الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَإنَّهُ مِنهم إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿فَتَرى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِن عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أسَرُّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ﴾ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ إنَّهم لَمَعَكم حَبِطَتْ أعْمالُهم فَأصْبَحُوا خاسِرِينَ﴾ .
تَهَيَّأتْ نُفُوسُ المُؤْمِنِينَ لِقَبُولِ النَّهْيِ عَنْ مُوالاةِ أهْلِ الكِتابِ بَعْدَما سَمِعُوا مِنِ اضْطِرابِ اليَهُودِ في دِينِهِمْ ومُحاوَلَتِهِمْ تَضْلِيلَ المُسْلِمِينَ وتَقْلِيبَ الأُمُورِ لِلرَّسُولِ ﷺ فَأقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى﴾ الآيَةَ، لِأنَّ الوَلايَةَ تَنْبَنِي عَلى الوِفاقِ والوِئامِ والصِّلَةِ (p-٢٢٩)ولَيْسَ أُولَئِكَ بِأهْلٍ لِوَلايَةِ المُسْلِمِينَ لِبُعْدِ ما بَيْنَ الأخْلاقِ الدِّينِيَّةِ، ولِإضْمارِهِمُ الكَيْدَ لِلْمُسْلِمِينَ. وجُرِّدَ النَّهْيُ هُنا عَنِ التَّعْلِيلِ والتَّوْجِيهِ اكْتِفاءً بِما تَقَدَّمَ.
والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا. وسَبَبُ النَّهْيِ هو ما وقَعَ مِنَ اليَهُودِ، ولَكِنْ لَمّا أُرِيدَ النَّهْيُ لَمْ يُقْتَصَرْ عَلَيْهِمْ لِكَيْلا يَحْسَبَ المُسْلِمُونَ أنَّهم مَأْذُونُونَ في مُوالاةِ النَّصارى، فَلِدَفْعِ ذَلِكَ عُطِفَ النَّصارى عَلى اليَهُودِ هُنا، لِأنَّ السَّبَبَ الدّاعِيَ لِعَدَمِ المُوالاةِ واحِدٌ في الفَرِيقَيْنِ، وهو اخْتِلافُ الدِّينِ والنُّفْرَةُ النّاشِئَةُ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رِسالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ . فالنَّصارى وإنْ لَمْ تَجِيءْ مِنهم يَوْمَئِذٍ أذاةٌ مِثْلَ اليَهُودِ فَيُوشِكُ أنْ تَجِيءَ مِنهم إذا وُجِدَ داعِيها.
وفِي هَذا ما يُنَبِّهُ عَلى وجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ هُنا عَنْ مُوالاةِ النَّصارى وبَيْنَ قَوْلِهِ فِيما سَيَأْتِي ﴿ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى﴾ [المائدة: ٨٢] . ولا شَكَّ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ أوْ قُرْبَها، وقَدْ أصْبَحَ المُسْلِمُونَ مُجاوِرِينَ تُخُومَ بِلادِ نَصارى العَرَبِ. وعَنِ السُّدِّيِّ أنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ عَزَمَ أنْ يُوالِيَ يَهُودِيًّا، وأنَّ آخَرَ عَزَمَ أنْ يُوالِيَ نَصْرانِيًّا كَما سَيَأْتِي، فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّصارى غَيْرَ إدْماجٍ.
وعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ أيْ أنَّهم أجْدَرُ بِوَلايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أيْ بِوَلايَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنهم بَعْضَ أهْلِ فَرِيقِهِ، لِأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنهم تَتَقارَبُ أفْرادُهُ في الأخْلاقِ والأعْمالِ فَيَسْهُلُ الوِفاقُ بَيْنَهم، ولَيْسَ المَعْنى أنَّ اليَهُودَ أوْلِياءُ النَّصارى. وتَنْوِينُ ”بَعْضٍ“ تَنْوِينُ عِوَضٍ، أيْ أوْلِياءُ بَعْضِهِمْ. وهَذا كِنايَةٌ عَنْ نَفْيِ مُوالاتِهِمُ المُؤْمِنِينَ وعَنْ نَهْيِ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوالاةِ فَرِيقٍ مِنهُما.
والوَلايَةُ هُنا ولايَةُ المَوَدَّةِ والنُّصْرَةِ ولا عَلاقَةَ لَها بِالمِيراثِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مالِكٌ بِتَوْرِيثِ اليَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرانِيِّ والعَكْسِ أخْذًا بِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَيْنِ» . وقالَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ بِتَوْرِيثِ بَعْضِ أهْلِ المِلَلِ مِن بَعْضٍ ورَأيا الكُفْرَ مِلَّةً واحِدَةً أخْذًا بِظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ، وهو مَذْهَبُ داوُدَ.
وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَإنَّهُ مِنهُمْ﴾، (مَن) شَرْطِيَّةٌ تَقْتَضِي أنَّ كُلَّ (p-٢٣٠)مَن يَتَوَلّاهم يَصِيرُ واحِدًا مِنهم. جَعَلَ ولايَتَهم مُوجِبَةَ كَوْنِ المُتَوَلِّي مِنهم، وهَذا بِظاهِرِهِ يَقْتَضِي أنَّ ولايَتَهم دُخُولٌ في مِلَّتِهِمْ، لِأنَّ مَعْنى البَعْضِيَّةِ هُنا لا يَسْتَقِيمُ إلّا بِالكَوْنِ في دِينِهِمْ. ولَمّا كانَ المُؤْمِنُ إذا اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الإيمانِ واتَّبَعَ الرَّسُولَ ولَمْ يُنافِقْ كانَ مُسْلِمًا لا مَحالَةَ كانَتِ الآيَةُ بِحاجَةٍ إلى التَّأْوِيلِ، وقَدْ تَأوَّلَها المُفَسِّرُونَ بِأحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: إمّا بِحَمْلِ الوَلايَةِ في قَوْلِهِ: ومَن يَتَوَلَّهم عَلى الوَلايَةِ الكامِلَةِ الَّتِي هي الرِّضا بِدِينِهِمْ والطَّعْنُ في دِينِ الإسْلامِ، ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومَن تَوَلّاهم بِمُعْتَقَدِهِ ودِينِهِ فَهو مِنهم في الكُفْرِ والخُلُودِ في النّارِ.
وإمّا بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: فَإنَّهُ مِنهم عَلى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، أيْ فَهو كَواحِدٍ مِنهم في اسْتِحْقاقِ العَذابِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَن تَوَلّاهم بِأفْعالِهِ مِنَ العَضْدِ ونَحْوِهِ دُونَ مُعْتَقَدِهِمْ ولا إخْلالٍ بِالإيمانِ فَهو مِنهم في المَقْتِ والمَذَمَّةِ الواقِعَةِ عَلَيْهِمْ. اهـ. وهَذا الإجْمالُ في قَوْلِهِ: فَإنَّهُ مِنهم مُبالَغَةٌ في التَّحْذِيرِ مِن مُوالاتِهِمْ في وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ، فاللَّهُ لَمْ يَرْضَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ بِأنْ يَتَوَلَّوُا اليَهُودَ والنَّصارى، لِأنَّ ذَلِكَ يُلْبِسُهم بِالمُنافِقِينَ، وقَدْ كانَ أمْرُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ في حَيْرَةٍ إذْ كانَ حَوْلَهُمُ المُنافِقُونَ وضُعَفاءُ المُسْلِمِينَ واليَهُودُ والمُشْرِكُونَ فَكانَ مِنَ المُتَعَيَّنِ لِحِفْظِ الجامِعَةِ التَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ ما تَتَطَرَّقُ مِنهُ الرِّيبَةُ إلَيْهِمْ.
وقَدِ اتَّفَقَ عُلَماءُ السُّنَّةِ عَلى أنَّ ما دُونُ الرِّضا بِالكُفْرِ ومُمالَأتِهِمْ عَلَيْهِ مِنَ الوَلايَةِ لا يُوجِبُ الخُرُوجَ مِنَ الرِّبْقَةِ الإسْلامِيَّةِ ولَكِنَّهُ ضَلالٌ عَظِيمٌ، وهو مَراتِبُ في القُوَّةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ المُوالاةِ وبِاخْتِلافِ أحْوالِ المُسْلِمِينَ.
وأعْظَمُ هَذِهِ المَراتِبِ القَضِيَّةُ الَّتِي حَدَثَتْ في بَعْضِ المُسْلِمِينَ مِن أهْلِ غَرْناطَةَ الَّتِي سُئِلَ عَنْها فُقَهاءُ غَرْناطَةَ: مُحَمَّدٌ المَوّاقُ، ومُحَمَّدُ بْنُ الأزْرَقِ، وعَلِيُّ بْنُ داوُدَ، ومُحَمَّدٌ الجَعْدالَةُ، ومُحَمَّدٌ الفَخّارُ، وعَلِيٌّ القَلْصادِيُّ، وأبُو حامِدِ بْنُ الحَسَنِ، ومُحَمَّدُ بْنُ سَرْحُونَةَ، ومُحَمَّدٌ المُشَذّالِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ الزَّلِيجِيُّ، ومُحَمَّدٌ الحَذّامُ، وأحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجَلِيلِ، ومُحَمَّدُ بْنُ فَتْحٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ البَرِّ، وأحْمَدُ البَقَنِيُّ، عَنْ عِصابَةٍ (p-٢٣١)مِن قُوّادِ الأنْدَلُسِ وفُرْسانِهِمْ لَجَئُوا إلى صاحِبِ قَشْتالَةَ (بِلادِ النَّصارى) بَعْدَ كائِنَةِ (اللِّسانَةِ) - كَذا - واسْتَنْصَرُوا بِهِ عَلى المُسْلِمِينَ واعْتَصَمُوا بِحَبْلِ جِوارِهِ وسَكَنُوا أرْضَ النَّصارى فَهَلْ يَحِلُّ لِأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ مُساعَدَتُهم ولِأهْلِ مَدِينَةٍ أوْ حِصْنٍ أنْ يُؤْوُوهم. فَأجابُوا بِأنَّ رُكُونَهم إلى الكُفّارِ واسْتِنْصارَهم بِهِمْ قَدْ دَخَلُوا بِهِ في وعِيدِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَإنَّهُ مِنهُمْ﴾ . فَمَن أعانَهم فَهو مُعِينٌ عَلى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، هَذا ما دامُوا مُصِرِّينَ عَلى فِعْلِهِمْ فَإنْ تابُوا ورَجَعُوا عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الشِّقاقِ والخِلافِ فالواجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ قَبُولُهم.
فاسْتِدْلالُهم في جَوابِهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم تَأوَّلُوها عَلى مَعْنى أنَّهُ مِنهم في اسْتِحْقاقِ المَقْتِ والمَذَمَّةِ، وهَذا الَّذِي فَعَلُوهُ وأجابَ عَنْهُ الفُقَهاءُ هو أعْظَمُ أنْواعِ المُوالاةِ بَعْدَ مُوالاةِ الكُفْرِ. وأدْنى دَرَجاتِ المُوالاةِ المُخالَطَةُ والمُلابَسَةُ في التِّجارَةِ ونَحْوِها. ودُونَ ذَلِكَ ما لَيْسَ بِمُوالاةٍ أصْلًا، وهو المُعامَلَةُ. وقَدْ عامَلَ النَّبِيءُ ﷺ يَهُودَ خَيْبَرَ مُساقاةً عَلى نَخْلِ خَيْبَرَ، وقَدْ بَيَّنّا شَيْئًا مِن تَفْصِيلِ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِلنَّهْيِ، وعُمُومُ القَوْمِ الظّالِمِينَ شَمِلَ اليَهُودَ والنَّصارى، ومَوْقِعُ الجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ يَقْتَضِي أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ. والمُرادُ بِالظّالِمِينَ الكافِرُونَ.
وقَوْلُهُ: ﴿فَتَرى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ﴾ تَفْرِيعٌ لِحالَةٍ مِن مُوالاتِهِمْ أُرِيدَ وصْفُها لِلنَّبِيءِ ﷺ لِأنَّها وقَعَتْ في حَضْرَتِهِ.
والمَرَضُ هُنا أُطْلِقَ عَلى النِّفاقِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ في سُورَةِ البَقَرَةِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ مَرَضٌ لِأنَّهُ كُفْرٌ مُفْسِدٌ لِلْإيمانِ.
(p-٢٣٢)والمُسارَعَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُها في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُحْزِنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١] . وفي المَجْرُورِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ القَرِينَةُ، لِأنَّ المُسارَعَةَ لا تَكُونُ في الذَّواتِ، فالمَعْنى: يُسارِعُونَ في شَأْنِهِمْ مِن مُوالاتِهِمْ أوْ في نُصْرَتِهِمْ.
والقَوْلُ الواقِعُ في يَقُولُونَ نَخْشى قَوْلُ لِسانٍ لِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ قالَ ذَلِكَ، حَسَبَما رُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الحُوفِيِّ والزُّهْرِيِّ وعاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتادَةَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ أوْ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ وأنَّها نَزَلَتْ حِينَ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ عَلى قِتالِ بَنِي قَيْنُقاعٍ. وكانَ بَنُو قَيْنُقاعٍ أحْلافًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ولِعُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، «فَلَمّا رَأى عُبادَةُ مَنزَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جاءَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أبْرَأُ إلى اللَّهِ مِن حِلْفِ يَهُودَ ووَلائِهِمْ ولا أُوالِي إلّا اللَّهَ ورَسُولَهُ، وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ حاضِرًا، فَقالَ: أمّا أنا فَلا أبْرَأُ مِن حِلْفِهِمْ فَإنِّي لا بُدَّ لِي مِنهم إنِّي رَجُلٌ أخافُ الدَّوائِرَ» .
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم: ﴿نَخْشى أنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ﴾، قَوْلًا نَفْسِيًّا، أيْ يَقُولُونَ في أنْفُسِهِمْ. فالدّائِرَةُ المَخْشِيَّةُ هي خَشْيَةُ انْتِقاضِ المُسْلِمِينَ عَلى المُنافِقِينَ، فَيَكُونُ هَذا القَوْلُ مِنَ المَرَضِ الَّذِي في قُلُوبِهِمْ، وعَنِ السُّدِّيِّ: أنَّهُ لَمّا وقَعَ انْهِزامُ يَوْمِ أُحُدٍ فَزِعَ المُسْلِمُونَ وقالَ بَعْضُهم: نَأْخُذُ مِنَ اليَهُودِ حِلْفًا لِيُعاضِدُونا إنْ ألَمَّتْ بِنا قاصِمَةٌ مِن قُرَيْشٍ. وقالَ رَجُلٌ: إنِّي ذاهِبٌ إلى اليَهُودِيِّ فُلانٍ فَآوِي إلَيْهِ وأتَهَوَّدُ مَعَهُ. وقالَ آخَرُ: إنِّي ذاهِبٌ إلى فُلانٍ النَّصْرانِيِّ بِالشّامِ فَآوِي إلَيْهِ وأتَنَصَّرُ مَعَهُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. فَيَكُونُ المَرَضُ هُنا ضَعْفَ الإيمانِ وقِلَّةَ الثِّقَةِ بِنَصْرِ اللَّهِ، وعَلى هَذا فَهَذِهِ الآيَةُ تَقَدَّمَ نُزُولُها قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإمّا أُعِيدَ نُزُولُها، وإمّا أُمِرَ بِوَضْعِها في هَذا المَوْضِعِ.
والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَعَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أوْ أمْرٍ مِن عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أسَرُّوا في أنْفُسِهِمْ نادِمِينَ﴾ يُؤَيِّدُ الرِّوايَةَ الأُولى، ويُؤَيِّدُ مَحْمَلَنا فِيها: أنَّ القَوْلَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ.
(p-٢٣٣)والدّائِرَةُ اسْمُ فاعِلٍ مِن دارَ إذا عَكَسَ سَيْرَهُ، فالدّائِرَةُ تَغَيُّرُ الحالِ، وغَلَبَ إطْلاقُها عَلى تَغَيُّرِ الحالِ مِن خَيْرٍ إلى شَرٍّ، ودَوائِرُ الدَّهْرِ: نُوَبُهُ ودُوَلُهُ، قالَ تَعالى ﴿ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ﴾ [التوبة: ٩٨] أيْ تَبَدُّلَ حالِكم مِن نَصْرٍ إلى هَزِيمَةٍ. وقَدْ قالُوا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ﴾ [التوبة: ٩٨] إنَّ إضافَةَ ”دائِرَةُ“ إلى ”السَّوْءِ“ إضافَةُ بَيانٍ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: لَوْ لَمْ تُضَفِ الدّائِرَةُ إلى ”السَّوْءِ“ عُرِفَ مِنها مَعْناهُ. وأصْلُ تَأْنِيثِها لِلْمَرَّةِ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلى التَّغَيُّرِ مُلازِمَةً لِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ.
وقَوْلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قَرَأهُ الجُمْهُورُ ”يَقُولُ“ بِدُونِ واوٍ في أوَّلِهِ عَلى أنَّهُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ جَوابٌ لِسُؤالِ مَن يَسْألُ: ماذا يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ.
أيْ إذا جاءَ الفَتْحُ أوْ أمْرٌ مِن قُوَّةِ المُسْلِمِينَ ووَهَنِ اليَهُودِ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ ”ويَقُولُ“ بِالواوِ وبِرَفْعِ ”يَقُولُ“ عَطْفًا عَلى ”فَعَسى اللَّهُ“، وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِالواوِ أيْضًا وبِنَصْبِ ”يَقُولَ“ عَطْفًا عَلى ”أنْ يَأْتِيَ“ . والِاسْتِفْهامُ في ”أهَؤُلاءِ“ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعَجُّبِ مِن نِفاقِهِمْ.
و”هَؤُلاءِ“ إشارَةٌ إلى طائِفَةٍ مُقَدَّرَةِ الحُصُولِ يَوْمَ حُصُولِ الفَتْحِ، وهي طائِفَةُ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. والظّاهِرُ أنَّ ”الَّذِينَ“ هو الخَبَرُ عَنْ ”هَؤُلاءِ“ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لِلتَّعَجُّبِ، ومَحَلُّ العَجَبِ هو قَسَمُهم أنَّهم مَعَهم، وقَدْ دَلَّ هَذا التَّعَجُّبُ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ يَظْهَرُ لَهم مِن حالِ المُنافِقِينَ يَوْمَ إتْيانِ الفَتْحِ ما يَفْتَضِحُ بِهِ أمْرُهم فَيَعْجَبُونَ مِن حَلِفِهِمْ عَلى الإخْلاصِ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وجَهْدُ الأيْمانِ بِفَتْحِ الجِيمِ أقْواها وأغْلَظُها، وحَقِيقَةُ الجَهْدِ التَّعَبُ والمَشَقَّةُ ومُنْتَهى الطّاقَةِ، وفِعْلُهُ كَمَنَعَ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى أشَدِّ الفِعْلِ ونِهايَةِ قُوَّتِهِ لِما بَيْنَ الشِّدَّةِ والمَشَقَّةِ مِنَ المُلازَمَةِ، وشاعَ ذَلِكَ في كَلامِهِمْ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الآيَةِ في مَعْنى أوْكَدِ الأيْمانِ وأغْلَظِها، أيْ أقْسَمُوا أقْوى قَسَمٍ، وذَلِكَ بِالتَّوْكِيدِ والتَّكْرِيرِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يُغَلَّظُ بِهِ اليَمِينُ عُرْفًا. ولَمْ أرَ إطْلاقَ الجَهْدِ عَلى هَذا المَعْنى فِيما قَبْلَ القُرْآنِ. وانْتَصَبَ ”جَهْدَ“ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِأنَّهُ (p-٢٣٤)بِإضافَتِهِ إلى (الأيْمانِ) صارَ مِن نَوْعِ اليَمِينِ فَكانَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِلنَّوْعِ. وفي الكَشّافِ في سُورَةِ النُّورِ جَعَلَهُ مَصْدَرًا بَدَلًا مِن فِعْلِهِ وجَعَلَ التَّقْدِيرَ: أقْسَمُوا بِاللَّهِ يُجْهِدُونَ أيْمانَهم جَهْدًا، فَلَمّا حُذِفَ الفِعْلُ وجُعِلَ المَفْعُولُ المُطْلَقُ عِوَضًا عَنْهُ قُدِّمَ المَفْعُولُ المُطْلَقُ عَلى المَفْعُولِ بِهِ وأُضِيفَ إلَيْهِ.
وجُمْلَةُ حَبِطَتْ أعْمالُهُمُ اسْتِئْنافٌ، سَواءٌ كانَتْ مِن كَلامِ الَّذِينَ آمَنُوا فَتَكُونُ مِنَ المَحْكِيِّ بِالقَوْلِ، أمْ كانَتْ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى فَلا تَكُونُهُ. و”حَبِطَتْ“ مَعْناهُ تَلِفَتْ وفَسَدَتْ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٢١٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
{"ayahs_start":51,"ayahs":["۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ","وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ"],"ayah":"۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق