الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا كَما آمَنَ الناسُ قالُوا أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُفَهاءُ ألا إنَّهم هُمُ السُفَهاءُ ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ المَعْنى: صَدِّقُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وشَرْعِهِ، مِثْلُ ما صَدَّقَ المُهاجِرُونَ والمُحَقِّقُونَ مِن أهْلِ يَثْرِبَ، قالُوا: أنَكُونُ كالَّذِينِ خَفَّتْ عُقُولُهُمْ؟ و"السَفَهُ": الخِفَّةُ والرِقَّةُ الداعِيَةُ إلى الخِفَّةِ، يُقالُ: "ثَوْبُ سَفِيهٍ" إذا كانَ رَقِيقًا هَلْهَلَ النَسْجِ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: ؎ مَشِينٌ كَما اهْتَزَّتْ رِماحٌ تَسَفَّهَتْ أعالِيها مَرُّ الرِياحِ النَواسِمِ (p-١٢٣)وَهَذا القَوْلُ إنَّما كانُوا يَقُولُونَهُ في الخَفاءِ، فَأطْلَعَ اللهُ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ والمُؤْمِنِينَ، وقَرَّرَ أنَّ السَفَهَ ورِقَّةَ الحُلُومِ وفَسادَ البَصائِرِ إنَّما هو في حَيِّزِهِمْ وصِفَةٌ لَهُمْ، وأخْبَرَ أنَّهم لا يَعْلَمُونَ أنَّهُمُ السُفَهاءُ لِلرَّيْنِ الَّذِي عَلى قُلُوبِهِمْ. وقالَ قَوْمٌ: الآيَةُ نَزَلَتْ في مُنافِقِي اليَهُودِ، والمُرادُ بِالناسِ: عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ومَن أسْلَمَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا تَخْصِيصٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. و"لَقُوا" أصْلُهُ لَقِيُوا اسْتُثْقِلَتِ الضَمَّةُ عَلى الياءِ فَسَكَنَتْ، فاجْتَمَعَ الساكِنانِ فَحُذِفَتِ الياءُ. وقَرَأ ابْنُ السَمَيْفَعِ: "لاقَوُا الَّذِينَ". وهَذِهِ كانَتْ حالُ المُنافِقِينَ: إظْهارُ الإيمانِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وإظْهارُ الكُفْرِ في خَلَواتِهِمْ بَعْضُهم مَعَ بَعْضٍ، وكانَ المُؤْمِنُونَ يُلْبِسُونَهم عَلى ذَلِكَ لِمَوْضِعِ القَرابَةِ، فَلَمْ تَلْتَمِسْ (p-١٢٤)عَلَيْهِمُ الشَهاداتُ، ولا تَقَرَّرَ تَعَيُّنُهم في النِفاقِ تَقَرُّرًا يُوجِبُ لِوُضُوحِهِ الحُكْمَ بِقَتْلِهِمْ، وكانَ ما يُظْهِرُونَهُ مِنَ الإيمانِ يَحْقِنُ دِماءَهُمْ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعْرِضُ عنهُمْ، ويَدَعُهم في غَمْرَةِ الِاشْتِباهِ، مَخافَةَ أنْ يَتَحَدَّثَ عنهُ أنَّهُ يَقْتُلُ أصْحابَهُ، فَيَنْفِرُ الناسُ، حَسَبَ ما «قالَ عَلَيْهِ السَلامُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، حِينَ قالَ لَهُ في وقْتِ قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] القِصَّةُ، دَعْنِي يا رَسُولَ اللهِ أضْرِبُ عُنُقَ هَذا المُنافِقِ، فَقالَ: دَعْهُ، لا يَتَحَدَّثُ الناسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ» فَهَذِهِ طَرِيقَةُ أصْحابِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في مَعْنى كَفِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عن قَتْلِ المُنافِقِينَ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِمْ في الجُمْلَةِ، نَصَّ عَلى هَذا مُحَمَّدُ بْنُ الجَهْمِ، وإسْماعِيلُ القاضِي، والأبْهَرَيُّ، وابْنُ الماجَشُونِ، واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٠] ﴿مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾ [الأحزاب: ٦١] وقالَ قَتادَةُ، مَعْناهُ: إذا هم أعْلَنُوا النِفاقَ. (p-١٢٥)قالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: النِفاقُ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ: الزَنْدَقَةُ فِينا اليَوْمَ، فَيُقْتَلُ الزِنْدِيقُ إذا شَهِدَ عَلَيْهِ بِها دُونَ اسْتِتابَةٍ، لِأنَّهُ لا يُظْهِرُ ما يُسْتَتابُ مِنهُ، وإنَّما كَفَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ المُنافِقِينَ لِيَسُنَّ لِأُمَّتِهِ أنَّ الحاكِمَ لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إذْ لَمْ يَشْهَدْ عَلى المُنافِقِينَ. قالَ القاضِي إسْماعِيلُ: لَمْ يَشْهَدْ عَلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ إلّا زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وحْدَهُ، ولا عَلى الجُلاسِ بْنِ سُوَيْدٍ إلّا عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ رَبِيبِهِ وحْدَهُ، ولَوْ شَهِدَ عَلى أحَدٍ مِنهم رَجُلانِ بِكَفْرِهِ ونِفاقِهِ لَقُتِلَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أقْوى مِنَ انْفِرادِ زَيْدٍ وغَيْرِهِ أنَّ اللَفْظَ لَيْسَ بِصَرِيحِ كُفْرٍ، وإنَّما يُفْهَمُ مِن قَوَّتِهِ الكُفْرُ. قالَ الشافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: السُنَّةُ فِيمَن شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزَنْدَقَةِ، فَجَحَدَ وأعْلَنَ بِالإيمانِ، وتَبَرَّأ مِن كُلِّ دِينٍ سِوى الإسْلامِ، أنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِن إراقَةِ دَمِهِ، وبِهِ قالَ أصْحابُ الرَأْيِ والطَبَرِيُّ وغَيْرُهم. قالَ الشافِعِيُّ وأصْحابُهُ: وإنَّما مُنِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِن قَتْلِ المُنافِقِينَ، ما كانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الإسْلامِ بِألْسِنَتِهِمْ مَعَ العِلْمِ بِنِفاقِهِمْ، لِأنَّ ما يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ، فَمَن قالَ: إنَّ عُقُوبَةَ الزَنْدَقَةِ أشَدُّ مِن عُقُوبَةِ الكُفّارِ فَقَدْ خالَفَ مَعْنى الكِتابِ والسُنَّةِ، وجَعَلَ شَهادَةَ الشُهُودِ عَلى الزِنْدِيقِ فَوْقَ شَهادَةِ اللهِ عَلى المُنافِقِينَ، قالَ تَعالى: ﴿إذا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ واللهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] قالَ الشافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وابْنُ حَنْبَلٍ، وأهْلُ الحَدِيثِ: فالمَعْنى المُوجِبُ لِكَفِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عن قَتْلِ المُنافِقِينَ مَعَ العِلْمِ بِهِمْ أنَّ اللهَ تَعالى نَهاهُ عن قَتْلِهِمْ إذا أظْهَرُوا الإيمانَ، وصَلُّوا، فَكَذَلِكَ هو الزِنْدِيقُ. واحْتَجَّ ابْنُ حَنْبَلٍ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الخِيارِ عن رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ في الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالنِفاقِ فَقالَ: «ألَيْسَ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ، وأنِّي رَسُولُ اللهِ؟" قالُوا: بَلى، ولا شَهادَةَ لَهُ. قالَ: "ألَيْسَ يُصَلِّي"؟ قالُوا: بَلى ولا صَلاةَ لَهُ. قالَ: "أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهانِي اللهُ عنهم»، وذَكَرَ أيْضًا أهْلُ الحَدِيثِ ما رُوِيَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ فِيهِمْ: «لَعَلَّ اللهَ (p-١٢٦)سَيُخْرِجُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ، ويُصَدِّقُ المُرْسَلِينَ، يُخْلِصُ العِباداتِ لِرَبِّ العالَمِينَ» قالَ أبُو جَعْفَرٍ الطَبَرِيُّ في كِتابِ "اللَطِيفِ" في بابِ "المُرْتَدِّ": (إنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ الأحْكامَ بَيْنَ عِبادِهِ عَلى الظاهِرِ، وتَوَلّى الحُكْمَ في سَرائِرِهِمْ دُونَ أحَدٍ مِن خَلْقِهِ، فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَحْكُمَ بِخِلافِ ما ظَهَرَ، لِأنَّهُ حَكَمَ بِالظُنُونِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ لِأحَدٍ كانَ أولى الناسِ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وقَدْ حَكَمَ لِلْمُنافِقِينَ بِحُكْمِ المُسْلِمِينَ، بِما أظْهَرُوا، ووَكَلَ سَرائِرَهم إلى اللهِ، وقَدْ كَذَّبَ اللهُ ظاهِرَهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يَنْفَصِلُ المالِكِيُّونَ عَمّا أُلْزِمُوهُ مِن هَذِهِ الآيَةِ بِأنَّها لَمْ تُعَيِّنْ أشْخاصَهُمْ، وإنَّما جاءَ فِيها تَوْبِيخٌ لِكُلِّ مَغْمُوضٍ عَلَيْهِ بِالنِفاقِ، وبَقِيَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم أنْ يَقُولَ: لَمْ أُرَدْ بِها، وما أنا إلّا مُؤْمِنٌ، ولَوْ عَيِّنَ أحَدٌ لَما جَبَّ كَذِبُهُ شَيْئًا. (p-١٢٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ﴾ وُصِلَتْ "خَلَوْا" بِإلى وعُرْفُها أنْ تُوصَلَ بِالباءِ فَتَقُولُ: خَلَوْتُ بِفُلانٍ مِن حَيْثُ نَزَلَتْ "خَلَوْا" في هَذا المَوْضِعِ مَنزِلَةُ ذَهَبُوا وانْصَرَفُوا، إذْ هو فِعْلٌ مُعادِلٌ لِقَوْلِهِ: "لَقُوا". وهَذا مِثْلُ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِ الفَرَزْدَقِ: قَدْ قَتَلَ اللهُ زِيادًا عَنِّي. لَمّا أنْزَلَها مَنزِلَةَ صَرْفٍ ورَدٍّ، قالَ مَكِّيُّ: يُقالُ: خَلَوْتُ بِفُلانٍ، بِمَعْنى سَخِرْتُ بِهِ، فَجاءَتْ إلى في الآيَةِ زَوالًا عَنِ الِاشْتِراكِ في الباءِ، وقالَ قَوْمٌ: "إلى" بِمَعْنى "مَعَ" وفي هَذا ضَعْفٌ، ويَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللهِ﴾ [آل عمران: ٥٢]، وقالَ قَوْمٌ: "إلى" بِمَعْنى "الباءِ"، إذْ حُرُوفُ المَعانِي يُبْدَلُ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، وهَذا ضَعِيفٌ يَأْباهُ الخَلِيلُ، وسِيبَوَيْهِ، وغَيْرُهُما. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِالشَياطِينِ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: هم رُؤَساءُ الكَفْرِ، وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ وغَيْرُهُ: هم شَياطِينُ الجِنِّ، وهَذا في المَوْضِعِ بَعِيدٌ، وقالَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هُمُ الكُهّانُ. ولَفْظُ "الشَيْطَنَةُ" الَّذِي مَعْناهُ: البُعْدُ عَنِ الإيمانِ والخَيْرُ، يَعُمُّ جَمِيعَ مَن ذَكَرَ والمُنافِقِينَ، حَتّى يُقَدِّرَ كُلُّ واحِدٍ شَيْطانَ غَيْرِهِ، فَمِنهُمُ الخالُونَ ومِنهُمُ الشَياطِينُ. و"مُسْتَهْزِؤُنَ" مَعْناهُ نَتَّخِذُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ (p-١٢٨)نُصانِعَهم بِإظْهارِ الإيمانِ هُزُؤًا، ونَسْتَخِفُّ بِهِمْ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ: أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ مَضْمُومَةً عَلى الواوِ في "مُسْتَهْزِؤُونَ"، وحَكى عنهُ أبُو عَلِيٍّ أنَّها تُخَفَّفُ بَيْنَ بَيْنَ، ومَذْهَبُ أبِي الحَسَنِ الأخْفَشِ أنْ تُقْلَبَ الهَمْزَةُ ياءً قَلْبًا صَحِيحًا، فَيُقْرَأُ "مُسْتَهْزِيُونَ". قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَمَلَ الياءُ الضَمَّةَ تَذَكُّرًا لِحالِ الهَمْزَةِ المَضْمُومَةِ، والعَرَبُ تَعافُ ياءً مَضْمُومَةً قَبْلَها كَسْرَةٌ، وأكْثَرُ القُرّاءِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، ويُقالُ: هَزِئَ واسْتَهْزَأ بِمَعْنًى، فَهو كَعَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ومُسْتَعْجِبٌ مِمّا يَرى مِن أنّاتِنا ∗∗∗ ولَوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب