الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ اعْلَمْ أنّا قَبْلَ الخَوْضِ في تَفْسِيرِ ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ نَتَكَلَّمُ في شَيْئَيْنِ: أحَدُها: أنَّ المَقْصُودَ مِن ضَرْبِ الأمْثالِ أنَّها تُؤَثِّرُ في القُلُوبِ ما لا يُؤَثِّرُهُ وصْفُ الشَّيْءِ في نَفْسِهِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الغَرَضَ مِنَ المَثَلِ تَشْبِيهُ الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائِبِ بِالشّاهِدِ، فَيَتَأكَّدُ الوُقُوفُ عَلى ماهِيَّتِهِ، ويَصِيرُ الحِسُّ مُطابِقًا لِلْعَقْلِ وذَلِكَ في نِهايَةِ الإيضاحِ، ألا تَرى أنَّ التَّرْغِيبَ إذا وقَعَ في الإيمانِ مُجَرَّدًا عَنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُ لَمْ يَتَأكَّدْ وُقُوعُهُ في القَلْبِ كَما يَتَأكَّدُ وُقُوعُهُ إذا مُثِّلَ بِالنُّورِ، وإذا زَهِدَ في الكُفْرِ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَمْ يَتَأكَّدْ قُبْحُهُ في العُقُولِ كَما يَتَأكَّدُ إذا مُثِّلَ بِالظُّلْمَةِ، وإذا أخْبَرَ بِضَعْفِ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وضَرَبَ مَثَلَهُ بِنَسْجِ العَنْكَبُوتِ كانَ ذَلِكَ أبْلَغَ في تَقْرِيرِ صُورَتِهِ مِنَ الإخْبارِ بِضَعْفِهِ مُجَرَّدًا، ولِهَذا أكْثَرَ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ المُبِينِ وفي سائِرِ كُتُبِهِ أمْثالَهُ، قالَ تَعالى: ﴿وتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٤٣] ومِن سُوَرِ الإنْجِيلِ سُورَةُ الأمْثالِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: المَثَلُ في أصْلِ كَلامِهِمْ بِمَعْنى المِثْلِ وهو النَّظِيرُ، ويُقالُ مَثَلٌ ومِثْلٌ ومَثِيلٌ كَشَبَهٍ وشِبْهٍ وشَبِيهٍ، ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السّائِرِ المُمَثَّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ: مَثَلٌ، وشَرْطُهُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا فِيهِ غَرابَةٌ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ. (p-٦٧)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ صِفاتِ المُنافِقِينَ عَقَّبَها بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ زِيادَةً في الكَشْفِ والبَيانِ. أحَدُهُما: هَذا المَثَلُ وفِيهِ إشْكالاتٌ. أحَدُها: أنْ يُقالَ: ما وجْهُ التَّمْثِيلِ بِمَن أُعْطِيَ نُورًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ النُّورُ مِنهُ مَعَ أنَّ المُنافِقَ لَيْسَ لَهُ نُورٌ؟ . وثانِيها: أنْ يُقالَ: إنَّ مَنِ اسْتَوْقَدَ نارًا فَأضاءَتْ قَلِيلًا فَقَدِ انْتَفَعَ بِها وبِنُورِها ثُمَّ حُرِمَ، فَأمّا المُنافِقُونَ فَلا انْتِفاعَ لَهم ألْبَتَّةَ بِالإيمانِ فَما وجْهُ التَّمْثِيلِ ؟ . وثالِثُها: أنَّ مُسْتَوْقِدَ النّارِ قَدِ اكْتَسَبَ لِنَفْسِهِ النُّورَ، واللَّهُ تَعالى ذَهَبَ بِنُورِهِ وتَرَكَهُ في الظُّلُماتِ، والمُنافِقُ لَمْ يَكْتَسِبْ خَيْرًا وما حَصَلَ لَهُ مِنَ الخَيْبَةِ والحَيْرَةِ فَقَدْ أتى فِيهِ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ، فَما وجْهُ التَّشْبِيهِ ؟ . والجَوابُ: أنَّ العُلَماءَ ذَكَرُوا في كَيْفِيَّةِ التَّشْبِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ السُّدِّيُّ: إنَّ ناسًا دَخَلُوا في الإسْلامِ عِنْدَ وُصُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى المَدِينَةِ ثُمَّ إنَّهم نافَقُوا، والتَّشْبِيهُ هَهُنا في نِهايَةِ الصِّحَّةِ؛ لِأنَّهم بِإيمانِهِمْ أوَّلًا اكْتَسَبُوا نُورًا ثُمَّ بِنِفاقِهِمْ ثانِيًا أبْطَلُوا ذَلِكَ النُّورَ ووَقَعُوا في حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإنَّهُ لا حَيْرَةَ أعْظَمُ مِن حَيْرَةِ الدِّينِ؛ لِأنَّ المُتَحَيِّرَ في طَرِيقِهِ لِأجْلِ الظُّلْمَةِ لا يَخْسَرُ إلّا القَلِيلَ مِنَ الدُّنْيا، وأمّا المُتَحَيِّرُ في الدِّينِ فَإنَّهُ يَخْسَرُ نَفْسَهُ في الآخِرَةِ أبَدَ الآبِدِينَ. وثانِيها: إنْ لَمْ يَصِحَّ ما قالَهُ السُّدِّيُّ بَلْ كانُوا مُنافِقِينَ أبَدًا مِن أوَّلِ أمْرِهِمْ فَهَهُنا تَأْوِيلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو أنَّهم لَمّا أظْهَرُوا الإسْلامَ فَقَدْ ظَفِرُوا بِحَقْنِ دِمائِهِمْ وسَلامَةِ أمْوالِهِمْ عَنِ الغَنِيمَةِ وأوْلادِهِمْ عَنِ السَّبْيِ وظَفِرُوا بِغَنائِمِ الجِهادِ وسائِرِ أحْكامِ المُسْلِمِينَ، وعُدَّ ذَلِكَ نُورًا مِن أنْوارِ الإيمانِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ بِالإضافَةِ إلى العَذابِ الدّائِمِ قَلِيلًا قَدَّرْتَ شَبَهَهم بِمُسْتَوْقِدِ النّارِ الَّذِي انْتَفَعَ بِضَوْئِها قَلِيلًا ثُمَّ سُلِبَ ذَلِكَ فَدامَتْ حَيْرَتُهُ وحَسْرَتُهُ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي جاءَتْهُ في أعْقابِ النُّورِ، فَكانَ يَسِيرُ انْتِفاعُهم في الدُّنْيا يُشْبِهُ النُّورَ، وعَظِيمُ ضَرَرِهِمْ في الآخِرَةِ يُشْبِهُ الظُّلْمَةَ. وثالِثُها: أنْ نَقُولَ: لَيْسَ وجْهُ التَّشْبِيهِ أنَّ لِلْمُنافِقِ نُورًا، بَلْ وجْهُ التَّشْبِيهِ بِهَذا المُسْتَوْقِدِ أنَّهُ لَمّا زالَ النُّورُ عَنْهُ تَحَيَّرَ، والتَّحَيُّرُ فِيمَن كانَ في نُورٍ ثُمَّ زالَ عَنْهُ أشَدُّ مِن تَحَيُّرِ سالِكِ الطَّرِيقِ في ظُلْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، لَكِنَّهُ تَعالى ذَكَرَ النُّورَ في مُسْتَوْقِدِ النّارِ لِكَيْ يَصِحَّ أنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ، لا أنَّ وجْهَ التَّشْبِيهِ مَجْمَعُ النُّورِ والظُّلْمَةِ. ورابِعُها: أنَّ الَّذِي أظْهَرُوهُ يُوهِمُ أنَّهُ مِن بابِ النُّورِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وذَهابُ النُّورِ هو ما يُظْهِرُهُ لِأصْحابِهِ مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ، ومَن قالَ بِهَذا قالَ إنَّ المَثَلَ إنَّما عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكُمْ﴾ فالنّارُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ: ”آمَنّا“ وذَهابُهُ مَثَلٌ لِقَوْلِهِمْ لِلْكُفّارِ: ”إنّا مَعَكم“ فَإنْ قِيلَ: وكَيْفَ صارَ ما يُظْهِرُهُ المُنافِقُ مِن كَلِمَةِ الإيمانِ مَثَلًا بِالنُّورِ وهو حِينَ تَكَلَّمَ بِها أضْمَرَ خِلافَها ؟ قُلْنا إنَّهُ لَوْ ضَمَّ إلى القَوْلِ اعْتِقادًا لَهُ وعَمَلًا بِهِ لَأتَمَّ النُّورَ لِنَفْسِهِ، ولَكِنَّهُ لَمّا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَتِمَّ نُورُهُ، وإنَّما سَمّى مُجَرَّدَ ذَلِكَ القَوْلِ نُورًا؛ لِأنَّهُ قَوْلٌ حَقٌّ في نَفْسِهِ. وخامِسُها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِيقادُ النّارِ عِبارَةً عَنْ إظْهارِ المُنافِقِ كَلِمَةَ الإيمانِ وإنَّما سَمّاهُ نُورًا لِأنَّهُ يَتَزَيَّنُ بِهِ ظاهِرُهُ فِيهِمْ ويَصِيرُ مَمْدُوحًا بِسَبَبِهِ فِيما بَيْنَهم، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُذْهِبُ ذَلِكَ النُّورَ بِهَتْكِ سِتْرِ المُنافِقِ بِتَعْرِيفِ نَبِيِّهِ والمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةَ أمْرِهِ فَيَظْهَرُ لَهُ اسْمُ النِّفاقِ بَدَلَ ما يَظْهَرُ مِنهُ مِنَ اسْمِ الإيمانِ فَبَقِيَ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُ، إذِ النُّورُ الَّذِي كانَ لَهُ قَبْلُ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ أمْرَهُ فَزالَ. وسادِسُها: أنَّهم لَمّا وُصِفُوا بِأنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى عَقَّبَ ذَلِكَ بِهَذا التَّمْثِيلِ لِيُمَثِّلَ هُداهُمُ الَّذِي باعُوهُ بِالنّارِ المُضِيئَةِ ما حَوْلَ المُسْتَوْقِدِ، والضَّلالَةَ الَّتِي اشْتَرَوْها وطُبِعَ بِها عَلى قُلُوبِهِمْ بِذَهابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ وتَرْكِهِ إيّاهم في الظُّلُماتِ. وسابِعُها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُسْتَوْقِدُ هَهُنا مُسْتَوْقِدَ نارٍ لا يَرْضاها اللَّهُ تَعالى، والغَرَضُ تَشْبِيهُ الفِتْنَةِ الَّتِي حاوَلَ المُنافِقُونَ إثارَتَها بِهَذِهِ النّارِ، فَإنَّ الفِتْنَةَ الَّتِي كانُوا يُثِيرُونَها كانَتْ قَلِيلَةَ البَقاءِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما أوْقَدُوا نارًا لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللَّهُ﴾ [المائِدَةِ: ٦٤] . وثامِنُها: قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ (p-٦٨)وانْتِظارِهِمْ لِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ واسْتِفْتاحِهِمْ بِهِ عَلى مُشْرِكِي العَرَبِ، فَلَمّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ فَكانَ انْتِظارُهم لِمُحَمَّدٍ ﷺ كَإيقادِ النّارِ، وكُفْرُهم بِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَزَوالِ ذَلِكَ النُّورِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: فَأمّا تَشْبِيهُ الإيمانِ بِالنُّورِ والكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ فَهو في كِتابِ اللَّهِ تَعالى كَثِيرٌ، والوَجْهُ فِيهِ أنَّ النُّورَ قَدْ بَلَغَ النِّهايَةَ في كَوْنِهِ هادِيًا إلى المَحَجَّةِ وإلى طَرِيقِ المَنفَعَةِ وإزالَةِ الحَيْرَةِ، وهَذا حالُ الإيمانِ في بابِ الدِّينِ، فَشَبَّهَ ما هو النِّهايَةُ في إزالَةِ الحَيْرَةِ ووِجْدانِ المَنفَعَةِ في بابِ الدِّينِ بِما هو الغايَةُ في بابِ الدُّنْيا، وكَذَلِكَ القَوْلُ في تَشْبِيهِ الكُفْرِ بِالظُّلْمَةِ؛ لِأنَّ الضّالَّ عَنِ الطَّرِيقِ المُحْتاجِ إلى سُلُوكِهِ لا يَرِدُ عَلَيْهِ مِن أسْبابِ الحِرْمانِ والتَّحَيُّرِ أعْظَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ، ولا شَيْءَ كَذَلِكَ في بابِ الدِّينِ أعْظَمُ مِنَ الكُفْرِ، فَشَبَّهَ تَعالى أحَدَهُما بِالآخَرِ، فَهَذا هو الكَلامُ فِيما هو المَقْصُودُ الكُلِّيُّ مِن هَذِهِ الآيَةِ، بَقِيَتْ هَهُنا أسْئِلَةٌ وأجْوِبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعَلُّقِ بِالتَّفاصِيلِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ مَثَلِهِمْ بِمَثَلِ المُسْتَوْقِدِ، فَما مَثَلُ المُنافِقِينَ ومَثَلُ المُسْتَوْقِدِ حَتّى شَبَّهَ أحَدَهُما بِالآخَرِ ؟ . والجَوابُ: اسْتُعِيرَ المَثَلُ لِلْقِصَّةِ أوْ لِلصِّفَةِ إذا كانَ لَها شَأْنٌ وفِيها غَرابَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: قِصَّتُهُمُ العَجِيبَةُ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٥] أيْ فِيما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنَ العَجائِبِ قِصَّةُ الجَنَّةِ العَجِيبَةِ ﴿ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى﴾ [النَّحْلِ: ٦٠] أيِ الوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ العَظَمَةِ والجَلالَةِ، ﴿مَثَلُهم في التَّوْراةِ﴾ [الفَتْحِ: ٢٩] أيْ وصْفُهم وشَأْنُهُمُ المُتَعَجَّبُ مِنهُ، ولِما في المَثَلِ مِن مَعْنى الغَرابَةِ قالُوا: فُلانٌ مَثَلُهُ في الخَيْرِ والشَّرِّ، فاشْتَقُّوا مِنهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ مُثِّلَتِ الجَماعَةُ بِالواحِدِ ؟ . والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ يَجُوزُ في اللُّغَةِ وضْعُ ”الَّذِي“ مَوْضِعَ ”الَّذِينَ“ كَقَوْلِهِ: ﴿وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ [التَّوْبَةِ: ٦٩] وإنَّما جازَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ”الَّذِي“ لِكَوْنِهِ وصْلَةً إلى وصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ مُجْمَلَةٍ، وكَثْرَةِ وُقُوعِهِ في كَلامِهِمْ، ولِكَوْنِهِ مُسْتَطالًا بِصِلَتِهِ فَهو حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، ولِذَلِكَ أعَلُّوهُ بِالحَذْفِ فَحَذَفُوا ياءَهُ ثُمَّ كَسَرْتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا فِيهِ عَلى اللّامِ وحْدَها في أسْماءِ الفاعِلِينَ والمَفْعُولِينَ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ المُرادُ جِنْسَ المُسْتَوْقِدِينَ أوْ أُرِيدَ الجَمْعُ أوِ الفَوْجُ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا. وثالِثُها: وهو الأقْوى: أنَّ المُنافِقِينَ وذَواتِهِمْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِذاتِ المُسْتَوْقِدِ حَتّى يَلْزَمَ مِنهُ تَشْبِيهُ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، وإنَّما شُبِّهَتْ قِصَّتُهم بِقِصَّةِ المُسْتَوْقِدِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ﴾ [الجُمُعَةِ: ٥] وقَوْلُهُ: ﴿يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٢٠] . ورابِعُها: المَعْنى: ومَثَلُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم كَقَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ [غافِرٍ: ٦٧] أيْ يُخْرِجُ كُلَّ واحِدٍ مِنكم. السُّؤالُ الثّالِثُ: ما الوُقُودُ ؟ وما النّارُ ؟ وما الإضاءَةُ ؟ وما النُّورُ ؟ ما الظُّلْمَةُ ؟ . الجَوابُ: أمّا وُقُودُ النّارِ فَهو سُطُوعُها وارْتِفاعُ لَهَبِها، وأمّا النّارُ فَهو جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ، حارٌّ مُحْرِقٌ، واشْتِقاقُها مِن ”نارَ يَنُورُ“ إذا نَفَرَ؛ لِأنَّ فِيها حَرَكَةً واضْطِرابًا، والنُّورُ مُشْتَقٌّ مِنها وهو ضَوْؤُها، والمَنارُ العَلامَةُ، والمَنارَةُ هي الشَّيْءُ الَّذِي يُؤَذَّنُ عَلَيْهِ. ويُقالُ أيْضًا لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ السِّراجُ عَلَيْهِ، ومِنهُ النُّورَةُ لِأنَّها تُطَهِّرُ البَدَنَ والإضاءَةُ فَرْطُ الإنارَةِ، ومِصْداقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا﴾ [يُونُسَ: ٥] و”أضاءَ“ يَرِدُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا، تَقُولُ: أضاءَ القَمَرُ الظُّلْمَةَ، وأضاءَ القَمَرُ بِمَعْنى اسْتَضاءَ، قالَ الشّاعِرُ:(p-٦٩) ؎أضاءَتْ لَهم أحْسابُهم ووُجُوهُهم دُجى اللَّيْلِ حَتّى نَظَمَ الجِزْعَ ثاقِبُهُ وأمّا ما حَوْلَ الشَّيْءِ فَهو الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ، تَقُولُ دارَ حَوْلَهُ وحَوالَيْهِ، والحَوْلُ السَّنَةُ لِأنَّها تَحُولُ، وحالَ عَنِ العَهْدِ أيْ تَغَيَّرَ، وحالَ لَوْنُهُ أيْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، والحَوالَةُ انْقِلابُ الحَقِّ مِن شَخْصٍ إلى شَخْصٍ، والمُحاوَلَةُ طَلَبُ الفِعْلِ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ طالِبًا لَهُ، والحَوَلُ انْقِلابُ العَيْنِ، والحِوَلُ الِانْقِلابُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾ [الكَهْفِ: ١٠٨] والظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ عَمّا مِن شَأْنِهِ أنْ يَسْتَنِيرَ، والظُّلْمَةُ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ النُّقْصانِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [الكَهْفِ: ٣٣] أيْ لَمْ تَنْقُصْ وفي المَثَلِ: مَن أشْبَهَ أباهُ فَما ظَلَمَ، أيْ فَما نَقَصَ حَقَّ الشَّبَهِ، والظُّلْمُ الثَّلْجُ؛ لِأنَّهُ يَنْتَقِصُ سَرِيعًا، والظُّلْمُ ماءُ السِّنِّ وطَراوَتُهُ وبَياضُهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالثَّلْجِ. السُّؤالُ الرّابِعُ: أضاءَتْ مُتَعَدِّيَةٌ أمْ لا ؟ الجَوابُ: كِلاهُما جائِزٌ، يُقالُ: أضاءَتِ النّارُ بِنَفْسِها وأضاءَتْ غَيْرَها، وكَذَلِكَ أظْلَمَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ وأظْلَمَ غَيْرَهُ أيْ صَيَّرَهُ مُظْلِمًا، وهَهُنا الأقْرَبُ أنَّها مُتَعَدِّيَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ مُسْتَنِدَةً إلى ما حَوْلَهُ والتَّأْنِيثُ لِلْحَمْلِ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّ ما حَوْلَ المُسْتَوْقِدِ أماكِنُ وأشْياءُ، ويُعَضِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ ”ضاءَ“ . السُّؤالُ الخامِسُ: هَلّا قِيلَ ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ؟ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أضاءَتْ﴾ ؟ الجَوابُ: ذِكْرُ النُّورِ أبْلَغُ؛ لِأنَّ الضَّوْءَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الزِّيادَةِ، فَلَوْ قِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ لَأوْهَمَ ذَهابَ الكَمالِ وبَقاءَ ما يُسَمّى نُورًا، والغَرَضُ إزالَةُ النُّورِ عَنْهم بِالكُلِّيَّةِ، ألا تَرى كَيْفَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ: ﴿وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ والظُّلْمَةُ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ، وكَيْفَ جَمَعَها؟ وكَيْفَ نَكَّرَها؟ وكَيْفَ أتْبَعَها ما يَدُلُّ عَلى أنَّها ظُلْمَةٌ خالِصَةٌ وهو قَوْلُهُ: ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ ؟ . السُّؤالُ السّادِسُ: لِمَ قالَ: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ أذْهَبَ اللَّهُ نُورَهم ؟ والجَوابُ: الفَرْقُ بَيْنَ أذْهَبَ وذَهَبَ بِهِ أنَّ مَعْنى أذْهَبَهُ أزالَهُ وجَعَلَهُ ذاهِبًا، ويُقالُ: ذَهَبَ بِهِ إذا اسْتَصْحَبَهُ، ومَعْنى بِهِ مَعَهُ، وذَهَبَ السُّلْطانُ بِمالِهِ أخَذَهُ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ [يُوسُفَ: ١٥] ﴿إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِما خَلَقَ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٩١] والمَعْنى أخَذَ اللَّهُ نُورَهم وأمْسَكَهُ ﴿وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ [فاطِرٍ: ٢] فَهو أبْلَغُ مِنَ الإذْهابِ وقَرَأ اليَمانِيُّ ”أذْهَبَ اللَّهُ نُورَهم“ . السُّؤالُ السّابِعُ: ما مَعْنى [وتَرَكَهُمْ] ؟ والجَوابُ: تَرَكَ إذا عُلِّقَ بِواحِدٍ فَهو بِمَعْنى طَرَحَ، وإذا عُلِّقَ بِشَيْئَيْنِ كانَ بِمَعْنى صَيَّرَ، فَيَجْرِي مَجْرى أفْعالِ القُلُوبِ ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ﴾ أصْلُهُ هم في ظُلُماتٍ ثُمَّ دَخَلَ ”تَرَكَ“ فَنَصَبَتِ الجُزْأيْنِ. السُّؤالُ الثّامِنُ: لِمَ حُذِفَ أحَدُ المَفْعُولَيْنِ مِن لا يُبْصِرُونَ ؟ الجَوابُ: أنَّهُ مِن قَبِيلِ المَتْرُوكِ الَّذِي لا يُلْتَفَتُ إلى إخْطارِهِ بِالبالِ، لا مِن قَبِيلِ المُقَدَّرِ المَنوِيِّ، كَأنَّ الفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ أصْلًا. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ (p-٧٠)اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا كانَ المَعْلُومُ مِن حالِهِمْ أنَّهم كانُوا يَسْمَعُونَ ويَنْطِقُونَ ويُبْصِرُونَ امْتَنَعَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلى الحَقِيقَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا تَشْبِيهُ حالِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِالعِنادِ، وإعْراضِهِمْ عَمّا يَطْرُقُ سَمْعَهم مِنَ القُرْآنِ، وما يُظْهِرُهُ الرَّسُولُ مِنَ الأدِلَّةِ والآياتِ بِمَن هو أصَمُّ في الحَقِيقَةِ فَلا يَسْمَعُ، وإذا لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الجَوابِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ الأبْكَمِ، وإذا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالأدِلَّةِ ولَمْ يُبْصِرْ طَرِيقَ الرُّشْدِ فَهو بِمَنزِلَةِ الأعْمى، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهم لا يَرْجِعُونَ عَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهو التَّمَسُّكُ بِالنِّفاقِ الَّذِي لِأجْلِ تَمَسُّكِهِمْ بِهِ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الصِّفاتِ فَصارَ ذَلِكَ دَلالَةً عَلى أنَّهم يَسْتَمِرُّونَ عَلى نِفاقِهِمْ أبَدًا. وثانِيها: أنَّهم لا يَعُودُونَ إلى الهُدى بَعْدَ أنْ باعُوهُ، وعَنِ الضَّلالَةِ بَعْدَ أنِ اشْتَرَوْها. وثالِثُها: أرادَ أنَّهم بِمَنزِلَةِ المُتَحَيِّرِينَ الَّذِينَ بَقُوا خامِدِينَ في مَكانِهِمْ لا يَبْرَحُونَ، ولا يَدْرُونَ أيَتَقَدَّمُونَ أمْ يَتَأخَّرُونَ؟ وكَيْفَ يَرْجِعُونَ إلى حَيْثُ ابْتَدَءُوا مِنهُ ؟ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب