الباحث القرآني
﴿أمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطَ كانُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ: أمْ تَقُولُونَ بِالتّاءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ. فَأمّا قِراءَةُ التّاءِ، فَتَحْتَمِلُ أمْ فِيهِ وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ فِيهِ أمْ مُتَّصِلَةً، فالِاسْتِفْهامُ عَنْ وُقُوعِ أحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ: المُحاجَّةُ في اللَّهِ، والِادِّعاءُ عَلى إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، أنَّهم كانُوا يَهُودًا ونَصارى، وهو اسْتِفْهامٌ صَحِبَهُ الإنْكارُ والتَّقْرِيعُ والتَّوْبِيخُ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ المُسْتَفْهِمِ عَنْهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ أمْ فِيهِ مُنْقَطِعَةً، فَتُقَدَّرُ بِبَلْ والهَمْزَةِ، التَّقْدِيرُ: بَلْ أتَقُولُونَ، فَأضْرَبَ عَنِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ، وانْتَقَلَ إلى الِاسْتِفْهامِ عَنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ اللّاحِقَةِ، عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ أيْضًا، أيْ أنَّ نِسْبَةَ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ لِإبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، بِشَهادَةِ القَوْلِ الصِّدْقِ الَّذِي أتى بِهِ الصّادِقُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا﴾ [آل عمران: ٦٧]، وبِشَهادَةِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ عَلى أنَّهم كانُوا عَلى التَّوْحِيدِ والحَنِيفِيَّةِ، وبِشَهادَةِ أنَّ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ لِمَنِ اقْتَفى طَرِيقَةَ عِيسى، وبِأنَّ ما يَدَّعُونَهُ مِن ذَلِكَ قَوْلٌ بِلا بُرْهانٍ، فَهو باطِلٌ. وأمّا قِراءَةُ الياءِ، فالظّاهِرُ أنَّ أمْ فِيها مُنْقَطِعَةٌ. وحَكى أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النُّحاةِ: أنَّها لَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: أتَقُومُ أمْ يَقُومُ عَمْرٌو ؟ فالمَعْنى: أيَكُونُ هَذا أمْ هَذا ؟ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا المِثالُ يَعْنِي: أتَقُومُ أمْ يَقُومُ عَمْرٌو ؟ غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لِأنَّ القائِلَ فِيهِ واحِدٌ، والمُخاطَبَ واحِدٌ، والقَوْلَ في الآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، والمُخاطَبَ اثْنانِ غَيْرانِ، وإنَّما يَتَّجِهُ مُعادَلَةُ أمْ لِلْألِفِ عَلى الحُكْمِ المَعْنَوِيِّ، كانَ مَعْنى قُلْ أتُحاجُّونَنا، أيُحاجُّونَ يا مُحَمَّدُ، أمْ يَقُولُونَ ؟ انْتَهى. ومَعْنى قَوْلِهِ: لِأنَّ القائِلَ فِيهِ واحِدٌ، يَعْنِي في المِثالِ الَّذِي هو: أيَقُومُ أمْ يَقُومُ عَمْرٌو ؟ فالنّاطِقُ بِهاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ هو واحِدٌ، وقَوْلُهُ: والمُخاطَبُ واحِدٌ، يَعْنِي الَّذِي خُوطِبَ بِهَذا الكَلامِ، والمُعادَلَةُ وقَعَتْ بَيْنَ قِيامِ المُواجَهِ بِالخِطابِ وبَيْنَ قِيامِ عَمْرٍو، وقَوْلُهُ.: والقَوْلُ في الآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، يَعْنِي أنَّ أتُحاجُّونَنا مِن قَوْلِ الرَّسُولِ، إذْ أُمِرَ أنْ يُخاطِبَهم بِذَلِكَ، وأتَقُولُونَ بِالتّاءِ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى. وقَوْلُهُ: والمُخاطَبُ اثْنانِ غَيْرانِ، أمّا الأوَّلُ فَقَوْلُهُ أتُحاجُّونَنا، وأمّا الثّانِي فَهو لِلرَّسُولِ وأُمَّتِهِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: أمْ يَقُولُونَ. وقالالزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيمَن قَرَأ بِالياءِ، لا تَكُونُ إلّا مُنْقَطِعَةً. انْتَهى. ويُمْكِنُ الِاتِّصالُ فِيها مَعَ قِراءَةِ التّاءِ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالتِفاتِ؛ إذْ صارَ فِيهِ خُرُوجٌ مِن خِطابٍ إلى غَيْبَةٍ، والضَّمِيرُ لِناسٍ مَخْصُوصِينَ. والأحْسَنُ أنْ تَكُونَ أمْ في القِراءَتَيْنِ مَعًا مُنْقَطِعَةً، وكَأنَّهُ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُحاجَّتَهم في اللَّهِ ونِسْبَةَ أنْبِيائِهِ لِلْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وقَدْ وقَعَ مِنهم ما أنْكَرَ عَلَيْهِمْ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّونَ في إبْراهِيمَ﴾ [آل عمران: ٦٥] الآياتِ. وإذا جَعَلْناها مُتَّصِلَةً، كانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَضَمِّنٍ وُقُوعَ الجُمْلَتَيْنِ، بَلْ إحْداهُما، وصارَ السُّؤالُ عَنْ تَعْيِينِ إحْداهُما، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ إذْ وقَعا مَعًا. والقَوْلُ في أوْ فَيَقُولُ: ﴿هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١]، قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] . وقَوْلُهُ: ﴿كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١٣٥]، وأنَّها لِلتَّفْضِيلِ، أيْ قالَتِ اليَهُودُ: هم يَهُودُ، وقالَتِ النَّصارى: هم نَصارى.
﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾: القَوْلُ في القِراآتِ في ”أأنْتُمْ“، كَهو في قَوْلِهِ: ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، وقَدْ تَوَسَّطَ هُنا المَسْئُولُ عَنْهُ، وهو أحْسَنُ مِن تَقَدُّمِهِ وتَأخُّرِهِ، إذْ يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ أنْ يَقُولَ: أأعْلَمُ أنْتُمْ أمِ اللَّهُ ؟ ويَجُوزُ: أأنْتُمْ أمِ اللَّهُ أعْلَمُ ؟ ولا مُشارَكَةَ بَيْنِهِمْ وبَيْنَ اللَّهِ في العِلْمِ حَتّى يَسْألَ: أهم أزْيَدُ عِلْمًا أمِ اللَّهُ ؟ ولَكِنَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ والِاسْتِهْزاءِ، وعَلى تَقْدِيرٍ أنْ يُظَنَّ بِهِمْ عِلْمٌ، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِ حَسّانَ:
؎فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ
وقَدْ عَلِمَ أنَّ الَّذِي هو خَيْرٌ كُلُّهُ، هو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأنَّ الَّذِي هو شَرُّ كُلُّهِ هو هاجِيهِ. وفي هَذا رَدٌّ عَلىاليَهُودِ والنَّصارى؛ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ أخْبَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا (p-٤١٥)ولا نَصْرانِيًّا ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧]، ولِأنَّ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ إنَّما حَدَثَتا بَعْدَ إبْراهِيمَ، ولِأنَّهُ أخْبَرَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ أنَّهم كانُوا مُسْلِمِينَ مُمَيَّزِينَ عَنِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ. وخَرَجَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَخْرَجَ ما يُتَرَدَّدُ فِيهِ؛ لِأنَّ أتْباعَ أحْبارِهِمْ رُبَّما تَوَهَّمُوا، أوْ ظَنُّوا أنَّ أُولَئِكَ كانُوا هُودًا أوْ نَصارى لِسَماعِهِمْ ذَلِكَ مِنهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أوْ لِأنَّ أحْبارَهم كانُوا يَعْلَمُونَ بُطْلانَ مَقالَتِهِمْ في إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، لَكِنَّهم كَتَمُوا ذَلِكَ ونَحَلُوهم إلى ما ذَكَرُوا، فَنَزَلُوا لِكَتْمِهِمْ ذَلِكَ مَنزِلَةَ مَن يَتَرَدَّدُ في الشَّيْءِ، ورَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ؛ لِأنَّ مَن خُوطِبَ بِهَذا الكَلامِ بادَرَ إلى أنْ يَقُولَ: اللَّهُ أعْلَمُ، فَكانَ ذَلِكَ أقْطَعَ لِلنِّزاعِ.
﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾: وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا عالِمِينَ بِأنَّ إبْراهِيمَ ومَن مَعَهُ كانُوا مُبايِنِينَ لِلْيَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، لَكِنَّهم كَتَمُوا ذَلِكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا الِاسْتِفْهامِ، وأنَّهُ يُرادُ بِهِ النَّفْيُ، فالمَعْنى: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في أفْعَلِ التَّفْضِيلِ الجائِي بَعْدَ مَنَ الِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٤]، والمَنفِيُّ عَنْهُمُ التَّفْضِيلُ في الكَتْمِ اليَهُودُ، وقِيلَ: المُنافِقُونَ تابَعُوا اليَهُودَ عَلى الكَتْمِ. والشَّهادَةُ هي أنَّ أنْبِياءَ اللَّهِ مَعْصُومُونَ مِنَ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ الباطِلَتَيْنِ، قالَهُ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، والرَّبِيعُ، أوْ ما في التَّوْراةِ مِن صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ونُبُوَّتِهِ، والأمْرِ بِتَصْدِيقِهِ، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ؛ أوِ الإسْلامِ، وهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ. والقَوْلُ الأوَّلُ أشْبَهُ بِسِياقِ الآيَةِ.
مِنَ اللَّهِ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ”مِن“ مُتَعَلِّقَةً بِلَفْظِ كَتَمَ، ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ كَتَمَ مِن عِبادِ اللَّهِ شَهادَةً عِنْدَهُ، ومَعْناهُ أنَّهُ ذَمَّهم عَلى مَنعِ أنْ يَصِلَ إلى عِبادِ اللَّهِ، وأنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِمْ شَهادَةَ الحَقِّ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ”مِن“ مُتَعَلِّقَةً بِالعامِلِ في الظَّرْفِ، إذِ الظَّرْفُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، والتَّقْدِيرُ: شَهادَةٌ كائِنَةٌ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، أيِ اللَّهُ تَعالى قَدْ أشْهَدَهُ تِلْكَ الشَّهادَةَ، وحَصَلَتْ عِنْدَهُ مِن قِبَلِ اللَّهِ واسْتَوْدَعَهُ إيّاها، وهو قَوْلُهُ ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] الآيَةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في هَذا الوَجْهِ: فَمِن عَلى هَذا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِنْدَهُ، والتَّحْرِيرُ ما ذَكَرْناهُ أنَّ العامِلَ في الظَّرْفِ هو الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الجارُّ والمَجْرُورُ، ونِسْبَةُ التَّعَلُّقِ إلى الظَّرْفِ مَجازٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ كَتَمَ شَهادَةَ اللَّهِ الَّتِي عِنْدَهُ أنَّهُ شَهِدَ بِها، وهي شَهادَتُهُ لِإبْراهِيمَ بِالحَنِيفِيَّةِ. ومِن في قَوْلِهِ: شَهادَةً مِنَ اللَّهِ، مِثْلُها في قَوْلِكَ: هَذِهِ شَهادَةٌ مِنِّي لِفُلانٍ، إذا شَهِدْتَ لَهُ، ومِثْلُهُ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١] . انْتَهى. فَظاهِرُ كَلامِهِ: أنَّ مِنَ اللَّهِ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهادَةٍ، أيْ كائِنَةٌ مِنَ اللَّهِ، وهو وجْهٌ ثالِثٌ في العامِلِ في مِن. والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما قَبْلَهُ: أنَّ العامِلَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ في الظَّرْفِ والجارِّ والمَجْرُورِ واحِدٌ، وفي هَذا الوَجْهِ اثْنانِ، وكانَ جَعْلُ مِن مَعْمُولًا لِلْعامِلِ في الظَّرْفِ، أوْ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهادَةٍ - أحْسَنَ مِن تَعَلُّقِ مِن بِكَتَمَ؛ لِأنَّهُ أبْلَغُ في الأظْلَمِيَّةِ أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ قَدِ اسْتَوْدَعَها اللَّهُ إيّاهُ فَكَتَمَها. وعَلى التَّعَلُّقِ بِكَتَمَ، تَكُونُ الأظْلَمِيَّةُ حاصِلَةً لِمَن كَتَمَ مِن عِبادِ اللَّهِ شَهادَةً مُطْلَقَةً وأخْفاها عَنْهم، ولا يَصِحُّ إذْ ذاكَ الأظْلَمِيَّةُ؛ لِأنَّ فَوْقَ هَذِهِ الشَّهادَةِ ما تَكُونُ الأظْلَمِيَّةُ فِيهِ أكْثَرَ، وهو كَتْمُ شَهادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إيّاها، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنا أنْ لا تَتَعَلَّقَ مِن بِكَتَمَ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ أهْلَ الكِتابِ لا أحَدَ أظْلَمُ مِنهم؛ لِأنَّهم كَتَمُوا هَذِهِ الشَّهادَةَ وهم عالِمُونَ بِها. والثّانِي: أنّا لَوْ كَتَمْنا هَذِهِ الشَّهادَةَ، لَمْ يَكُنْ أحَدٌ أظْلَمَ مِنّا، فَلا نَكْتُمُها، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكِتْمانِهِمْ شَهادَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ في كُتُبِهِمْ وسائِرِ شَهاداتِهِ. انْتَهى كَلامُهُ، . والمَعْنى الأوَّلُ هو الظّاهِرُ؛ لِأنَّ الآيَةَ إنَّما تَقَدَّمَها الإنْكارُ، لِما نَسَبُوهُ إلى إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ. فالَّذِي يَلِيقُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ مَعَ أهْلِ الكِتابِ لا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وأتْباعِهِ، لِأنَّهم مُقِرُّونَ بِما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وعالِمُونَ بِذَلِكَ العِلْمِ اليَقِينِ، فَلا يُفْرَضُ في حَقِّهِمْ كِتْمانُ ذَلِكَ.
وذُكِرَ في (رَيِّ الظَّمْآنِ): أنَّ في الآيَةِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، والتَّقْدِيرُ: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ (p-٤١٦)شَهادَةً حَصَلَتْ لَهُ ؟ كَقَوْلِكَ: ومَن أظْلَمُ مِن زَيْدٍ ؟ مِن جُمْلَةِ الكاتِمِينَ لِلشَّهادَةِ. والمَعْنى: لَوْ كانَ إبْراهِيمُ وبَنُوهُ يَهُودًا ونَصارى. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ كَتَمَ هَذِهِ الشَّهادَةَ، لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ الشَّهادَةَ أظْلَمَ مِنهُ، لَكِنْ لَمّا اسْتَحالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وتَنْزِيهِهِ عَنِ الكَذِبِ، عَلِمْنا أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. انْتَهى. وهَذا الوَجْهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا مِن حَيْثُ التَّرْكِيبُ، ومِن حَيْثُ المَدْلُولُ. أمّا مِن حَيْثُ التَّرْكِيبُ، فَزَعَمَ قائِلُهُ أنَّ ذَلِكَ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وهَذا لا يَكُونُ عِنْدَنا إلّا في الضَّرائِرِ. وأيْضًا فَيَبْقى قَوْلُهُ: ”مِمَّنْ كَتَمَ“ مُتَعَلِّقٌ: إمّا بِأظْلَمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ البَدَلِيَّةِ، ويَكُونُ إذْ ذاكَ بَدَلَ عامٍّ مِن خاصٍّ، ولَيْسَ هَذا النَّوْعُ بِثابِتٍ مِن لِسانِ العَرَبِ، عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، وإنْ كانَ بَعْضُهم قَدْ زَعَمَ أنَّهُ وجَدَ في لِسانِ العَرَبِ بَدَلَ كُلٍّ مِن بَعْضٍ. وقَدْ تَأوَّلَ الجُمْهُورُ ما أدّى ظاهِرُهُ إلى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وجَعَلُوهُ مِن وضْعِ العامِّ مَوْضِعَ الخاصِّ؛ لِنَدُورِ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ، أوْ يَكُونُ مِن مُتَعَلِّقِهِ بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ كائِنًا مِنَ الكاتِمِينَ الشَّهادَةَ. وأمّا مِن حَيْثُ المَدْلُولُ، فَإنَّ ثُبُوتَ الأظْلَمِيَّةِ لِمَن جَرَّ بِمِن يَكُونُ عَلى تَقْدِيرِ: أيْ إنْ كَتَمَها، فَلا أحَدَ أظْلَمُ مِنهُ. وهَذا كُلُّهُ مَعْنًى لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى، ويُنَزَّهُ كِتابُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ.
﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَفْسِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾، ”﴿أفَتَطْمَعُونَ﴾ [البقرة: ٧٥]“ ولا يَأْتِي إلّا عَقِبَ ارْتِكابِ مَعْصِيَةٍ فَتَجِيءُ مُتَضَمِّنَةً وعِيدًا، ومُعَلِّمَةً أنَّ اللَّهَ لا يَتْرُكُ أمْرَهم سُدًى، بَلْ هو مُحَصِّلٌ لِأعْمالِهِمْ مُجازٍ عَلَيْها.
{"ayah":"أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطَ كَانُوا۟ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ ٱللَّهُۗ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق