الباحث القرآني

﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾: أخْبارٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ؛ هو ضَمِيرُ المُنافِقِينَ؛ أوْ خَبَرٌ واحِدٌ؛ بِالتَّأْوِيلِ المَشْهُورِ؛ كَما في قَوْلِهِمْ: هَذا حُلْوٌ حامِضٌ. والصَّمَمُ آفَةٌ مانِعَةٌ مِنَ السَّماعِ؛ وأصْلُهُ الصَّلابَةُ؛ واكْتِنازُ الأجْزاءِ؛ ومِنهُ: الحَجَرُ الأصَمُّ؛ والقَناةُ الصَّمّاءُ؛ وصِمامُ القارُورَةِ سِدادُها؛ سُمِّيَ بِهِ فِقْدانُ حاسَّةِ السَّمْعِ؛ لِما أنَّ سَبَبَهُ اكْتِنازُ باطِنِ الصِّماخِ؛ وانْسِدادُ مَنافِذِهِ؛ بِحَيْثُ لا يَكادُ يَدْخُلُهُ هَواءٌ يَحْصُلُ الصَّوْتُ بِتَمَوُّجِهِ. والبَكَمُ: الخَرَسُ؛ والعَمى عَدَمُ البَصَرِ عَمّا مِن شَأْنِهِ أنْ يُبْصَرَ؛ وُصِفُوا بِذَلِكَ مَعَ سَلامَةِ مَشاعِرِهِمُ المَعْدُودَةِ؛ لِما أنَّهم حَيْثُ سَدُّوا مَسامِعَهم عَنِ الإصاخَةِ لِما يُتْلى عَلَيْهِمْ مِنَ الآياتِ؛ والذِّكْرِ الحَكِيمِ؛ وأبَوْا أنْ يَتَلَقَّوْها بِالقَبُولِ؛ ويُنْطِقُوا بِها ألْسِنَتَهُمْ؛ ولَمْ يَجْتَلُوا ما شاهَدُوا مِنَ المُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ عَلى يَدَيْ رَسُولِ (p-52) اللَّهِ ﷺ؛ ولَمْ يَنْظُرُوا إلى آياتِ التَّوْحِيدِ المَنصُوبَةِ في الآفاقِ والأنْفُسِ بِعَيْنِ التَّدَبُّرِ؛ وأصَرُّوا عَلى ذَلِكَ؛ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُمُ احْتِمالُ الِارْعِواءِ عَنْهُ؛ صارُوا كَفاقِدِي تِلْكَ المَشاعِرِ بِالكُلِّيَّةِ؛ وهَذا عِنْدَ مُفْلِقِي سَحَرَةِ البَيانِ مِن بابِ التَّمْثِيلِ البَلِيغِ المُؤَسَّسِ عَلى تَناسِي التَّشْبِيهِ؛ كَما في قَوْلِ مَن قالَ: ؎ ويَصْعَدُ حَتّى يَظُنَّ الجَهُولُ ∗∗∗ بِأنَّ لَهُ حاجَةً في السَّماءْ لِما أنَّ المُقَدَّرَ في النَّظْمِ في حُكْمِ المَلْفُوظِ؛ لا مِن قَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ الَّتِي يُطْوى فِيها ذِكْرُ المُسْتَعارِ لَهُ بِالكُلِّيَّةِ؛ حَتّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ قَرِينَةٌ لِحَمْلٍ عَلى المَعْنى الحَقِيقِيِّ؛ كَما في قَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎ لَدى أسَدٍ شاكِي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ∗∗∗ لَهُ لِبَدٌ أظْفارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ ﴿فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾: الفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها؛ أيْ: هم - بِسَبَبِ اتِّصافِهِمْ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ - لا يَعُودُونَ إلى الهُدى الَّذِي تَرَكُوهُ وضَيَّعُوهُ؛ أوْ عَنِ الضَّلالَةِ الَّتِي أخَذُوها؛ والآيَةُ نَتِيجَةٌ لِلتَّمْثِيلِ؛ مُفِيدَةٌ لِزِيادَةِ تَهْوِيلٍ وتَفْظِيعٍ؛ فَإنَّ قُصارى أمْرِ التَّمْثِيلِ بَقاؤُهم في ظُلُماتٍ هائِلَةٍ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَشْعَرَيِ السَّمْعِ والنُّطْقِ؛ ولِاخْتِلالِ مَشْعَرِ الإبْصارِ؛ وقِيلَ: الضَّمِيرُ المُقَدَّرُ؛ وما بَعْدَهُ لِلْمَوْصُولِ؛ بِاعْتِبارِ المَعْنى كالضَّمائِرِ المُتَقَدِّمَةِ؛ فالآيَةُ الكَرِيمَةُ تَتِمَّةٌ لِلتَّمْثِيلِ؛ وتَكْمِيلٌ لَهُ؛ بِأنَّ ما أصابَهم لَيْسَ مُجَرَّدَ انْطِفاءِ نارِهِمْ؛ وبَقائِهِمْ في ظُلُماتٍ كَثِيفَةٍ هائِلَةٍ؛ مَعَ بَقاءِ حاسَّةِ البَصَرِ بِحالِها؛ بَلِ اخْتَلَّتْ مَشاعِرُهم جَمِيعًا؛ واتَّصَفُوا بِتِلْكَ الصِّفاتِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ؛ أوِ الحَقِيقَةِ؛ فَبَقُوا جامِدِينَ في مَكاناتِهِمْ لا يَرْجِعُونَ؛ ولا يَدْرُونَ أيَتَقَدَّمُونَ أمْ يَتَأخَّرُونَ؛ وكَيْفَ يَرْجِعُونَ إلى ما ابْتَدَؤُوا مِنهُ. والعُدُولُ إلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ تِلْكَ الحالَةِ فِيهِمْ. وقُرِئَ: "صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا"؛ إمّا عَلى الذَّمِّ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿حَمّالَةَ الحَطَبِ﴾؛ والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُمُ المُنافِقُونَ؛ أوِ المُسْتَوْقِدُونَ؛ وإمّا عَلى الحالِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في "تَرَكَهُمْ"؛ أوِ المَرْفُوعِ في "لا يُبْصِرُونَ"؛ وإمّا عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "تَرَكَهُمْ"؛ فالضَّمِيرانِ لِلْمُسْتَوْقِدِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب