الباحث القرآني

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا» إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ- فِي رِوَايَةٍ: لِإِحْنَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ-، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ خَالِدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ، فَعَادَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَانَ يَقُولُ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ:] التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ [. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَكِبُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ خَافَهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَمَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ. فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِغَزْوِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ قَدِمَ وَفْدُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ، وَنُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَا قِبَلَنَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَاسْتَمَرَّ رَاجِعًا، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ يَزْعُمُ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنَّا خَرَجْنَا لِنُقَاتِلَهُ، وَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا لِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَسُمِّيَ الْوَلِيدُ فَاسِقًا أي كاذبا. قال ابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْفَاسِقُ الْكَذَّابُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ [[في بعض النسخ: "أبو الحسين".]] الْوَرَّاقِ: هُوَ الْمُعْلِنُ بِالذَّنْبِ. وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: الَّذِي لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "فَتَثَبَّتُوا" مِنَ التَّثَبُّتِ. الْبَاقُونَ "فَتَبَيَّنُوا" مِنَ التَّبْيِينِ "أَنْ تُصِيبُوا" أَيْ لِئَلَّا تُصِيبُوا، فَ "أَنْ" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ. "قَوْماً بِجَهالَةٍ" أَيْ بخطإ. "فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" عَلَى الْعَجَلَةِ وَتَرْكِ التَّأَنِّي الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ فِيهَا بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ نَقْلِ خَبَرِ الْفَاسِقِ. وَمَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ وَالْفِسْقُ قَرِينَةٌ يُبْطِلُهَا. وَقَدِ اسْتَثْنَى الْإِجْمَاعُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْجُحُودِ، وَإِثْبَاتِ حَقٍّ مَقْصُودٍ عَلَى الْغَيْرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا عَبْدِي، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَإِذَا قَالَ: قَدْ أَنْفَذَ فُلَانٌ هَذَا لَكَ هَدِيَّةً، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ فِي مِثْلِهِ خَبَرُ الْكَافِرِ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِحَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْشَاءِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ومالك: يكون وليا، لأنه يلي ما لها فَيَلِي بُضْعَهَا. كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إِلَّا أَنَّ غَيْرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، وَإِذَا وَلِيَ الْمَالَ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ. وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَبَّةِ مَالٍ] كَيْفَ [[[زيادة عن ابن العربي.]] يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ. وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَرَاءَهُمْ، وَلَا اسْتُطِيعَتْ إِزَالَتُهُمْ صُلِّيَ مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. ثُمَّ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةً أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يجعلها صلاته. وبوجوب الإعادة أقول، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مَعَ مَنْ لَا يَرْضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْثِرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إِنْ كَانَ وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ رِوَايَةٍ] تُؤْثَرُ [[[زيادة عن ابن العربي.]] أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ وَالْحَقُّ ظَاهِرٌ. الْخَامِسَةُ- لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ، أَوْ إِذْنٍ يُعْلِمُهُ، إِذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلَّغِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. وَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَّا الْعُدُولُ لَمْ يَحْصُلْ منها [[في ابن العربي: "منهم".] []] شي لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- وَفِي الآية دليل على فساد قول مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ حَتَّى تَثْبُتَ الْجُرْحَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّثَبُّتِ بَعْدَ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ، فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ قَبْلَ التَّثَبُّتِ فَقَدْ أَصَابَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِجَهَالَةٍ. السَّابِعَةُ- فَإِنْ قَضَى بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا بِجَهَالَةٍ، كَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْعَدْلَيْنِ، وَقَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ. وَإِنَّمَا الْعَمَلُ بِالْجَهَالَةِ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ لَا يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِقَبُولِهِ. ذَكَرَ هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب