الباحث القرآني

﴿أمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطَ كانُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ (أمْ) إمّا مُتَّصِلَةٌ مُعادِلَةٌ لِلْهَمْزَةِ في ﴿أتُحاجُّونَنا﴾ داخِلَةٌ في حَيِّزِ الأمْرِ، والمُرادُ بِالِاسْتِفْهامِ إنْكارُهُما مَعًا بِمَعْنى: كُلٌّ مِنَ الأمْرَيْنِ مُنْكَرٌ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إقامَةُ الحُجَّةِ، وتَنْوِيرُ البُرْهانِ عَلى حَقِّيَّةِ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، والحالُ ما ذُكِرَ، والتَّشَبُّثُ بِذَيْلِ التَّقْلِيدِ والِافْتِراءِ (p-400)عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وفائِدَةُ هَذا الأُسْلُوبِ مَعَ أنَّ العِلْمَ حاصِلٌ بِثُبُوتِ الأمْرَيْنِ الإشارَةُ إلى أنَّ أحَدَهُما كافٍ في الذَّمِّ، فَكَيْفَ إذا اجْتَمَعا، كَما تَقُولُ لِمَن أخْطَأ تَدْبِيرًا ومَقالًا: أتَدْبِيرُكَ أمْ تَقْرِيرُكَ، وبِهَذا يَنْدَفِعُ ما قالَهُ أبُو حَيّانَ مِن أنَّ الِاتِّصالَ يَسْتَدْعِي وُقُوعَ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ، والسُّؤالَ عَنْ تَعْيِينِ إحْداهُما، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، إذْ وقَعَتا مَعًا، وإمّا مُنْقَطِعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ، والهَمْزَةُ دالَّةٌ عَلى الإضْرابِ، والِانْتِقالِ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلى المُحاجَّةِ إلى التَّوْبِيخِ عَلى الِافْتِراءِ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقَرَأ غَيْرُ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ (أمْ يَقُولُونَ) بِالياءِ، ويَتَعَيَّنُ كَوْنُ (أمْ) حِينَئِذٍ مُنْقَطِعَةً لِما فِيها مِنَ الإضْرابِ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ، ولا يَحْسُنُ في المُتَّصِلَةِ أنْ يَخْتَلِفَ الخِطابُ مِن مُخاطَبٍ إلى غَيْرِهِ، كَما يَحْسُنُ في المُنْقَطِعَةِ، ويَكُونُ الكَلامُ اسْتِئْنافًا غَيْرَ داخِلٍ تَحْتَ الأمْرِ، بَلْ وارِدٌ مِنهُ تَعالى تَوْبِيخًا لَهُمْ، وإنْكارًا عَلَيْهِمْ، وحَكى أبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ النُّحاةِ جَوازَ الِاتِّصالِ لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: أتَقُومُ يا زَيْدُ أمْ يَقُومُ عَمْرٌو، صَحَّ الِاتِّصالُ، واعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ المِثالَ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأنَّ القائِلَ فِيهِ واحِدٌ والمُخاطَبَ واحِدٌ، والقَوْلُ في الآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، والمُخاطَبُ اثْنانِ غَيْرَ أنْ يَتَّجِهَ مُعادَلَةُ (أمْ) لِلْهَمْزَةِ عَلى الحُكْمِ المَعْنَوِيِّ كانَ مَعْنى ﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا﴾ أيْ يُحاجُّونَ يا مُحَمَّدُ أمْ يَقُولُونَ، ولا يَخْفى أنَّ القَوْلَ بِالِانْقِطاعِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا فَلا أقَلَّ مِن أنَّهُ أوْلى. ﴿قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ أيْ لَسْتُمْ أعْلَمَ بِحالِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في بابِ الدِّينِ بَلِ اللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِذَلِكَ، وقَدْ أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِنَفْيِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ عَنْهُ، واحْتُجَّ عَلى انْتِفائِهِما عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ إلا مِن بَعْدِهِ﴾ وهَؤُلاءِ المَعْطُوفُونَ عَلَيْهِ أتْباعُهُ في الدِّينِ وِفاقًا، فَحالُهم حالُهُ، فَلِمَ تَدْعُونَ لَهُ ولَهم ما نَفى اللَّهُ تَعالى؟ فَما ذَلِكَ إلّا جَهْلٌ غالٍ، ولَجاجٌ مَحْضٌ، ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ إنْكارٌ لِأنْ يَكُونَ أحَدٌ أظْلَمَ ﴿مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً﴾ ثابِتَةً عِنْدَهُ، واصِلَةً ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ إلَيْهِ، وهي شَهادَتُهُ تَعالى لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالحَنِيفِيَّةِ والبَراءَةِ عَنِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ حَسْبَما تُلِيَ آنِفًا، وجِيءَ بِالوَصْفَيْنِ لِتَعْلِيلِ الإنْكارِ وتَأْكِيدِهِ، فَإنَّ ثُبُوتَ الشَّهادَةِ عِنْدَهُ وكَوْنُها مِن جانِبِ جَنابِ العَلِيِّ الأعْلى عَزَّ شَأْنُهُ مِن أقْوى الدَّواعِي إلى إقامَتِها، وأشَدِّ الزَّواجِرِ عَنْ كِتْمانِها، وتَقْدِيمُ الأوَّلِ مَعَ أنَّهُ مُتَأخِّرٌ في الوُجُودِ لِمُراعاةِ طَرِيقِ التَّرَقِّي، والمَعْنى لا أحَدَ أظْلَمُ مِن أهْلِ الكِتابِ، حَيْثُ كَتَمُوا هَذِهِ الشَّهادَةَ، وأثْبَتُوا نَقِيضَها بِما ذُكِرَ مِنَ الِافْتِراءِ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ يُقَرِّرُ ما أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مِنَ ادِّعاءِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وتَعْلِيقُ الأظْلَمِيَّةِ بِمُطْلَقِ الكِتْمانِ لِلْإيماءِ إلى أنَّ مَرْتَبَةَ مَن يَرُدُّها ويَشْهَدُ بِخِلافِها في الظُّلْمِ خارِجَةٌ عَنْ دائِرَةِ البَيانِ، أوْ لا أحَدَ أظْلَمُ مِنّا لَوْ كَتَمْنا هَذِهِ الشَّهادَةَ، ولَمْ نُقِمْها في مَقامِ المُحاجَّةِ، والجُمْلَةُ حِينَئِذٍ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ ما أُوقِعَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ مِن أنَّهم شاهِدُونَ بِما شَهِدَ اللَّهُ تَعالى بِهِ، مُصَدِّقُونَهُ بِما أعْلَمَهُمْ، وجَعَلَها عَلى هَذا مِن تَتِمَّةِ ﴿قُولُوا آمَنّا﴾ لِأنَّهُ في مَعْنى إظْهارِ الشَّهادَةِ، وعَلى الأوَّلِ مِن تَتِمَّةِ ﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا﴾ لِأنَّهُ في مَعْنى كِتْمانِها ظاهِرُ التَّعَسُّفِ، ولا يَخْفى أنَّ في الآيَةِ تَعْرِيضًا بِغايَةِ أظْلَمِيَّةِ أهْلِ الكِتابِ عَلى نَحْوِ ما أُشِيرَ إلَيْهِ، وفي إطْلاقِ الشَّهادَةِ مَعَ أنَّ المُرادَ بِها ما تَقَدَّمَ مِنَ الشَّهادَةِ المُعَيَّنَةِ تَعْرِيضٌ بِكِتْمانِهِمْ شَهادَةَ اللَّهِ تَعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وفي (رَيِّ الظَّمْآنِ) أنَّ (مَن) صِلَةُ (أظْلَمَ)، والكَلامُ عَلى التَّقْدِيمِ، والتَّأْخِيرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ومَن أظْلَمُ مِنَ اللَّهِ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً حَصَلَتْ عِنْدَهُ، كَقَوْلِكَ: ومَن أظْلَمُ مِن زَيْدٍ مِن جُمْلَةِ الكاتِمِينَ لِلشَّهادَةِ، والمَعْنى: لَوْ كانَ إبْراهِيمُ وبَنُوهُ يَهُودًا، أوْ نَصارى، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَمَ هَذِهِ الشَّهادَةَ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ الشَّهادَةَ أظْلَمَ مِنهُ، لَكِنْ لَمّا اسْتَحالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ عَلِمْنا أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّ (مَن) صِلَةُ (كَتَمَ) (p-401)والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ كَتَمَ مِن عِبادِ اللَّهِ شَهادَةً عِنْدَهُ، ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى ذَمَّهم عَلى مَنعِ أنْ يُوَصِّلُوا إلى عِبادِ اللَّهِ تَعالى، ويُؤَدُّوا إلَيْهِمْ شَهادَةَ الحَقِّ، ولا يَخْفى ما في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مِنَ التَّكَلُّفِ والتَّعَسُّفِ وانْحِطاطِ المَعْنى، فَلْيُنَزَّهْ كِتابُ اللَّهِ تَعالى العَظِيمُ عَنْهُ، عَلى أنَّكَ لَوْ نَظَرْتَ بِعَيْنِ الإنْصافِ رَأيْتَ الوَجْهَ الثّانِيَ مِنَ الأوَّلَيْنِ لا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، لِأنَّ الآيَةَ إنَّما تَقَدَّمَها الإنْكارُ لِما نُسِبَ إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، فالَّذِي يَلِيقُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ مَعَ أهْلِ الكِتابِ لا مَعَ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأتْباعِهِ، لِأنَّهم مُقِرُّونَ بِما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ، وعالِمُونَ بِذَلِكَ، فَلا يُفْرَضُ في حَقِّهِمْ كِتْمانُهُ، والتَّذْيِيلُ الَّذِي ادُّعِيَ فِيهِ خِلافُ الظّاهِرِ أيْضًا. ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ، هَلِ الكِتابُ أيْ إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَتْرُكُ أمْرَكم سُدًى بَلْ هو مُحَصِّلٌ لِأعْمالِكم مُحِيطٌ بِجَمِيعِ ما تَأْتُونَ وتَذَرُونَ، فَيُعاقِبُكم بِذَلِكَ أشَدَّ عِقابٍ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ كِتْمانُهم لِشَهادَتِهِ تَعالى، وافْتِراؤُهم عَلى أنْبِيائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقُرِئَ (عَمّا يَعْمَلُونَ) بِصِيغَةِ الغَيْبَةِ، فالضَّمِيرُ إمّا لِمَن (كَتَمَ) بِاعْتِبارِ المَعْنى، أوْ لِأهْلِ الكِتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب