الباحث القرآني

﴿وَإذا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ مِن قِبَلِ المُؤْمِنِينَ؛ بِطَرِيقِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ إثْرَ نَهْيِهِمْ عَنِ المُنْكَرِ إتْمامًا لِلنُّصْحِ؛ وإكْمالًا لِلْإرْشادِ: ﴿آمِنُوا﴾؛ حُذِفَ المُؤْمَنُ بِهِ لِظُهُورِهِ؛ أوْ أُرِيدَ: افْعَلُوا الإيمانَ ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾؛ الكافُ في مَحَلِّ النَّصْبِ؛ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مُؤَكِّدٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: آمِنُوا إيمانًا مُماثِلًا لِإيمانِهِمْ؛ فَـ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ؛ أوْ كافَّةٌ؛ كَما في "رُبَّما"؛ فَإنَّها تَكُفُّ الحَرْفَ عَنِ العَمَلِ؛ وتُصَحِّحُ دُخُولَها عَلى الجُمْلَةِ؛ وتَكُونُ لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَ مَضْمُونَيِ الجُمْلَتَيْنِ؛ أيْ: حَقِّقُوا إيمانَكم كَما تَحَقَّقَ إيمانُهُمْ؛ واللّامُ لِلْجِنْسِ؛ والمُرادُ بِالنّاسِ: الكامِلُونَ في الإنْسانِيَّةِ؛ العامِلُونَ بِقَضِيَّةِ العَقْلِ؛ فَإنَّ اسْمَ الجِنْسِ؛ كَما يُسْتَعْمَلُ في مُسَمّاهُ؛ يُسْتَعْمَلُ فِيما يَكُونُ جامِعًا لِلْمَعانِي الخاصَّةِ بِهِ؛ المَقْصُودَةِ مِنهُ؛ ولِذَلِكَ يُسْلَبُ عَمّا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَيُقالُ: هو لَيْسَ بِإنْسانٍ؛ وقَدْ جَمَعَهُما مَن قالَ: ؎ ∗∗∗ إذِ النّاسُ ناسٌ والزَّمانُ زَمانُ أوْ لِلْعَهْدِ؛ والمُرادُ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ ومَن مَعَهُ؛ أوْ مَن آمَنَ مِن أهْلِ جِلْدَتِهِمْ؛ كابْنِ سَلامٍ؛ وأضْرابِهِ؛ والمَعْنى: آمِنُوا إيمانًا مَقْرُونًا بِالإخْلاصِ؛ مُتَمَحِّضًا عَنْ شَوائِبِ النِّفاقِ؛ مُماثِلًا لِإيمانِهِمْ؛ ﴿قالُوا﴾؛ مُقابِلِينَ لِلْأمْرِ بِالمَعْرُوفِ بِالإنْكارِ المُنْكِرِ؛ واصِفِينَ لِلْمَراجِيحِ الرِّزانِ بِضِدِّ أوْصافِهِمُ الحِسانِ: ﴿أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾؛ مُشِيرِينَ بِاللّامِ إلى مَن أُشِيرَ إلَيْهِمْ في النّاسِ مِنَ الكامِلِينَ؛ أوِ المَعْهُودِينَ؛ أوْ إلى الجِنْسِ بِأسْرِهِ؛ وهم مُنْدَرِجُونَ فِيهِ عَلى زَعْمِهِمُ الفاسِدِ؛ والسَّفَهُ: خِفَّةٌ وسَخافَةُ رَأْيٍ؛ يُورِثُهُما قُصُورُ العَقْلِ؛ ويُقابِلُهُ الحِلْمُ والأناةُ؛ وإنَّما نَسَبُوهم إلَيْهِ مَعَ أنَّهم في الغايَةِ القاصِيَةِ مِنَ الرُّشْدِ والرَّزانَةِ والوَقارِ؛ لِكَمالِ انْهِماكِ أنْفُسِهِمْ في السَّفاهَةِ؛ وتَمادِيهِمْ في الغَوايَةِ؛ وكَوْنِهِمْ مِمَّنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا؛ فَمَن حَسِبَ الضَّلالَ هُدًى يُسَمِّي الهُدى لا مَحالَةَ ضَلالًا؛ أوْ لِتَحْقِيرِ شَأْنِهِمْ؛ فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ المُؤْمِنِينَ كانُوا فُقَراءَ؛ ومِنهم مَوالٍ كَصُهَيْبٍ؛ وبِلالٍ؛ أوْ لِلتَّجَلُّدِ؛ وعَدَمِ المُبالاةِ بِمَن آمَنَ مِنهُمْ؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُرادِ بِالنّاسِ عَبَدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ؛ وأمْثالَهُ؛ وأيًّا ما كانَ فالَّذِي يَقْتَضِيهِ جَزالَةُ التَّنْزِيلِ؛ ويَسْتَدْعِيهِ فَخامَةُ شَأْنِهِ الجَلِيلِ أنْ يَكُونَ صُدُورُ هَذا القَوْلِ عَنْهم - بِمَحْضَرٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ النّاصِحِينَ لَهم - جَوابًا (p-45)عَنْ نَصِيحَتِهِمْ؛ وحَيْثُ كانَ فَحْواهُ تَسْفِيهَ أُولَئِكَ المَشاهِيرِ الأعْلامِ؛ والقَدَحَ في إيمانِهِمْ لَزِمَ كَوْنُهم مُجاهِرِينَ؛ مُنافِقِينَ؛ وذَلِكَ مِمّا لا يَكادُ يُساعِدُهُ السِّباقُ والسِّياقُ؛ وعَنْ هَذا قالُوا: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيما بَيْنَهُمْ؛ لا عَلى وجْهِ المُؤْمِنِينَ؛ قالَ الإمامُ الواحِدِيُّ: إنَّهم كانُوا يُظْهِرُونَ هَذا القَوْلَ فِيما بَيْنَهُمْ؛ لا عِنْدَ المُؤْمِنِينَ؛ فَأخْبَرَ اللَّهُ (تَعالى) نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - والمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ عَنْهم. وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ إبْرازَ ما صَدَرَ عَنْ أحَدِ المُتَحاوِرَيْنِ في الخَلاءِ في مَعْرِضِ ما جَرى بَيْنَهُما في مَقامِ المُحاوَرَةِ مِمّا لا عَهْدَ بِهِ في الكَلامِ؛ فَضْلًا عَمّا هو في مَنصِبِ الإعْجازِ؛ فالحَقُّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ أنَّ قَوْلَهم هَذا - وإنْ صَدَرَ عَنْهم بِمَحْضَرٍ مِنَ النّاصِحِينَ - لا يَقْتَضِي كَوْنَهم مُجاهِرِينَ؛ فَإنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الكُفْرِ أنِيقٌ؛ وفَنٌّ في النِّفاقِ عَرِيقٌ؛ مَصْنُوعٌ عَلى شاكِلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾؛ فَكَما أنَّهُ كَلامٌ ذُو وجْهَيْنِ مِثْلُهم مُحْتَمِلٌ لِلشَّرِّ بِأنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى: اسْمَعْ مِنّا غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلامًا تَرْضاهُ؛ ونَحْوِهِ؛ ولِلْخَيْرِ بِأنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا؛ كانُوا يُخاطِبُونَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتِهْزاءً بِهِ؛ مُظْهِرِينَ إرادَةَ المَعْنى الأخِيرِ؛ وهم مُضْمِرُونَ في أنْفُسِهِمُ المَعْنى الأوَّلَ؛ مُطْمَئِنُّونَ بِهِ؛ ولِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ. كَذَلِكَ هَذا الكَلامُ مُحْتَمِلٌ لِلشَّرِّ؛ كَما ذُكِرَ في تَفْسِيرِهِ؛ ولِلْخَيْرِ بِأنْ يُحْمَلَ عَلى ادِّعاءِ الإيمانِ؛ كَإيمانِ النّاسِ؛ وإنْكارِ ما اتُّهِمُوا بِهِ مِنَ النِّفاقِ؛ عَلى مَعْنى: أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ والمَجانِينُ الَّذِينَ لا اعْتِدادَ بِإيمانِهِمْ لَوْ آمَنُوا؛ ولا نُؤْمِنُ كَإيمانِ النّاسِ حَتّى تَأْمُرُونا بِذَلِكَ؟ قَدْ خاطَبُوا بِهِ النّاصِحِينَ اسْتِهْزاءً بِهِمْ؛ مُرائِينَ لِإرادَةِ المَعْنى الأخِيرِ؛ وهم مُعَوِّلُونَ عَلى الأوَّلِ؛ فَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ قائِلًا -: ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ أبْلَغِ رَدٍّ؛ وجُهِّلُوا أشْنَعَ تَجْهِيلٍ؛ حَيْثُ صُدِّرَتِ الجُمْلَةُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ؛ حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ فِيما سَلَفَ؛ وجُعِلَتِ السَّفاهَةُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ؛ وبالِغَةً إلى حَيْثُ يَدْرُونَ أنَّهم سُفَهاءُ؛ ومِن هَذا اتَّضَحَ سِرُّ ما مَرَّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾؛ فَإنَّ حَمْلَهُ عَلى المَعْنى الأخِيرِ - كَما هو رَأْيُ الجُمْهُورِ - مُنافٍ لِحالِهِمْ ضَرُورَةً؛ إنَّ مُشافَهَتَهم لِلنّاصِحِينَ - بِادِّعاءِ كَوْنِ ما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الإفْسادِ إصْلاحًا؛ كَما مَرَّ - إظْهارٌ مِنهم لِلشِّقاقِ؛ وبُرُوزُ أشْخاصِهِمْ مِن نَفَقِ النِّفاقِ؛ والِاعْتِذارُ بِأنَّ المُرادَ بِما نُهُوا عَنْهُ مُداراتُهم لِلْمُشْرِكِينَ؛ كَما ذُكِرَ في بَعْضِ التَّفاسِيرِ؛ وبِالإصْلاحِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ إصْلاحُ ما بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ؛ وأنَّ مَعْنى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾؛ أنَّهم في تِلْكَ المُعامَلَةِ مُفْسِدُونَ لِمَصالِحِ المُؤْمِنِينَ؛ لِإشْعارِها بِإعْطاءِ الدَّنِيَّةِ؛ وإنْبائِها عَنْ ضَعْفِهِمُ المُلْجِئِ إلى تَوْسِيطِ مَن يَتَصَدّى لِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ؛ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِمْ مُصْلِحِينَ؛ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ قَطْعًا؛ فَإنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾؛ ناطِقٌ بِفَسادِهِ؛ كَيْفَ لا.. وإنَّهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُنافِقُونَ في تِلْكَ الدَّعْوى صادِقِينَ؛ قاصِدِينَ لِلْإصْلاحِ؛ ويَأْتِيهِمُ الإفْسادُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ؟ ولا رَيْبَ في أنَّهم فِيها كاذِبُونَ؛ لا يُعاشِرُونَهم إلّا مُضارَّةً لِلدِّينِ؛ وخِيانَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَإذَنْ طَرِيقُ حَلِّ الإشْكالِ لَيْسَ إلّا ما أُشِيرَ إلَيْهِ؛ فَإنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ؛ مُحْتَمِلٌ لِلْحَمْلِ عَلى الكَذِبِ؛ وإنْكارُ صُدُورِ الإفْسادِ المَنسُوبِ إلَيْهِمْ عَنْهم عَلى مَعْنى: إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ؛ لا يَصْدُرُ عَنّا ما تَنْهَوْنَنا عَنْهُ مِنَ الإفْسادِ؛ وقَدْ خاطَبُوا بِهِ النّاصِحِينَ اسْتِهْزاءً بِهِمْ؛ وإراءَةً؛ لِإرادَةِ هَذا المَعْنى؛ وهم مُعَرِّجُونَ عَلى المَعْنى الأوَّلِ؛ فَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾؛ الآيَةِ.. واللَّهُ - سُبْحانَهُ - أعْلَمُ بِما أوْدَعَهُ في تَضاعِيفِ كِتابِهِ المَكْنُونِ؛ مِنَ السِّرِّ المَخْزُونِ؛ نَسْألُهُ العِصْمَةَ والتَّوْفِيقَ؛ والهِدايَةَ إلى سَواءِ الطَّرِيقِ. وتَفْصِيلُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِـ "لا يَعْلَمُونَ" لِما أنَّهُ أكْثَرُ طِباقًا لِذِكْرِ السَّفَهِ الَّذِي هو فَنٌّ مِن فُنُونِ الجَهْلِ؛ ولِأنَّ الوُقُوفَ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ ثابِتُونَ عَلى الحَقِّ؛ وهم عَلى (p-46) الباطِلِ مَنُوطٌ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ؛ وذَلِكَ مِمّا لا يَتَسَنّى إلّا بِالنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ؛ وأمّا النِّفاقُ وما فِيهِ مِنَ الفِتْنَةِ والإفْسادِ؛ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن كَوْنِ مَن يَتَّصِفُ بِهِ مُفْسِدًا؛ فَأمْرٌ بَدِيهِيٌّ يَقِفُ عَلَيْهِ مَن لَهُ شُعُورٌ؛ ولِذَلِكَ فُصِّلَتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ السّابِقَةُ بِـ "لا يَشْعُرُونَ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب