الباحث القرآني

(p-٧٤٧)﴿أمْ يَقُولُونَ إنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطَ كانُوا هُودًا أوْ نَصارى قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ أمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنى بَلْ وهي إضْرابٌ لِلِانْتِقالِ مِن غَرَضٍ إلى غَرَضٍ وفِيها تَقْدِيرُ اسْتِفْهامٍ وهو اسْتِفْهامٌ لِلتَّوْبِيخِ والإنْكارِ وذَلِكَ لِمَبْلَغِهِمْ مِنَ الجَهْلِ بِتارِيخِ شَرائِعِهِمْ زَعَمُوا أنَّ إبْراهِيمَ وأبْناءَهُ كانُوا عَلى اليَهُودِيَّةِ أوْ عَلى النَّصْرانِيَّةِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى قُلْ ﴿أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ ولِدَلالَةِ آياتٍ أُخْرى عَلَيْهِ مِثْلَ ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا﴾ [آل عمران: ٦٧] ومِثْلَ قَوْلِهِ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّونَ في إبْراهِيمَ وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ إلّا مِن بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ٦٥] والأُمَّةُ إذا انْغَمَسَتْ في الجَهالَةِ وصارَتْ عَقائِدُها غُرُورًا ومِن دُونِ تَدَبُّرٍ اعْتَقَدَتْ ما لا يَنْتَظِمُ مَعَ الدَّلِيلِ واجْتَمَعَتْ في عَقائِدِها المُتَناقِضاتُ، وقَدْ «وجَدَ النَّبِيءُ ﷺ يَوْمَ الفَتْحِ في الكَعْبَةِ صُورَةَ إبْراهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالأزْلامِ في الكَعْبَةِ فَتَلا قَوْلَهُ تَعالى ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ﴾ [آل عمران: ٦٧] إلى قَوْلِهِ ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٣٥] وقالَ واللَّهِ إنِ اسْتَقْسَمَ بِها قَطُّ»، وقالَ تَعالى في شَأْنِ أهْلِ الكِتابِ ﴿وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ إلّا مِن بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ٦٥] فَرَماهم بِفَقْدِ التَّعَقُّلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِياءِ الغائِبِ وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِتاءِ الخِطابِ عَلى أنَّ أُمْ مُتَّصِلَةً مُعادِلَةً لِقَوْلِهِ ﴿أتُحاجُّونَنا في اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٣٩] فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ أمْرًا ثانِيًا لاحِقًا لِقَوْلِهِ ﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا﴾ [البقرة: ١٣٩] ولَيْسَ هَذا المَحْمَلُ بِمُتَعَيِّنٍ لِأنَّ في اعْتِبارِ الِالتِفاتِ مَناصًّا مِن ذَلِكَ. ومَعْنى ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ التَّقْدِيرُ، وقَدْ أعْلَمَنا اللَّهُ أنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا وهَذا كَقَوْلِهِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّونَ في إبْراهِيمَ وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ إلّا مِن بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ٦٥] وقَدِ اسْتُفِيدَ مِنَ التَّقْرِيرِ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ أنَّهُ أعْلَمَهم بِأمْرٍ جَهِلَتْهُ عامَّتُهم وكَتَمَتْهُ خاصَّتُهم ولِذَلِكَ قالَ ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ يُشِيرُ إلى خاصَّةِ الأحْبارِ والرُّهْبانِ الَّذِينَ تَرَكُوا عامَّةَ أُمَّتِهِمْ مُسْتَرْسِلِينَ عَلى عَقائِدِ الخَطَأِ والغُرُورِ والضَّلالَةِ وهم ساكِتُونَ لا يُغَيِّرُونَ عَلَيْهِمْ إرْضاءً لَهم واسْتِجْلابًا لِمَحَبَّتِهِمْ وذَلِكَ أمُرُّ إذا طالَ عَلى الأُمَّةِ تَعَوَّدَتْهُ (p-٧٤٨)وظَنَّتْ جَهالَتُها عَلِمًا فَلَمْ يَنْجَحْ فِيها إصْلاحٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِأنَّها تَرى المُصْلِحِينَ قَدْ أتَوْا بِما لَمْ يَأْتِ بِهِ الأوَّلُونَ فَقالُوا إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * * * ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ هَذا مِن جُمْلَةِ المَقُولِ المَحْكِيُّ بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ أمَرَ النَّبِيءَ ﷺ بِأنْ يَقُولَ لَهم ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَهم بِالعَهْدِ الَّذِي في كُتُبِهِمْ عَسى أنْ يُراجِعُوا أنْفُسَهم ويُعِيدُوا النَّظَرَ إنْ كانُوا مُتَرَدِّدِينَ أوْ أنْ يَفِيئُوا إلى الحَقِّ إنْ كانُوا مُتَعَمِّدِينَ المُكابَرَةَ. و”مِن“ في قَوْلِهِ مِنَ اللَّهِ ابْتِدائِيَّةٌ أيْ شَهادَةٌ عِنْدَهُ بَلَغَتْ مِن جانِبِ اللَّهِ عَلى لِسانِ رُسُلِهِ. والواوُ عاطِفَةُ جُمْلَةِ ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عَلى جُمْلَةٍ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ وهَذا الِاسْتِفْهامُ التَّقْرِيرِيُّ كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ اغْتِرارِ المُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِمْ إنَّ إبْراهِيمَ وأبْناءَهُ كانُوا هُودًا أوْ نَصارى ولَيْسَ هَذا احْتِجاجًا عَلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ بَقِيَّةُ مَقُولِ القَوْلِ وهو تَهْدِيدٌ لِأنَّ القادِرَ إذا لَمْ يَكُنْ غافِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مانِعٌ مِنَ العَمَلِ بِمُقْتَضى عِلْمِهِ وقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظائِرُ هَذا في مَواضِعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب