الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ﴾ إشارَةٌ إلى التَّحْلِيَةِ بِالحاءِ المُهْمَلَةِ، كَما أنْ ﴿لا تُفْسِدُوا﴾ إشارَةٌ إلى التَّخْلِيَةِ بِالخاءِ المُعْجَمَةِ، ولِذا قُدِّمَ، ولَيْسَ هُنا ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الأعْمالَ داخِلَةٌ في كَمالِ الإيمانِ، أوْ في حَقِيقَتِهِ، كَما قِيلَ لِأنَّ اعْتِبارَ تَرْكِ الفَسادِ لِدَلالَتِهِ عَلى التَّكْذِيبِ المُنافِي لِلْإيمانِ، وحُذِفَ المُؤْمِنُ بِهِ لِظُهُورِهِ، أوْ أُرِيدَ: افْعَلُوا الإيمانَ، والكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وأكْثَرُ النُّحاةِ يَجْعَلُونَها نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ إيمانًا، كَما آمَنَ النّاسُ، وسِيبَوَيْهِ لا يُجَوِّزُ حَذْفَ المَوْصُوفِ، وإقامَةَ الصِّفَةِ مَقامَهُ في هَذا المَوْضِعِ، ويَجْعَلُها مَنصُوبَةً عَلى الحالِ مِنَ المَصْدَرِ المُضْمَرِ المَفْهُومِ مِنَ الفِعْلِ، ولَمْ تُجْعَلْ مُتَعَلِّقَةً (بِآمِنُوا)، والظَّرْفُ لَغْوٌ بِناءً عَلى أنَّ الكافَ لا تَكُونُ كَذَلِكَ، (وما) إمّا مَصْدَرِيَّةٌ أوْ كافَّةٌ، ولَمْ تُجْعَلْ مَوْصُولَةً لِما فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، والمَعْنى عَلى المَصْدَرِيَّةِ: آمِنُوا إيمانًا مُشابِهًا لِإيمانِ النّاسِ، وعَلى الكَفِّ: حَقِّقُوا إيمانَكم كَما تَحَقَّقَ إيمانُ النّاسِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالإخْلاصِ خالِصًا عَنْ شَوائِبِ النِّفاقِ، والمُرادُ مِنَ النّاسِ الرَّسُولُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، كَما أخْرَجَهُابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وهم نُصْبَ عَيْنِ أُولِي الغَيْنِ، ومُلْتَفَتُ (p-155)خَواطِرِهِمْ، لِتَأمُّلِهِمْ مِنهُمْ، وقَدْ مَرَّ ذِكْرُهم أيْضًا، لِدُخُولِهِمْ دُخُولًا أوَّلِيًّا في الَّذِينَ آمَنُوا، فالعَهْدُ خارِجِيٌّ، أوْ خارِجِيٌّ ذِكْرى، أوْ مَن آمَنَ مِن أبْناءِ جِنْسِهِمْ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، كَما قالَهُ جَماعَةٌ مِن وُجُوهِ الصَّحابَةِ، أوِ المُرادُ الكامِلُونَ في الإنْسانِيَّةِ الَّذِينَ يُعَدُّ مَن عَداهم في عِدادِ البَهائِمْ في فَقْدِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فاللّامُ إمّا لِلْجِنْسِ أوْ لِلِاسْتِغْراقِ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الإقْرارَ بِاللِّسانِ إيمانٌ، وإلّا لَمْ يُفِدِ التَّقْيِيدَ، وكَوْنُهُ لِلتَّرْغِيبِ يَأْباهُ إيرادُهُمُ التَّشْبِيهَ في الجَوابِ، والجَوابِ عَنْهُ، بَعْدَ إمْكانِ مُعارَضَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ أنَّهُ لا خِلافَ في جَوازِ إطْلاقِ الإيمانِ عَلى التَّصْدِيقِ اللِّسانِيِّ، لَكِنْ مِن حَيْثُ إنَّهُ تَرْجَمَةٌ عَمّا في القَلْبِ، أُقِيمَ مَقامَهُ، إنَّما النِّزاعُ في كَوْنِهِ مُسَمّى الإيمانِ في نَفْسِهِ، ووَضْعِ الشّارِعِ إيّاهُ لَهُ مَعَ النَّظَرِ عَمّا في الضَّمِيرِ عَلى ما بُيِّنَ لَكَ في مَحَلِّهِ، ولَمّا طُلِبَ مِنَ المُنافِقِ الإيمانُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ. ؎فَإنْ لا يَكُنْها أوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ أخُوها غَذَّتْهُ أُمُّهُ بِلِبانِها نَعَمْ إنْ كانَ مَعْرُوفًا بِالزَّنْدَقَةِ داعِيًا إلَيْها، ولَمْ يَتُبْ قَبْلَ الأخْذِ قُتِلَ كالسّاحِرِ، ولَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ كَما أفْتى بِهِ جَمْعٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ﴿قالُوا أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ أرادُوا لا يَكُونُ ذَلِكَ أصْلًا، فالهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ الإبْطالِيِّ، وعَنَوْا بِالسُّفَهاءِ إمّا أُولَئِكَ النّاسَ المُتَقَدِّمِينَ، أوِ الجِنْسَ بِأسْرِهِ، وأُولَئِكَ الكِرامُ والعُقَلاءُ الفِخامُ داخِلُونَ فِيهِ بِزَعْمِهِمُ الفاسِدِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ اللّامَ لِلصِّفَةِ الغالِبَةِ كَما في العَيُّوقِ، لِأنَّهُ لَمْ يَغْلِبْ هَذا الوَصْفُ عَلى أُناسٍ مَخْصُوصِينَ إلّا أنْ يُدَّعى غَلَبَتُهُ فِيما بَيْنَهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ، والسَّفَهُ الخِفَّةُ والتَّحَرُّكُ والِاضْطِرابُ، وشاعَ في نُقْصانِ العَقْلِ والرَّأْيِ، وإنَّما سَفَّهُوهم جَهْلًا مِنهم حَيْثُ اشْتَغَلُوا بِما لا يُجْدِي في زَعْمِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ التَّجَلُّدِ حَذَرًا مِنَ الشَّماتَةِ إنَّ فُسِّرَ النّاسُ بِمَن آمَنَ مِنهُمْ، واليَهُودُ قَوْمُ بُهْتٍ، وقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الآيَةَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ، بِأنَّهُ إذا كانَ القائِلُ المُؤْمِنِينَ كَما هو الظّاهِرُ والمُجِيبُ المُنافِقِينَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونُوا مُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ، إذا لَقُوا المُؤْمِنِينَ، فَأيْنَ النِّفاقُ وهو المَفْهُومُ مِنَ السِّباقِ والسِّياقِ؟ وأُجِيبَ بِأنَّ هَذا الجَوابَ كانَ فِيما بَيْنَهُمْ، وحَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ورَدَّهُ عَلَيْهِمْ، ولَيْسَ الجَوابُ ما يُقالُ مُواجَهَةً فَقَطْ، فَقَدِ اسْتَفاضَ مِنَ الخَلَفِ إطْلاقُ لَفْظِ الجَوابِ عَلى رَدِّ كَلامِ السَّلَفِ مَعَ بُعْدِ العَهْدِ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ، وقِيلَ: إذا هُنا بِمَعْنى لَوْ تَحْقِيقًا لِإبْطانِهِمُ الكُفْرَ، وأنَّهم عَلى حالٍ تَقْتَضِي أنَّهم لَوْ قِيلَ لَهم كَذا قالُوا كَذا، كَما قِيلَ مِثْلُهُ في قَوْلِهِ: وإذا ما لُمْتُهُ لُمْتُهُ وحْدِي، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ بِحَضْرَةِ المُسْلِمِينَ لَكِنْ مُسارَرَةً بَيْنَهُمْ، وأظْهَرَهُ عالِمُ السِّرِّ والنَّجْوى، وقِيلَ: كانَ عِنْدَ مَن لَمْ يُفْشِ سِرَّهم مِنَ المُؤْمِنِينَ لِقَرابَةٍ أوْ لِمَصْلَحَةٍ ما، وذَكَرَ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ أنَّ الحَقَّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ أنَّ قَوْلَهم هَذا وإنْ صَدَرَ بِمَحْضِرٍ مِنَ النّاصِحِينَ لا يَقْتَضِي كَوْنَهم مِنَ المُجاهِرِينَ، فَإنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الكُفْرِ أنِيقٌ، وفَنٌّ في النِّفاقِ عَرِيقٌ، لِأنَّهُ كَلامٌ مُحْتَمَلٌ لِلشِّرْكِ، كَما ذَكَرَهُ في تَفْسِيرِهِ، ولِلْخَيْرِ بِأنْ يُحْمَلَ عَلى ادِّعاءِ الإيمانِ كَإيمانِ النّاسِ، وإنْكارِ ما اتُّهِمُوا بِهِ مِنَ النِّفاقِ عَلى مَعْنى: أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ والمَجانِينُ الَّذِينَ لا اعْتِدادَ بِإيمانِهِمْ، لَوْ آمَنُوا، ولا نُؤْمِنُ كَإيمانِ النّاسِ حَتّى تَأْمُرُونا بِذَلِكَ، وقَدْ خاطَبُوا بِهِ النّاصِحِينَ اسْتِهْزاءً بِهِمْ مُرائِينَ لِإرادَةِ المَعْنى الأخِيرِ، وهم مُعَوِّلُونَ عَلى الأوَّلِ، والشَّرْعُ يَنْظُرُ لِلظّاهِرِ، وعِنْدَ اللَّهِ تَعالى عِلْمُ السَّرائِرِ، ولِهَذا سَكَتَ المُؤْمِنُونَ، ورَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا يُسِرُّونَ، فالكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ كَمالِ إيمانِهِمْ، ولْيَكُنْ في قَلْبِ تِلْكَ الكِنايَةِ نِكايَةٌ، فَهو عَلى مُشاكَلَةِ قَوْلِهِمْ: ﴿واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ في احْتِمالِ الشَّرِّ والخَيْرِ، ولِذَلِكَ نُهِيَ عَنْهُ، وجَعَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ تَعالى في الحِكايَةِ عَنْهم ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ مِن هَذا القَبِيلِ أيْضًا، وإلى ذَلِكَ مالَ مَوْلانا الشِّهابُ الخَفاجِيُّ وادَّعى أنَّهُ مِن بَناتِ أفْكارِهِ، وعِنْدِي أنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ: ﴿أنُؤْمِنُ﴾ لِإنْكارِ الفِعْلِ في الحالِ، وقَوْلَهُمْ: ﴿كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ بِصِيغَةِ الماضِي صَرِيحٌ (p-156)فِي نِسْبَتِهِمُ السَّفاهَةَ إلى المُؤْمِنِينَ لِإيمانِهِمْ، فَلا تَوْرِيَةَ، ولا نِفاقَ، ولَعَلَّهُ لَمّا رَأى صِيغَةَ الماضِي زادَ في بَيانِ المَعْنى لَوْ آمَنُوا، ولا أدْرِي مِن أيْنَ أتى بِهِ. ولا يُصْلِحُ العَطّارُ ما أفْسَدَ الدَّهْرُ فالأهْوَنُ بَعْضُ هاتِيكَ الوُجُوهِ، وقَوْلُهُ: إنَّ إبْرازَ ما صَدَرَ عَنْ أحَدِ المُتَحاوِرَيْنِ في الخَلاءِ في مَعْرِضِ ما جَرى بَيْنَهُما في مَقامِ المُحاوَرَةِ مِمّا لا عَهْدَ بِهِ في الكَلامِ، فَضْلًا عَمّا هو في مَنصِبِ الإعْجازِ لا يَخْفى ما فِيهِ، عَلى مَنِ اطَّلَعَ عَلى مُحاوَراتِ النّاسِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ﴿واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ . ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ رَدٌّ وأشْنَعُ تَجْهِيلٍ حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ فِيما سَلَفَ، وإنَّما قالَ سُبْحانَهُ هُنا: لا يَعْلَمُونَ، وهُناكَ: لا يَشْعُرُونَ، لِأنَّ المُثْبَتَ لَهم هُناكَ هو الإفْسادُ، وهو مِمّا يُدْرَكُ بِأدْنى تَأمُّلٍ، ولا يَحْتاجُ إلى كَثِيرِ فِكْرٍ، فَنَفى عَنْهم ما يُدْرَكُ بِالمَشاعِرِ مُبالَغَةً في تَجْهِيلِهِمْ، والمُثْبَتُ هُنا السَّفَهُ، والمُصَدَّرُ بِهِ الأمْرُ بِالإيمانِ، وذَلِكَ مِمّا يَحْتاجُ إلى نَظَرٍ تامٍّ يُفْضِي إلى الإيمانِ والتَّصْدِيقِ، ولَمْ يَقَعْ مِنهُمُ المَأْمُورُ بِهِ فَناسَبَ ذَلِكَ نَفْيُ العِلْمِ عَنْهُمْ، ولِأنَّ السَّفَهَ خِفَّةُ العَقْلِ، والجَهْلُ بِالأُمُورِ عَلى ما قِيلَ، فَيُناسِبُهُ أتَمَّ مُناسَبَةٍ نَفْيُ العِلْمِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى ما هو الظّاهِرُ في المَفْعُولِ، وعَلى غَيْرِ الظّاهِرِ غَيْرُ ظاهِرٍ، فَتَدَبَّرْ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ إذا التَقَتِ الهَمْزَتانِ والأُولى مَضْمُومَةٌ والثّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مِن كَلِمَتَيْنِ نَحْوِ السُّفَهاءِ، ألا فَفي ذَلِكَ أوْجُهُ تَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ، وبِذَلِكَ قَرَأ الكُوفِيُّونَ، وابْنُ عامِرٍ، وتَحْقِيقُ الأُولى وتَخْفِيفُ الثّانِيَةِ بِإبْدالِها واوًا، وبِذَلِكَ قَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو، وتَسْهِيلُ الأُولى بِجَعْلِها بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ وتَحْقِيقُ الثّانِيَةِ وتَسْهِيلُ الأُولى، وإبْدالُ الثّانِيَةِ واوًا، وأجازَ قَوْمٌ جَعْلَ الهَمْزَتَيْنِ بَيْنَ بَيْنَ ومَنَعَهُ آخَرُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب