الباحث القرآني

(p-٢٢٨)﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ هَذا نِداءٌ ثالِثٌ ابْتُدِئَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ وهو آدابُ جَماعاتِ المُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وقَدْ تَضافَرَتِ الرِّواياتُ عِنْدَ المُفَسِّرِينَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وابْنِ عَبّاسٍ والحارِثِ بْنِ ضِرارَةَ الخُزاعِيِّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبِ قَضِيَّةٍ حَدَثَتْ. ذَلِكَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ بَعَثَ الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ إلى بَنِي المُصْطَلِقِ مِن خُزاعَةَ لِيَأْتِيَ بِصَدَقاتِهِمْ فَلَمّا بَلَغَهم مَجِيئُهُ، أوْ لَمّا اسْتَبْطَئُوا مَجِيئَهُ، فَإنَّهم خَرَجُوا لِتَلَقِّيهِ أوْ خَرَجُوا لِيُبَلِّغُوا صَدَقاتِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ وعَلَيْهِمُ السِّلاحُ، وأنَّ الوَلِيدَ بَلَغَهُ أنَّهم خَرَجُوا إلَيْهِ بِتِلْكَ الحالَةِ وهي حالَةٌ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ في تَلَقِّي المُصَّدِّقِينَ وحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أنَّهم يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، أوْ لَمّا رَآهم مُقْبِلِينَ كَذَلِكَ عَلى اخْتِلافِ الرِّواياتِ خافَ أنْ يَكُونُوا أرادُوا قَتْلَهُ إذْ كانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَهم شَحْناءُ مِن زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ فَوَلّى راجِعًا إلى المَدِينَةِ. ( هَذا ما جاءَ في رِواياتٍ أرْبَعٍ مُتَّفِقَةٍ في صِفَةِ خُرُوجِهِمْ إلَيْهِ مَعَ اخْتِلافِها في بَيانِ الباعِثِ لَهم عَلى ذَلِكَ الخُرُوجِ وفي أنَّ الوَلِيدَ أُعْلِمَ بِخُرُوجِهِمْ إلَيْهِ أوْ رَآهم أوِ اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ خَوْفًا وأنَّ الوَلِيدَ جاءَ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَقالَ: إنَّ بَنِي المُصْطَلِقِ أرادُوا قَتْلِي وإنَّهم مَنَعُوا الزَّكاةِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهَمَّ أنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ لِيَنْظُرَ في أمْرِهِمْ، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ بَعَثَ خالِدًا وأمَرَهُ بِأنْ لا يَغْزُوَهم حَتّى يَسْتَثْبِتَ أمْرَهم وأنْ خالِدًا لَمّا بَلَغَ دِيارَ القَوْمِ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ يَنْظُرُ حالَهم فَأخْبَرَهُ أنَّهم يُقِيمُونَ الأذانَ والصَّلاةَ فَأخْبَرَهم بِما بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهم وقَبَضَ زَكاتَهم وقَفَلَ راجِعًا. وفِي رِوايَةٍ أُخْرى أنَّهم ظَنُّوا مِن رُجُوعِ الوَلِيدِ أنْ يَظُنَّ بِهِمْ مَنعَ الصَّدَقاتِ فَجاءُوا النَّبِيءَ ﷺ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ خالِدٌ إلَيْهِمْ مُتَبَرِّئِينَ مِن مَنعِ الزَّكاةِ ونِيَّةِ الفَتْكِ بِالوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ. وفي رِوايَةٍ أنَّهم لَمّا وصَلُوا إلى المَدِينَةِ وجَدُوا الجَيْشَ خارِجًا إلى غَزْوِهِمْ. فَهَذا تَلْخِيصُ هَذِهِ الرِّواياتِ وهي بِأسانِيدَ لَيْسَ مِنها شَيْءٌ في الصَّحِيحِ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قَضِيَّتانِ أُخْرَيانِ، وهَذا أشْهَرُ. ولِنَشْتَغِلِ الآنَ بِبَيانِ وجْهِ المُناسَبَةِ لِمَوْقِعِ هَذِهِ الآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَها فَإنَّ (p-٢٢٩)الِانْتِقالَ مِنها إلى هَذِهِ يَقْتَضِي مُناسِبَةً بَيْنَهُما، فالقِصَّتانِ مُتَشابِهَتانِ إذْ كانَ وفْدُ بَنِي تَمِيمٍ النّازِلَةُ فِيهِمُ الآيَةُ السّابِقَةُ جاءُوا مُعْتَذِرِينَ عَنْ رَدِّهِمْ ساعِيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِقَبْضِ صَدَقاتِ بَنِي كَعْبِ بْنِ العَنْبَرِ مِن تَمِيمٍ كَما تَقَدَّمَ، وبَنُو المُصْطَلِقِ تَبَرَّءُوا مِن أنَّهم يَمْنَعُونَ الزَّكاةَ إلّا أنَّ هَذا يُناكِدُهُ بُعْدُ ما بَيْنَ الوَقْتَيْنِ إلّا أنْ يَكُونَ في تَعْيِينِ سَنَةِ وفْدِبَنِي تَمِيمٍ وهْمٌ. وإعادَةُ الخِطابِ بِـ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفَصْلُهُ بِدُونِ عاطِفٍ لِتَخْصِيصِ هَذا الغَرَضِ بِالِاهْتِمامِ كَما عَلِمْتَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: ٢] . فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِلْمُناسَبَةِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها. ولا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الآيَةِ بِتَشْرِيعٍ في قَضِيَّةِ بَنِي المُصْطَلِقِ مَعَ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لِأنَّها قَضِيَّةٌ انْقَضَتْ وسُوِّيَتْ. والفاسِقُ: المُتَّصِفُ بِالفُسُوقِ، وهو فِعْلُ ما يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ مِنَ الكَبائِرِ. وفُسِّرَ هُنا بِالكاذِبِ قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ومُقاتِلٌ وسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وأُوثِرَ في الشَّرْطِ حَرْفُ (إنْ) الَّذِي الأصْلُ فِيهِ أنْ يَكُونَ لِلشَّرْطِ المَشْكُوكِ في وُقُوعِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ شَأْنَ فِعْلِ الشَّرْطِ أنْ يَكُونَ نادِرَ الوُقُوعِ لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ. واعْلَمْ أنْ لَيْسَ الآيَةُ ما يَقْتَضِي وصْفَ الوَلِيدِ بِالفاسِقِ تَصْرِيحًا ولا تَلْوِيحًا. وقَدِ اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ الوَلِيدَ ظَنَّ ذَلِكَ كَما في الإصابَةِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ ولَيْسَ في الرِّواياتِ ما يَقْتَضِي أنَّهُ تَعَمَّدَ الكَذِبَ. قالَ الفَخْرُ: إنَّ إطْلاقَ لَفْظِ الفاسِقِ عَلى الوَلِيدِ شَيْءٌ بَعِيدٌ لِأنَّهُ تَوَهَّمَ وظَنَّ فَأخْطَأ، والمُخْطِئُ لا يُسَمّى فاسِقًا. قُلْتُ: ولَوْ كانَ الوَلِيدُ فاسِقًا لَما تَرَكَ النَّبِيءَ ﷺ تَعْنِيفَهُ واسْتِتابَتَهُ فَإنَّهُ رَوى أنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلى قَوْلِهِ لَهُ: ”«التَّبْيِينُ مِنَ اللَّهِ والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ» “، إذْ كانَ تَعْجِيلُ الوَلِيدِ الرُّجُوعَ عَجَلَةً. وقَدْ كانَ خُرُوجُ القَوْمِ لِلتَّعَرُّضِ إلى الوَلِيدِ بِتِلْكَ الهَيْئَةِ مَثارَ ظَنِّهِ (p-٢٣٠)حَقًّا إذْ لَمْ يَكُنِ المَعْرُوفُ خُرُوجَ القَبائِلِ لِتَلَقِّي السُّعاةِ. وأنا أحْسَبُ أنَّ عَمَلَهم كانَ حِيلَةً مِن كُبَرائِهِمْ عَلى انْصِرافِ الوَلِيدِ عَنِ الدُّخُولِ في حَيِّهِمْ تَعَيُّرًا مِنهم في نَظَرِ عامَّتِهِمْ مِن أنْ يَدْخُلَ عَدُوٌّ لَهم إلى دِيارِهِمْ ويَتَوَلّى قَبْضَ صَدَقاتِهِمْ فَتُعَيِّرُهم أعْداؤُهم بِذَلِكَ يَمْتَعِضُ مِنهم دَهْماؤُهم ولِذَلِكَ ذَهَبُوا بِصَدَقاتِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ في رِوايَةٍ أوْ جاءُوا مُعْتَذِرِينَ قَبْلَ مَجِيءِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ إلَيْهِمْ في رِوايَةٍ أُخْرى. ويُؤَيِّدُ هَذا ما جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ هَذا الخَبَرِ أنَّ الوَلِيدَ أُعْلِمَ بِخُرُوجِ القَوْمِ إلَيْهِ، وسَمِعَ بِذَلِكَ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الإعْلامَ مُوعَزٌ بِهِ إلَيْهِ لِيَخافَ فَيَرْجِعَ. وقَدِ اتَّفَقَ مَن تَرْجَمُوا لِلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ عَلى أنَّهُ كانَ شُجاعًا جَوادًا وكانَ ذا خُلُقٍ ومُرُوءَةٍ. واعْلَمْ أنَّ جُمْهُورَ أهْلِ السُّنَّةِ عَلى اعْتِبارِ أصْحابِ النَّبِيءِ ﷺ عُدُولًا وأنَّ كُلَّ مَن رَأى النَّبِيءَ ﷺ وآمَنَ بِهِ فَهو مِن أصْحابِهِ. وزادَ بَعْضُهم شَرْطَ أنْ يَرْوِيَ عَنْهُ أوْ يُلازِمَهُ ومالَ إلَيْهِ المازِرِيُّ. قالَ في أمالِيهِ في أُصُولِ الفِقْهِ: ”ولَسْنا نَعْنِي بِأصْحابِ النَّبِيءِ كُلَّ مَن رَآهُ أوْ زارَهُ لِمامًا إنَّما نُرِيدُ أصْحابَهُ الَّذِينَ لازَمُوهُ وعَزَّزُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ شَهِدَ اللَّهُ لَهم بِالفَلاحِ اهـ. وإنَّما تَلَقَّفَ هَذِهِ الأخْبارَ النّاقِمُونَ عَلى عُثْمانَ إذْ كانَ مِن عِدادِ مَناقِمِهِمُ الباطِلَةِ أنَّهُ أوْلى الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إمارَةَ الكُوفَةِ فَحَمَلُوا الآيَةَ عَلى غَيْرِ وجْهِها وألْصَقُوا بِالوَلِيدِ وصْفَ الفاسِقِ، وحاشاهُ مِنهُ لِتَكُونَ وِلايَتُهُ الإمارَةَ باطِلًا. وعَلى تَسْلِيمِ أنْ تَكُونَ الآيَةُ إشارَةً إلى فاسِقٍ مُعَيَّنٍ فَلِماذا لا يُحْمَلُ عَلى إرادَةِ الَّذِي أعْلَمَ الوَلِيدَ بِأنَّ القَوْمَ خَرَجُوا لَهُ لِيَصُدُّوهُ عَنِ الوُصُولِ إلى دِيارِهِمْ قَصْدًا لِإرْجاعِهِ. وفِي بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّ خالِدًا وصَلَ إلى دِيارِ بَنِي المُصْطَلِقِ. وفي بَعْضِها أنَّ بَنِي المُصْطَلِقِ ورَدُوا المَدِينَةَ مُعْتَذِرِينَ، واتَّفَقَتِ الرِّواياتُ عَلى أنَّ بَيْنَ بَنِي المُصْطَلِقِ وبَيْنَ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ شَحْناءَ مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ. وفِي الرِّوايَةِ أنَّهُمُ اعْتَذَرُوا لِلتَّسَلُّحِ بِقَصْدِ إكْرامِ ضَيْفِهِمْ. وفي السِّيرَةِ الحَلَبِيَّةِ، أنَّهم قالُوا: خَشِينا أنْ يُبادِئَنا بِالَّذِي كانَ بَيْنَنا مِن شَحْناءَ. وهَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ في الشَّهادَةِ والرِّوايَةِ مِن وُجُوبِ البَحْثِ عَنْ دَخِيلَةِ مَن جُهِلَ حالُ تَقْواهُ. وقَدْ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ لا يُؤْسَرُ أحَدُ في الإسْلامِ بِغَيْرِ العُدُولِ، وهي أيْضًا أصْلٌ عَظِيمٌ في (p-٢٣١)تَصَرُّفاتِ وُلاةِ الأُمُورِ وفي تَعامُلِ النّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِن عَدَمِ الإصْغاءِ إلى كُلِّ ما يُرْوى ويُخْبَرُ بِهِ. والخِطابُ بِـ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مُرادٌ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ ومَن مَعَهُ ويَشْمَلُ الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إذْ صَدَّقَ مَن أخْبَرَهُ بِأنَّ بَنِي المُصْطَلِقِ يُرِيدُ لَهُ سُوءًا ومَن يَأْتِي مِن حُكّامِ المُؤْمِنِينَ وأُمَرائِهِمْ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ تَشْرِيعُ تَعْدِيلِ مَن لا يُعَرَفُ بِالصِّدْقِ والعَدالَةِ. ومَجِيءُ حَرْفِ (إنْ) في هَذا الشَّرْطِ يُومِئُ إلى أنَّهُ مِمّا يَنْبَغِي أنْ لا يَقَعَ إلّا نادِرًا. والتَّبْيِينُ: قُوَّةُ الإبانَةِ وهو مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ بِمَعْنى أبانَ، أيْ تَأمَّلُوا وأبِينُوا. والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بِنَبَأٍ أيْ تَبَيَّنُوا ما جاءَ بِهِ وإبانَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِها. والأمْرُ بِالتَّبْيِينِ أصْلٌ عَظِيمٌ في وُجُوبِ التَّثَبُّتِ في القَضاءِ وأنْ لا يَتَتَبَّعَ الحاكِمُ القِيلَ والقالَ ولا يَنْصاعَ إلى الجَوَلانِ في الخَواطِرِ مِنَ الظُّنُونِ والأوْهامِ. ومَعْنى فَتَبَيَّنُوا تَبَيِّنُوا الحَقَّ، أيْ مِن غَيْرِ جِهَةِ ذَلِكَ الفاسِقِ. فَخَبَرُ الفاسِقِ يَكُونُ داعِيًا إلى التَّتَبُّعِ والتَّثَبُّتِ يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْحُكْمِ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ وقَدْ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ:“ لا يُؤْسَرُ أحَدٌ في الإسْلامِ بِغَيْرِ العُدُولِ. وإنَّما كانَ الفاسِقُ مُعَرَّضًا خَبَرُهُ لِلرِّيبَةِ والِاخْتِلاقِ لِأنَّ الفاسِقَ ضَعِيفُ الوازِعِ الدِّينِيِّ في نَفْسِهِ، وضَعْفُ الوازِعِ يُجَرِّئُهُ عَلى الِاسْتِخْفافِ بِالمَحْظُورِ وبِما يُخْبِرُ بِهِ في شَهادَةٍ أوْ خَبَرٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِما إضْرارٌ بِالغَيْرِ أوْ بِالصّالِحِ العامِّ ويُقَوِّي جُرْأتَهُ عَلى ذَلِكَ دَوْمًا إذا لَمْ يَتُبْ ويَنْدَمْ عَلى ما صَدَرَ مِنهُ ويُقْلِعْ عَنْ مِثْلِهِ. والإشْراكُ أشَدُّ في ذَلِكَ الِاجْتِراءِ لِقِلَّةِ مُراعاةِ الوازِعِ في أُصُولِ الإشْراكِ. وتَنْكِيرُ ”فاسِقٌ“، و(نَبَإٍ)، في سِياقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ العُمُومَ في الفُسّاقِ بِأيِّ فِسْقٍ اتَّصَفُوا، وفي الأنْباءِ كَيْفَ كانَتْ، كَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ فاسِقٍ جاءَكم بِأيِّ نَبَأٍ فَتَوَقَّفُوا فِيهِ وتَطَلَّبُوا بَيانَ الأمْرِ وانْكِشافَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”فَتَبَيَّنُوا“ بِفَوْقِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَنُونٍ مِنَ التَّبْيِينِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ فَتَثَبَّتُوا بِفَوْقِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ مِنَ التَّثَبُّتِ. والتَّبْيِينُ: تَطَلُّبُ البَيانِ وهو ظُهُورُ الأمْرِ، والتَّثَبُّتُ التَّحَرِّي وتَطَلُّبُ الثَّباتِ وهو الصِّدْقُ. (p-٢٣٢)ومَآلُ القِراءَتَيْنِ واحِدٌ وإنِ اخْتَلَفَ مَعْناهُما. وعَنِ النَّبِيءِ ﷺ «”التَّثَبُّتُ مِنَ اللَّهِ والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ» . ومَوْقِعُ ﴿أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا﴾ إلَخْ نَصْبًا عَلى نَزْعِ الخافِضِ وهو لامُ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً. ويَجُوزُ كَوْنُهُ مَنصُوبًا عَلى المَفْعُولِ لِأجْلِهِ. والمُعَلَّلُ بِاللّامِ المَحْذُوفَةِ أوِ المُقَدَّرَةِ هو التَّثَبُّتُ، فَمَعْنى تَعْلِيلِهِ بِإصابَةٍ يَقَعُ إثْرَها النَّدَمُ هو التَّثَبُّتُ. فَمَعْنى تَعْلِيلِهِ بِإصابَةٍ يَقَعُ آخِرَها النَّدَمُ أنَّ الإصابَةَ عِلَّةٌ تُحْمَلُ عَلى التَّثَبُّتِ لِلتَّفادِي مِنها فَلِذَلِكَ كانَ مَعْنى الكَلامِ عَلى انْتِفاءِ حُصُولِ هَذِهِ الإضافَةِ لِأنَّ العِلَّةَ إذا صَلَحَتْ لِإثْباتِ الكَفِّ عَنْ فِعْلٍ تَصْلُحُ لِلْإتْيانِ بِضِدِّهِ لِتَلازُمِ الضِّدِّ. وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا التَّعْلِيلِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ﴾ [الحجرات: ٢] في هَذِهِ السُّورَةِ. وهَذا التَّحْذِيرُ مِن جَرّاءِ قَبُولِ خَبَرِ الكاذِبِ يَدُلُّ عَلى تَحْذِيرِ مَن يَخْطُرُ لَهُ اخْتِلاقُ خَبَرٍ مِمّا يَتَرَتَّبُ عَلى خَبَرِهِ الكاذِبِ مِن إصابَةِ النّاسِ. وهَذا بِدَلالَةِ فَحْوى الخِطابِ. والجَهالَةُ: تُطْلَقُ بِمَعْنى: ضِدِّ العِلْمِ، وتُطْلَقُ بِمَعْنى: ضِدِّ الحِلْمِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: جَهِلَ كَجَهْلِ السَّيْفِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ، فالباءُ لِلْمُلابَسَةِ وهو ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ مُتَلَبِّسِينَ أنْتُمْ بِعَدَمِ العِلْمِ بِالواقِعِ لِتَصْدِيقِكُمُ الكاذِبَ، ومُتَعَلِّقُ“ تُصِيبُوا ”عَلى هَذا الوَجْهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ سابِقًا ولاحِقًا، أيْ أنْ تُصِيبُوهم بِضُرٍّ، وأكْثَرُ إطْلاقِ الإصابَةِ عَلى إيصالِ الضُّرِّ، وعَلى الإطْلاقِ الثّانِي الباءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِفِعْلٍ مِن أثَرِ الجَهالَةِ، أيْ بِفِعْلٍ مِنَ الشِّدَّةِ والإضْرارِ. ومَعْنى فَتُصْبِحُوا فَتَصِيرُوا لِأنَّ بَعْضَ أخَواتِ كانَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى الصَّيْرُورَةِ. والنَّدَمُ: الأسَفُ عَلى فِعْلٍ صَدَرَ. والمُرادُ بِهِ هُنا النَّدَمُ الدِّينِيُّ، أيِ النَّدَمُ عَلى التَّوَرُّطِ في الذَّنْبِ لِلتَّساهُلِ وتَرَكِ تَطَلُّبِ وُجُوهِ الحَقِّ. وهَذا الخِطابُ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (p-٢٣٣)مُوَجَّهٌ ابْتِداءً لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْبَرِينَ بِفَتْحِ الباءِ كُلٌّ بِحَسَبِ أثَرِهِ بِما يَبْلُغُ إلَيْهِ مِنَ الأخْبارِ عَلى اخْتِلافِ أغْراضِ المُخْبِرِينَ بِكَسْرِ الباءِ. ولَكِنَّ هَذا الخِطابَ لا يَتْرُكُ المُخْبِرِينَ بِكَسْرِ الباءِ بِمَعْزِلٍ عَنِ المُطالَبَةِ بِهَذا التَّبَيُّنِ فِيما يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الأخْبارِ وبِتَوَخِّي سُوءِ العاقِبَةِ فِيما يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ المُخْتَلَقاتِ، ولَكِنَّ هَذا تَبَيَّنٌ يُخالِفُ تَبَيُّنَ الآخَرِ وتَثَبُّتَهُ، فَهَذا تَثَبُّتٌ مِنَ المُتَلَقِّي بِالتَّمْحِيصِ لِما يَتَلَقّاهُ مِن حِكايَةٍ أوْ يَطْرُقُ سَمْعَهُ مِنَ الكَلامِ والآخَرُ تَمْحِيصٌ وتَمْيِيزٌ لِحالِ المُخْبِرِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَتَخَرَّجُ مِنها أرْبَعُ مَسائِلَ مِنَ الفِقْهِ وأُصُولِهِ: المَسْألَةُ الأُولى: وُجُوبُ البَحْثِ عَنْ عَدالَةِ مَن كانَ مَجْهُولَ الحالِ في قَبُولِ الشَّهادَةِ أوِ الرِّوايَةِ عِنْدَ القاضِي وعِنْدَ الرُّواةِ. وهَذا صَرِيحُ الآيَةِ وقَدْ أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّها دالَّةٌ عَلى قَبُولِ الواحِدِ الَّذِي انْتَفَتْ عَنْهُ تُهْمَةُ الكَذِبِ في شَهادَتِهِ أوْ رِوايَتِهِ وهو المَوْسُومُ بِالعَدالَةِ، وهَذا مِن مَدْلُولِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ وهي مَسْألَةٌ أُصُولِيَّةٌ في العَمَلِ بِخَبَرِ الواحِدِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قِيلَ إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَجْهُولِ عَدَمُ العَدالَةِ، أيْ عَدَمُ ظَنِّ عَدالَتِهِ فَيَجِبُ الكَشْفُ عَنْ مَجْهُولِ الحالِ فَلا يُعْمَلُ بِشَهادَتِهِ ولا بِرِوايَتِهِ حَتّى يُبْحَثَ عَنْهُ وتَثْبُتَ عَدالَتُهُ. وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ والمُحَدِّثِينَ وهو قَوْلُ مالِكٍ. وقالَ بَعْضُهم: الأصْلُ في النّاسِ العَدالَةُ ويُنْسَبُ إلى أبِي حَنِيفَةَ فَيُقْبَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولُ الباطِنِ ويُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَسْتُورِ الحالِ. أمّا المَجْهُولُ باطِنُهُ وظاهِرُهُ مَعًا فَحُكِيَ الِاتِّفاقُ عَلى عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ، وكَأنَّهم نَظَرُوا إلى مَعْنى كَلِمَةِ الأصْلِ العَقْلِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ كانَ قالَ:“ المُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهم عَنْ بَعْضٍ ”وأنَّهُ لَمّا بَلَغَهُ ظُهُورُ شَهادَةِ الزُّورِ رَجَعَ فَقالَ:“ لا يُؤْسَرُ أحَدٌ في الإسْلامِ بِغَيْرِ العُدُولِ " . ويُسْتَثْنى مِن هَذا أصْحابُ النَّبِيءِ ﷺ فَإنَّ الأصْلَ أنَّهم عُدُولٌ حَتّى يَثْبُتَ خِلافُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ لا خِلافَ فِيهِ في الدِّينِ ولا يَخْتَلِفُ فِيهِ اجْتِهادُ المُجْتَهِدِينَ. وإنَّما تُفِيدُ الآيَةُ هَذا الأصْلَ إذا حُمِلَ مَعْنى الفاسِقِ عَلى ما يَشْمَلُ المُتَّهَمَ بِالفِسْقِ. (p-٢٣٤)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ ﴿فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ أنَّهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الوُقُوعِ فِيما يُوجِبُ النَّدَمَ شَرْعًا، أيْ ما يُوجِبُ التَّوْبَةَ مِن تِلْكَ الإصابَةِ، فَكانَ هَذا كِنايَةً عَنِ الإثْمِ في تِلْكَ الإصابَةِ فَحَذَّرَ وُلاةَ الأُمُورِ مِن أنْ يُصِيبُوا أحَدًا بِضُرٍّ أوْ عِقابٍ أوْ حَدٍّ أوْ غُرْمٍ دُونَ تَبَيُّنِ وتَحَقُّقِ تَوَجُّهِ ما يُوجِبُ تَسْلِيطَ تِلْكَ الإصابَةِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ يُوجِبُ اليَقِينَ أوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ وما دُونَ ذَلِكَ فَهو تَقْصِيرٌ يُؤاخَذُ عَلَيْهِ، ولَهُ مَراتِبُ بَيَّنَها العُلَماءُ في حِكَمٍ خَطَّها القاضِي وصِفَةِ المُخْطِئِ وما يُنْقَضُ مِن أحْكامِهِ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ لِلِاهْتِمامِ بِذَلِكَ الفِعْلِ، وهو الإصابَةُ بِدُونِ تَثَبُّتٍ والتَّنْبِيهُ عَلى خَطَرِ أمْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب