الباحث القرآني

﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ أخْبارٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هو ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ ﴿مَثَلُهُمْ﴾ [البقرة: ١٧] ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) لِأنَّهُ لا يَلْتَئِمُ بِهِ أوَّلُ التَّشْبِيهِ وآخِرُهُ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] يَقْتَضِي أنَّ المُسْتَوْقِدَ ذُو بَصَرٍ وإلّا لَما تَأتّى مِنهُ الِاسْتِيقادُ، وحَذْفُ المُسْنَدِ إلَيْهِ في هَذا المَقامِ اسْتِعْمالٌ شائِعٌ عِنْدَ العَرَبِ إذا ذَكَرُوا مَوْصُوفًا بِأوْصافٍ أوْ أخْبارٍ جَعَلُوهُ كَأنَّهُ قَدْ عُرِفَ لِلسّامِعِ فَيَقُولُونَ: فُلانٌ أوْ فَتًى أوْ رَجُلٌ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ: هو فُلانٌ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا﴾ [النبإ: ٣٦] ﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ [النبإ: ٣٧] التَّقْدِيرُ هو رَبُّ السَّماواتِ، عَدَلَ عَنْ جَعْلِ ”رَبُّ“ بَدَلًا مِن ”رَبِّكَ“، وقَوْلُ الحَماسِيِّ: ؎سَأشْكُرُ عَمْرًا إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي أيادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وإنْ هي جَلَّتِ ؎فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الغِنى عَنْ صَدِيقِهِ ∗∗∗ ولا مُظْهِرُ الشَّكْوى إذا النَّعْلُ زَلِّتِ وسَمّى السَّكّاكِيُّ هَذا الحَذْفَ ”الحَذْفَ الَّذِي اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمالُ الوارِدُ عَلى تَرْكِهِ“ . والإخْبارُ عَنْهم بِهَذِهِ الأخْبارِ جاءَ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ؛ شُبِّهُوا في انْعِدامِ آثارِ الإحْساسِ مِنهم بِالصُّمِّ البُكْمِ العُمْيِ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِنهُمُ اجْتَمَعَتْ لَهُ الصِّفاتُ الثَّلاثُ وذَلِكَ شَأْنُ الأخْبارِ الوارِدَةِ بِصِيغَةِ الجَمْعِ بَعْدَ مُبْتَدَأٍ هو اسْمٌ دالٌّ عَلى جَمْعٍ، فالمَعْنى كُلُّ واحِدٍ مِنهم كالأصَمِّ الأبْكَمِ (p-٣١٤)الأعْمى ولَيْسَ المَعْنى عَلى التَّوْزِيعِ، فَلا يُفْهَمُ أنَّ بَعْضَهم كالأصَمِّ وبَعْضَهم كالأبْكَمِ وبَعْضَهم كالأعْمى، ولَيْسَ هو مِنَ الِاسْتِعارَةِ عِنْدَ مُحَقِّقِي أهْلِ البَيانِ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: فَإنْ قُلْتَ: هَلْ يُسَمّى ما في الآيَةِ اسْتِعارَةٌ قُلْتُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، والمُحَقِّقُونَ عَلى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لا اسْتِعارَةً لِأنَّ المُسْتَعارَ لَهُ مَذْكُورٌ وهُمُ المُنافِقُونَ. اهـ أيْ لِأنَّ الِاسْتِعارَةَ تَعْتَمِدُ عَلى لَفْظِ المُسْتَعارِ مِنهُ أوِ المُسْتَعارِ لَهُ في جُمْلَةِ الِاسْتِعارَةِ، فَمَتى ذُكِرا مَعًا فَهو تَشْبِيهٌ، ولا يَضُرُّ ذِكْرُ لَفْظِ المُسْتَعارِ لَهُ في غَيْرِ جُمْلَةِ الِاسْتِعارَةِ لِظُهُورِ أنَّهُ لَوْلا العِلْمُ بِالمُسْتَعارِ لَهُ في الكَلامِ لَما ظَهَرَتِ الِاسْتِعارَةُ، ولِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَ ابْنِ العَمِيدِ: ؎قامَتْ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ ∗∗∗ نَفْسٌ أعَزُّ عَلَيَّ مِن نَفْسِي ؎قامَتْ تُظَلِّلُنِي ومِن عَجَبٍ ∗∗∗ شَمَّسٌ تُظَلِّلُنِي مِنَ الشَّمْسِ أنَّ قَوْلَهُ: ”شَمْسٌ“ اسْتِعارَةٌ ولَمْ يَمْنَعْهم مِن ذَلِكَ ذِكْرُ المُسْتَعارِ لَهُ قَبْلُ في قَوْلِهِ: نَفْسٌ أعَزُّ، وضَمِيرُها في قَوْلِهِ: قامَتْ تُظَلِّلُنِي، وكَذا إذا كانَ لَفْظُ المُسْتَعارِ غَيْرَ مَقْصُودِ ابْتِناءِ التَّشْبِيهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مانِعًا مِنَ الِاسْتِعارَةِ كَقَوْلِ أبِي الحَسَنِ ابْنِ طَباطَبا: ؎لا تَعْجَبُوا مِن بِلَي غَلالَتِهِ ∗∗∗ قَدْ زَرَّ أزْرارَهُ عَلى القَمَرِ فَإنَّ الضَّمِيرَ لَمْ يُذْكَرْ لِيُبْنى عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ، بَلْ جاءَ التَّشْبِيهُ عَقِبَهُ. والصُّمُّ والبُكْمُ والعُمْيُ جَمْعُ أصَمَّ وأعْمى وأبْكَمَ وهم مَنِ اتَّصَفَ بِالصَّمَمِ والبَكَمِ والعَمى. فالصَّمَمُ انْعِدامُ إحْساسِ السَّمْعِ عَمَّنْ مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ سَمِيعًا، والبَكَمُ انْعِدامُ النُّطْقِ عَمَّنْ مِن شَأْنِهِ النُّطْقُ، والعَمى انْعِدامُ البَصَرِ عَمَّنْ مِن شَأْنِهِ الإبْصارُ. وقَوْلُهُ ﴿فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لِأنَّ مَنِ اعْتَراهُ هَذِهِ الصِّفاتُ انْعَدَمَ مِنهُ الفَهْمُ والإفْهامُ وتَعَذَّرَ طَمَعُ رُجُوعِهِ إلى رُشْدٍ أوْ صَوابٍ. والرُّجُوعُ الِانْصِرافُ مِن مَكانِ حُلُولٍ ثانٍ إلى مَكانِ حُلُولٍ أوَّلٍ وهو هُنا مَجازٌ في الإقْلاعِ عَنِ الكُفْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب