الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ هو مِن تَمامِ المَقُولِ قَبْلَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ بِالعَطْفِ والقائِلِ، ويَجُوزُ هُنا أنْ يَكُونَ القائِلُ أيْضًا طائِفَةً مِنَ المُنافِقِينَ يُشِيرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإقْلاعِ عَنِ النِّفاقِ لِأنَّهم ضَجِرُوهُ وسَئِمُوا كُلَفَهُ ومُتَّقَياتِهِ، وكَلَّتْ أذْهانُهم مِنَ ابْتِكارِ الحِيَلِ واخْتِلاقِ الخَطَلِ. وحَذْفُ مَفْعُولِ آمَنُوا اسْتِغْناءً عَنْهُ بِالتَّشْبِيهِ في قَوْلِهِ ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ أوْ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ لِلسّامِعِينَ. وقَوْلُهُ ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ (p-٢٨٧)الكافُ فِيهِ لِلتَّشْبِيهِ أوْ لِلتَّعْلِيلِ، واللّامُ في النّاسِ لِلْجِنْسِ أوْ لِلِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ. والمُرادُ بِالنّاسِ مَن عَدا المُخاطَبِينَ، كَلِمَةٌ تَقُولُها العَرَبُ في الإغْراءِ بِالفِعْلِ والحَثِّ عَلَيْهِ لِأنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ أنْ تُسْرِعَ إلى التَّقْلِيدِ والِاقْتِداءِ بِمَن يَسْبِقُها في الأمْرِ، فَلِذَلِكَ يَأْتُونَ بِهاتِهِ الكَلِمَةِ في مَقامِ الإغْراءِ أوِ التَّسْلِيَةِ أوِ الِائْتِساءِ. قالَ عَمْرُو ابْنُ البَرّاقَةِ النِّهْمِيُّ: ؎ونَنْصُرُ مَوْلانا ونَعْلَمُ أنَّهُ كَما النّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وجارِمُ وقَوْلُهُ ﴿أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ اسْتِفْهامٌ لِلْإنْكارِ، قَصَدُوا مِنهُ التَّبَرُّؤَ مِنَ الإيمانِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، وجَعَلُوا الإيمانَ المُتَبَرَّأ مِنهُ شَبِيهًا بِإيمانِ السُّفَهاءِ تَشْنِيعًا لَهُ وتَعْرِيضًا بِالمُسْلِمِينَ بِأنَّهم حَمَلَهم عَلى الإيمانِ سَفاهَةُ عُقُولِهِمْ، ودَلُّوا عَلى أنَّهم عَلِمُوا مُرادَ مَن يَقُولُ لَهم: كَما آمَنَ النّاسُ، أنَّهُ يَعْنِي بِالنّاسِ المُسْلِمِينَ. والسُّفَهاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ وهو المُتَّصِفُ بِالسَّفاهَةِ. والسَّفاهَةُ خِفَّةُ العَقْلِ وقِلَّةُ ضَبْطِهِ لِلْأُمُورِ قالَ السَّمَوْألُ: ؎نَخافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلامُنا ∗∗∗ فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الخامِلِ والعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفاهَةَ عَلى أفَنِ الرَّأْيِ وضَعْفِهِ، وتُطْلِقُها عَلى سُوءِ التَّدْبِيرِ لِلْمالِ. قالَ تَعالى ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ [النساء: ٥] وقالَ ﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا﴾ [البقرة: ٢٨٢] الآيَةَ لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَجِيءُ مِن ضَعْفِ الرَّأْيِ. ووَصْفُهُمُ المُؤْمِنِينَ بِالسَّفاهَةِ بُهْتانٌ لِزَعْمِهِمْ أنَّ مُخالَفَتَهم لا تَكُونُ إلّا لِخِفَّةٍ في عُقُولِهِمْ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِتَحْقِيرِهِمْ، كَيْفَ وفي المُسْلِمِينَ سادَةُ العَرَبِ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ. وهَذِهِ شَنْشَنَةُ أهْلِ الفَسادِ والسَّفَهِ أنْ يَرْمُوا المُصْلِحِينَ بِالمُذِمّاتِ بُهْتانًا ووَقاحَةً لِيُلْهُوهم عَنْ تَتَبُّعِ مَفاسِدِهِمْ ولِذَلِكَ قالَ أبُو الطَّيِّبِ: ؎وإذا أتَتْكَ مَذَمَّتِي مِن ناقِصٍ ∗∗∗ فَهي الشَّهادَةُ لِي بِأنِّيَ كامِلٌ ولَيْسَ في هاتِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى حُكْمِ الزِّنْدِيقِ إذا ظَهَرَ عَلَيْهِ وعُرِفَتْ زَنْدَقَتُهُ إثْباتًا، ولا نَفْيًا لِأنَّ القائِلِينَ لَهم: آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ، هم مِن أقارِبِهِمْ أوْ خاصَّتِهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُفْشُوا أمْرَهم فَلَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى ظُهُورِ نِفاقِهِمْ لِلرَّسُولِ بِوَجْهٍ مُعْتادٍ ولَكِنَّهُ شَيْءٌ أطْلَعَ (p-٢٨٨)عَلَيْهِ نَبِيئَهُ، وكانَتِ المُصْلِحَةُ في سَتْرِهِ، وقَدِ اطَّلَعَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ بِمُخالَطَتِهِمْ وعَلِمُوا مِنَ النَّبِيءِ ﷺ الإعْراضَ عَنْ إذاعَةِ ذَلِكَ فَكانَتِ الآيَةُ غَيْرَ دالَّةٍ عَلى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ النِّفاقِ والزَّنْدَقَةِ. * * * ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أتى بِما يُقابِلُ جَفاءَ طَبْعِهِمُ انْتِصارًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ولَوْلا جَفاءُ قَوْلِهِمْ ﴿أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ لَما تَصَدّى القُرْآنُ لِسِبابِهِمْ مَعَ أنَّ عادَتَهُ الإعْراضُ عَنِ الجاهِلِينَ ولَكِنَّهم كانُوا مَضْرِبَ المَثَلِ ”قُلْتَ فَأوْجَبْتَ“، ولِأنَّهُ مَقامُ بَيانِ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ فَتَحْسُنُ فِيهِ الصَّراحَةُ والصَّرامَةُ كَما تَقَرَّرَ في آدابِ الخَطابَةِ، وأعْلَنَ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ ألا المُؤْذِنَةُ بِالتَّنْبِيهِ لِلْخَبَرِ، وجاءَ بِصِيغَةِ القَصْرِ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَ في ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] لِيَدُلَّ عَلى أنَّ السَّفاهَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ دُونَ المُؤْمِنِينَ فَهو إضافِيٌّ لا مَحالَةَ. وإذا ثَبَتَتْ لَهُمُ السَّفاهَةُ انْتَفى عَنْهُمُ الحِلْمُ لا مَحالَةَ لِأنَّهُما ضِدّانِ في صِفاتِ العُقُولِ. ”إنَّ“ هُنا لِتَوْكِيدِ الخَبَرِ وهو مَضْمُونُ القَصْرِ وضَمِيرُ الفَصْلِ لِتَأْكِيدِ القَصْرِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وألا كَأُخْتِها المُتَقَدِّمَةِ في ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢] وقَوْلُهُ ﴿ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ نَفى عَنْهُمُ العِلْمَ بِكَوْنِهِمْ سُفَهاءَ بِكَلِمَةِ يَعْلَمُونَ دُونَ يَشْعُرُونَ خِلافًا لِلْآيَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ لِأنَّ اتِّصافَهم بِالسَّفَهِ لَيْسَ مِمّا شَأْنُهُ الخَفاءُ حَتّى يَكُونَ العِلْمُ بِهِ شُعُورًا ويَكُونَ الجَهْلُ بِهِ نَفْيَ شُعُورٍ، بَلْ هو وصْفٌ ظاهِرٌ لا يَخْفى لِأنَّ لِقاءَهم كُلَّ فَرِيقٍ بِوَجْهٍ واضْطِرابَهم في الِاعْتِمادِ عَلى إحْدى الخَلَّتَيْنِ وعَدَمُ ثَباتِهِمْ عَلى دِينِهِمْ ثَباتًا كامِلًا ولا عَلى الإسْلامِ كَذَلِكَ كافٍ في النِّداءِ بِسَفاهَةِ أحْلامِهِمْ فَإنَّ السَّفاهَةَ صِفَةٌ لا تَكادُ تَخْفى، وقَدْ قالَتِ العَرَبُ: السَّفاهَةُ كاسْمِها. قالَ النّابِغَةُ: ؎نُبِّئْتُ زَرْعَةَ والسَّفاهَةُ كاسْمِها يُهْدى إلَيَّ غَرائِبَ الأشْعارِ وقالَ جَزْءُ بْنُ كِلابٍ الفَقْعَسِيُّ: ؎تَبَغّى ابْنُ كُوزٍ والسَّفاهَةُ كاسْمِها ∗∗∗ لِيَسْتادَ مِنّا أنْ شَتَوْنا لَيالِيا فَظَنُّهم أنَّ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ رُشْدٌ، وأنَّ ما تَقَلَّدَهُ المُسْلِمُونَ مِنَ الإيمانِ سَفَهٌ يَدُلُّ عَلى (p-٢٨٩)انْتِفاءُ العِلْمِ عَنْهم. فَمَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْراكِ لِدَفْعِ تَعَجُّبِ مَن يَتَعَجَّبُ مِن رِضاهم بِالِاخْتِصاصِ بِوَصْفِ السَّفاهَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب