها قالوا والمنة تكدر النعمة والعطية ولم يدعوا هؤلاء للجهل بالله موضعا وقاسوا منته على منة المخلوق فإنهم مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات وليست المنة في الحقيقة إلا لله فهو المان بفضله وأهل سماواته وأهل أرضه في محض منته عليهم قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وقال تعالى لكليمه موسى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى﴾ وقال: ﴿وَلَقَدْ مَنَنّا عَلى مُوسى وهارُونَ﴾ وقال: ﴿وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ ونَجْعَلَهم أئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾ ولما قال النبي ﷺ للأنصار "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي" قالوا الله ورسوله أمن. وقال الرسل لقومهم: ﴿إنْ نَحْنُ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكم ولَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ فمنه سبحانه وتعالى محض إحسانه وفضله ورحمته وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنته عليهم، ولهذا قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴿إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم﴾ فأجزوا لمعرفتهم بربهم، وحقه عليهم أن نجاهم من عذاب السموم بمحض منته عليهم. وقد قال أعلم الخلق بالله وأحبهم إليه وأقربهم منه وأطوعهم له: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " وقال: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم" والأول في الصحيح والثاني في المسند والسنن وصححه الحاكم وغيره. فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله، وقالت القدرية إنهم يدخلونها بأعمالهم لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمشيئة الله بل يكون ذلك النعيم عوضا وما رمى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القدرية عن قوس واحد إلا لعظم بدعهم ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله فلو أتى العباد بكل طاعة وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منته وفضله وكانت له المنة عليهم، وكلما عظمت طاعة العبد كانت منة الله عليه أعظم فهو المان بفضله فمن أنكر منته فقد أنكر إحسانه وأما قوله تعالى: ﴿لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه غير مقطوع ومنه ريب المنون وهو الموت لأنه يقطع العمر. (قاعِدَة جليلة) قد فكّرت في هَذا الأمر فَإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده نعم الطّاعات ونعم اللَّذّات فترغب إلَيْهِ أن يلهمك ويوزعك شكرها قالَ تَعالى ﴿وَما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تجأرون﴾ وَقالَ ﴿فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ وَقالَ ﴿واشكروا نعْمَة اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيّاه تَعْبدُونَ﴾ وكما أن تِلْكَ النعم مِنهُ ومن ومُجَرَّد فَضله فَذكرها وشكرها لا ينال إلّا بتوفيقه والذنُوب من خذلانه وتخليه عَن عَبده وتخليته بَينه وبَين نَفسه وإن لم يكْشف ذَلِك عَن عَبده فَلا سَبِيل لَهُ إلى كشفه عَن نَفسه فَإذا هو مُضْطَر إلى التضرع والابتهال إلَيْهِ أن تدفع عَنهُ أسبابها حَتّى لا تصدر مِنهُ وإذا وقعت بِحكم المَقادِير ومُقْتَضى البشرية فَهو مُضْطَر إلى التضرع والدُّعاء أن يدْفع عَنهُ موجباتها وعقوباتها فَلا يَنْفَكّ عَن العَبْد عَن ضَرُورَته إلى هَذِه الأُصُول الثَّلاثَة ولا فلاح لَهُ إلّا بها الشُّكْر وطلب العافِيَة والتَّوْبَة النصوح. ثمَّ فَكرت فَإذا مدار ذَلِك على الرَّغْبَة والرهبة وليسا بيد العَبْد بل بيد مُقَلِّب القُلُوب ومصرفها كَيفَ يَشاء فَإن وفْق عَبده أقبل بِقَلْبِه إلَيْهِ وملأه رَغْبَة ورَهْبَة وإن خذله لَهُ تَركه ونَفسه ولم يَأْخُذ بِقَلْبِه إلَيْهِ ولم يسْأله ذَلِك وما شاءَ الله كانَ وما لم يَشَأ لم يكن ثمَّ فَكرت هَل للتوفيق والخذلان سَبَب أم هما بِمُجَرَّد المشية لا سَبَب لَهما فَإذا سببهما أهْلِيَّة المحل وعدمها فَهو سُبْحانَهُ خالق المحال مُتَفاوِتَة في الاستعداد والقَبُول أعظم تفاوت فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحَيَوان وكَذَلِكَ النوعان كل مِنهُما متفاوت في القبُول فالحيوان النّاطِق يقبل ما لا يقبله البهيم وهو متفاوت في القبُول أعظم تفاوت وكَذَلِكَ الحَيَوان البهيم متفاوت في القبُول لَكِن لَيْسَ بَين النَّوْع الواحِد م ن التَّفاوُت كَما بَين النَّوْع الإنساني فَإذا كانَ المحل قابلا للنعمة بِحَيْثُ يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المُنعم بها ويثني عَلَيْهِ بها ويعظمه عَلَيْها ويعلم أنَّها من مَحْض الجُود وعين المِنَّة من غير أن يكون هو مُسْتَحقّا لَها ولا هي لَهُ ولا بِهِ، وإنَّما هي لله وحده وبِه وحده فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا وشهدها من مَحْض جوده منَّة وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا وعلم أنه إن أدامها عَلَيْهِ فَذَلِك مَحْض صدقته وفضله وإحسانه وإن سلبه إيّاها فَهو أهل لذَلِك مُسْتَحقّ لَهُ وكلما زاده من نعمه ازْدادَ زلالة وانكسارا وخضوعا بَين يَدَيْهِ، وقياما بشكره وخشيته لَهُ سُبْحانَهُ أن يسلبه إيّاها لعدم توفيته شكرها كَما سلب نعْمَته عَمَّن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها فَإن لم يشْكر نعْمَته وقابلها بضد ما يلق أن يُقابل بِهِ سلبه إيّاها ولا بُد قالَ تَعالى ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَم بِالشّاكِرِينَ﴾ وهم الَّذين عرفُوا قدر النِّعْمَة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المُنعم بها وأحبوه وقامُوا بشكره وقالَ تَعالى ﴿وَإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته﴾. (قاعِدَة) أساس كل خير أن تعلم أن ما شاءَ الله كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكن فتيقن حِينَئِذٍ أن الحَسَنات من نعمه فتشكره عَلَيْها وتتضرّع إلَيْهِ أن لا يقطعها عَنْك وأن السَّيِّئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل إلَيْهِ أن يحول بَيْنك وبَينها ولا يكلك في فعل الحَسَنات وترك السَّيِّئات إلى نَفسك وَقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بِتَوْفِيق الله للْعَبد وكل شَرّ فأصله خذلانه لعَبْدِهِ. وَأجْمعُوا أن التَّوْفِيق أن لا يكلك الله نفسك وأن الخذلان أن يخلي بَيْنك وبَين نَفسك فَإذا كانَ كل خير فأصله التَّوْفِيق وهو بيد الله إلى نَفسك وأن لا بيد العَبْد فمفتاحه الدُّعاء والافتقار وصدق اللجأ والرَّغْبَة والرهبة إلَيْهِ فَمَتى أعْطى العَبْد هَذا المِفْتاح فقد أرادَ أن يفتح لَهُ ومَتى أضلّه عَن المِفْتاح بَقِي باب الخَيْر مُرْتَجًا دونه. قالَ أمِير المُؤمنِينَ عمر بن الخطاب إنِّي لا أحمل هم الإجابَة ولَكِن هم الدُّعاء فَإذا ألهمت الدُّعاء فَإن الإجابَة مَعَه وعَلى قدرنية العَبْد وهمته ومراده ورغبته في ذَلِك يكون توفيقه سُبْحانَهُ وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم. والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك فالله سُبْحانَهُ أحكم الحاكِمين وأعلم العالمين يضع التَّوْفِيق في مواضعه اللائقة بِهِ، والخذلان في مواضعه اللائقة بِهِ هو العَلِيم الحَكِيم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب