الباحث القرآني
(p-٧٦)﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ﴾ القَرابَةُ كُلُّها مُتَشَعِّبَةٌ عَنِ الأُبُوَّةِ، فَلا جَرَمَ انْتَقَلَ مِنَ الكَلامِ عَلى حُقُوقِ الأبَوَيْنِ إلى الكَلامِ عَلى حُقُوقِ القَرابَةِ.
ولِلْقَرابَةِ حَقّانِ: حُقُّ الصِّلَةِ، وحَقُّ المُواساةِ، وقَدْ جَمَعَهُما جِنْسُ الحَقِّ في قَوْلِهِ حَقَّهُ والحَوالَةُ فِيهِ ما هو مَعْرُوفٌ وعَلى أدِلَّةٍ أُخْرى.
والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلِ قَوْلِهِ ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ﴾ [الإسراء: ٢٣] .
والعُدُولُ عَنِ الخِطابِ بِالجَمْعِ في قَوْلِهِ ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكم إنْ تَكُونُوا صالِحِينَ﴾ [الإسراء: ٢٥] الآيَةَ إلى الخِطابِ بِالإفْرادِ بِقَوْلِهِ ﴿وآتِ ذا القُرْبى﴾ تَفَنُّنٌ؛ لِتَجَنُّبِ كَراهَةِ إعادَةِ الصِّيغَةِ الواحِدَةِ عِدَّةَ مَرّاتٍ، والمُخاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَهو في مَعْنى الجَمْعِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]؛ لِأنَّها مِن جُمْلَةِ ما قَضى اللَّهُ بِهِ.
والإيتاءُ: الإعْطاءُ، وهو حَقِيقَةٌ في إعْطاءِ الأشْياءِ، ومَجازٌ شائِعٌ في التَّمَكُّنِ مِنَ الأُمُورِ المَعْنَوِيَّةِ؛ كَحُسْنِ المُعامَلَةِ، والنُّصْرَةِ، ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ: «ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهو يَقْضِي بِها» الحَدِيثَ.
وإطْلاقُ الإيتاءِ هَنا صالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَما هي طَرِيقَةُ القُرْآنِ في تَوْفِيرِ المَعانِي، وإيجازِ الألْفاظِ.
وقَدْ بَيَّنَتْ أدِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ حُقُوقَ ذِي القُرْبى، ومَراتِبَها: مِن واجِبَةٍ مِثْلِ بَعْضِ النَّفَقَةِ عَلى بَعْضِ القَرابَةِ، مُبَيَّنَةٍ شُرُوطَها عِنْدَ الفُقَهاءِ، ومِن غَيْرِ واجِبَةٍ مِثْلِ الإحْسانِ.
ولَيْسَ لِهاتِهِ تَعَلُّقٌ بِحُقُوقِ قَرابَةِ النَّبِيءِ ﷺ؛ لِأنَّ حُقُوقَهم في المالِ تَقَرَّرَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ لَمّا فُرِضَتِ الزَّكاةُ وشُرِعَتِ المَغانِمُ، والأفْياءُ وقِسْمَتُها، ولِذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ العُلَماءِ هَذِهِ الآيَةَ عَلى حُقُوقِ قَرابَةِ (p-٧٧)النَّسَبِ بَيْنَ النّاسِ، وعَنْ عَلِيٍّ زَيْنِ العابِدِينَ أنَّها تَشْمَلُ قَرابَةَ النَّبِيءِ ﷺ .
والتَّعْرِيفُ في القُرْبى تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيِ القُرْبى مِنكَ، وهو الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأنَّ (ألْ) عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، وبِمُناسَبَةِ ذِكْرِ إيتاءِ ذِي القُرْبى عُطِفَ عَلَيْهِ مَن يُماثِلُهُ في اسْتِحْقاقِ المُواساةِ.
وحَقُّ المِسْكِينِ هو الصَّدَقَةُ، قالَ تَعالى ﴿ولا تَحُضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: ١٨] وقَوْلُهُ ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٤]، وقَدْ بَيَّنَتْ آياتٌ وأحادِيثُ كَثِيرَةٌ حُقُوقَ المَساكِينِ، وأعْظَمُها آيَةُ الزَّكاةِ، ومَراتِبَ الصَّدَقاتِ الواجِبَةِ وغَيْرَها.
وابْنَ السَّبِيلِ هو المُسافِرُ يَمُرُّ بِحَيٍّ مِنَ الأحْياءِ، فَلَهُ عَلى الحَيِّ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ حَقُّ ضِيافَتِهِ.
وحُقُوقُ الأضْيافِ في كَلامِ النَّبِيءِ ﷺ كَقَوْلِهِ: «مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جائِزَتُهُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ» .
وكانَتْ ضِيافَةُ ابْنِ السَّبِيلِ مِن أُصُولِ الحَنِيفِيَّةِ مِمّا سَنَّهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ الحَرِيرِيُّ: وحُرْمَةُ الشَّيْخِ الَّذِي سَنَّ القِرى.
وقَدْ جُعِلَ لِابْنِ السَّبِيلِ نَصِيبٌ مِنَ الزَّكاةِ.
وقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ ثَلاثَ وصايا أوْصى اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ ﴿وقَضى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] . . الآياتِ.
فَأمّا إيتاءُ ذِي القُرْبى فالمَقْصِدُ مِنهُ مُقارِبٌ لِلْمَقْصِدِ مِنَ الإحْسانِ لِلْوالِدَيْنِ؛ رَعْيًا لِاتِّحادِ المَنبَتِ القَرِيبِ، وشَدًّا لِآصِرَةِ العَشِيرَةِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنها القَبِيلَةُ، وفي ذَلِكَ صَلاحٌ عَظِيمٌ لِنِظامِ القَبِيلَةِ وأمْنِها، وذَبِّها عَنْ حَوْزَتِها.
وأمّا إيتاءُ المِسْكِينِ فَلِمَقْصِدِ انْتِظامِ المُجْتَمَعِ بِأنْ لا يَكُونَ مِن أفْرادِهِ مَن هو في بُؤْسٍ وشَقاءٍ، عَلى أنَّ ذَلِكَ المِسْكِينَ لا يَعْدُوا أنْ يَكُونَ مِنَ القَبِيلَةِ في الغالِبِ أقْعَدَهُ العَجْزُ عَنِ العَمَلِ، والفَقْرُ عَنِ الكِفايَةِ.
(p-٧٨)وأمّا إيتاءُ ابْنِ السَّبِيلِ؛ فَلِإكْمالِ نِظامِ المُجْتَمَعِ؛ لِأنَّ المارَّ بِهِ مِن غَيْرِ بَنِيهِ بِحاجَةٍ عَظِيمَةٍ إلى الإيواءِ لَيْلًا؛ لِيَقِيَهُ مِن عَوادِي الوُحُوشِ واللُّصُوصِ، وإلى الطَّعامِ والدِّفْءِ أوِ التَّظَلُّلِ مِن إضْرارِ الجُوعِ والفَقْرِ أوِ الحَرِّ.
* * *
﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ لَمّا ذُكِرَ البَذْلُ المَحْمُودُ، وكانَ ضِدُّهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ العَرَبِ؛ أعْقَبَهُ بِذِكْرِهِ لِلْمُناسَبَةِ.
ولِأنَّ في الِانْكِفافِ عَنِ البَذْلِ غَيْرِ المَحْمُودِ الَّذِي هو التَّبْذِيرُ اسْتِبْقاءٌ لِلْمالِ الَّذِي يَفِي بِالبَذْلِ المَأْمُورِ بِهِ، فالِانْكِفافُ عَنْ هَذا تَيْسِيرٌ لِذاكَ، وعَوْنٌ عَلَيْهِ، فَهَذا وإنْ كانَ غَرَضًا مُهِمًّا مِنَ التَّشْرِيعِ المَسُوقِ في هَذِهِ الآياتِ قَدْ وقَعَ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرادِ في أثْناءِ الوَصايا المُتَعَلِّقَةِ بِإيتاءِ المالِ؛ لِيُظْهِرَ كَوْنَهُ وسِيلَةً لِإيتاءِ المالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ، وكَوْنَهُ مَقْصُودًا بِالوِصايَةِ أيْضًا لِذاتِهِ، ولِذَلِكَ سَيَعُودُ الكَلامُ إلى إيتاءِ المالِ لِمُسْتَحِقِّيهِ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ بِقَوْلِهِ ﴿وإمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾ [الإسراء: ٢٨] الآيَةَ، ثُمَّ يَعُودُ الكَلامُ إلى ما بَيْنَ أحْكامِ التَّبْذِيرِ بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] .
ولَيْسَ قَوْلُهُ ﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ إلَخْ. .؛ لِأنَّ التَّبْذِيرَ لا يُوصَفُ بِهِ بَذْلُ المالِ في حَقِّهِ، ولَوْ كانَ أكْثَرَ مِن حاجَةِ المُعْطى بِالفَتْحِ.
فَجُمْلَةُ ﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]؛ لِأنَّها مِن جُمْلَةِ ما قَضى اللَّهُ بِهِ، وهي مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ الآيَةَ، وجُمْلَةُ ﴿وإمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾ [الإسراء: ٢٨] الآيَةَ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ وصِيَّةً سادِسَةً مِمّا قَضى اللَّهُ بِهِ.
(p-٧٩)والتَّبْذِيرُ: تَفْرِيقُ المالِ في غَيْرِ وجْهِهِ، وهو مُرادِفُ الإسْرافِ، فَإنْفاقُهُ في الفَسادِ تَبْذِيرٌ، ولَوْ كانَ المِقْدارُ قَلِيلًا، وإنْفاقُهُ في المُباحِ إذا بَلَغَ حَدَّ السَّرَفِ تَبْذِيرٌ، وإنْفاقُهُ في وُجُوهِ البِرِّ والصَّلاحِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، وقَدْ قالَ بَعْضُهم لِمَن رَآهُ يُنْفَقُ في وُجُوهِ الخَيْرِ: لا خَيْرَ في السَّرَفِ، فَأجابَهُ المُنْفِقُ: لا سَرَفَ في الخَيْرِ، فَكانَ فِيهِ مِن بَدِيعِ الفَصاحَةِ مُحْسِنُ العَكْسِ.
ووَجْهُ النَّهْيِ عَنِ التَّبْذِيرِ هو أنَّ المالَ جُعِلَ عِوَضًا لِاقْتِناءِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ المَرْءُ في حَياتِهِ مِن ضَرُورِيّاتٍ، وحاجِيّاتٍ، وتَحْسِيناتٍ، وكانَ نِظامُ القَصْدِ في إنْفاقِهِ ضامِنَ كِفايَتِهِ في غالِبِ الأحْوالِ بِحَيْثُ إذا أُنْفِقَ في وجْهِهِ عَلى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ والحاجِيِّ والتَّحْسِينِيِّ أمِنَ صاحِبُهُ مِنَ إلَخْصاصَةِ فِيما هو إلَيْهِ أشَدُّ احْتِياجًا، وتَجاوُزُ هَذا الحَدِّ فِيهِ يُسَمّى تَبْذِيرًا بِالنِّسْبَةِ إلى أصْحابِ الأمْوالِ ذاتِ الكَفافِ، وأمّا أهْلُ الوَفْرِ والثَّرْوَةِ فَلِأنَّ ذَلِكَ الوَفْرَ آتٍ مِن أبْوابٍ اتَّسَعَتْ لِأحَدٍ فَضاقَتْ عَلى آخَرَ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّ الأمْوالَ مَحْدُودَةٌ، فَذَلِكَ الوَفْرُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لِإقامَةِ أوَدِ المُعْوِزِينَ، وأهْلِ الحاجَةِ الَّذِينَ يَزْدادُ عَدَدُهم بِمِقْدارِ وفْرَةِ الأمْوالِ الَّتِي بِأيْدِي أهْلِ الوَفْرِ والجِدَةِ، فَهو مَرْصُودٌ لِإقامَةِ مَصالِحِ العائِلَةِ، والقَبِيلَةِ وبِالتّالِي مَصالِحُ الأُمَّةِ.
فَأحْسَنُ ما يُبْذَلُ فِيهِ وفْرُ المالِ هو اكْتِسابُ الزُّلْفى عِنْدَ اللَّهِ، قالَ تَعالى ﴿وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٤١]، واكْتِسابُ المَحْمَدَةِ بَيْنَ قَوْمِهِ، وقَدِيمًا قالَ المَثَلُ العَرَبِيُّ (نِعْمَ العَوْنُ عَلى المُرُوءَةِ الجِدَةُ)، قالَ. . . (اللَّهُمَّ هَبْ لِي حَمْدًا، وهَبْ لِي مَجْدًا، فَإنَّهُ لا حَمْدَ إلّا بِفِعالٍ، ولا فِعالَ إلّا بِمالٍ) .
والمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أنْ تَكُونَ أمْوالُ الأُمَّةِ عُدَّةً لَها، وقُوَّةً لِابْتِناءِ أساسِ مَجْدِها، والحِفاظِ عَلى مَكانَتِها حَتّى تَكُونَ مَرْهُوبَةَ الجانِبِ مَرْمُوقَةً بِعَيْنِ الِاعْتِبارِ غَيْرَ مُحْتاجَةٍ إلى مَن قَدْ يَسْتَغِلُّ حاجَتَها فَيَبْتَزُّ مَنافِعَها، ويُدْخِلَها تَحْتَ نِيرِ سُلْطانِهِ.
(p-٨٠)ولِهَذا أضافَ اللَّهُ تَعالى الأمْوالَ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ في قَوْلِهِ ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيَمًا﴾ [النساء: ٥] ولَمْ يَقُلْ: أمْوالُهم مَعَ أنَّها أمْوالُ السُّفَهاءِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمُ أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] فَأضافَها إلَيْهِمْ حِينَ صارُوا رُشَداءَ.
وما مَنَعَ السُّفَهاءَ مِنَ التَّصَرُّفِ في أمْوالِهِمْ إلّا خَشْيَةَ التَّبْذِيرِ، ولِذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ السَّفِيهُ في شَيْءٍ مِن مالِهِ تَصَرُّفَ السَّدادِ والصَّلاحِ لَمَضى.
وذَكَرَ المَفْعُولَ المُطْلَقَ تَبْذِيرًا بَعْدَ ﴿ولا تُبَذِّرْ﴾ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ كَأنَّهُ قِيلَ: لا تُبَذِّرْ، لا تُبَذِّرْ، مَعَ ما في المَصْدَرِ مِنِ اسْتِحْضارِ جِنْسِ المَنهِيِّ عَنْهُ اسْتِحْضارًا لِما تُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الحَقِيقَةُ بِما فِيها مِنَ المَفاسِدِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ﴾ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيْ الَّذِينَ عَرَفُوا بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ كالتَّعْرِيفِ في قَوْلِهِ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] .
والإخْوانُ جَمْعُ أخٍ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْمُلازِمِ غَيْرِ المُفارِقِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الأخِ، كَقَوْلِهِمْ: أخُو العِلْمِ، أيْ مَلازِمُهُ والمُتَّصِفُ بِهِ، وأخُو السَّفَرِ لِمَن يُكْثِرُ الأسْفارَ، وقَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
؎وأخُو الحَضَرِ إذْ بَناهُ وإذْ دِجْ لَةُ تَجْبِي إلَيْهِ والخابُورُ
يُرِيدُ صاحِبَ قَصْرِ الحَضَرِ، وهو مَلِكُ بَلَدِ الحَضَرِ المُسَمّى (الضَّيْزَنَ) بْنَ مُعاوِيَةَ القُضاعِيَّ المُلَقَّبَ السيَّطْرُونَ.
والمَعْنى: أنَّهم مِن أتْباعِ الشَّياطِينِ ؟ وحُلَفائِهِمْ كَما يُتابِعُ الأخُ أخاهُ.
وقَدْ زِيدَ تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِلَفْظِ كانُوا المُفِيدِ أنَّ تِلْكَ الأُخُوَّةَ صِفَةٌ راسِخَةٌ فِيهِمْ، وكَفى بِحَقِيقَةِ الشَّيْطانِ كَراهَةً في النُّفُوسِ واسْتِقْباحًا.
(p-٨١)ومَعْنى ذَلِكَ: أنَّ التَّبْذِيرَ يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطانُ؛ لِأنَّهُ إمّا إنْفاقٌ في الفَسادِ، وإمّا إسْرافٌ يَسْتَنْزِفُ المالَ في السَّفاسِفِ، واللَّذّاتِ فَيُعَطِّلُ الإنْفاقَ في الخَيْرِ وكُلُّ ذَلِكَ يُرْضِي الشَّيْطانَ، فَلا جَرَمَ أنْ كانَ المُتَّصِفُونَ بِالتَّبْذِيرِ مِن جُنْدِ الشَّيْطانِ وإخْوانِهِ.
وهَذا تَحْذِيرٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَإنَّ التَّبْذِيرَ إذا فَعَلَهُ المَرْءُ اعْتادَهُ فَأدْمَنَ عَلَيْهِ فَصارَ لَهُ خُلُقًا، لا يُفارِقُهُ شَأْنَ الأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ أنْ يَسْهُلَ تَعَلُّقُها بِالنُّفُوسِ، كَما ورَدَ في الحَدِيثِ «إنَّ المَرْءَ لا يَزالُ يَكْذِبُ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا»، فَإذا بَذَرَ المَرْءُ لَمْ يَلْبَثْ أنْ يَصِيرَ مِنَ المُبَذِّرِينَ، أيِ المَعْرُوفِينَ بِهَذا الوَصْفِ، والمُبَذِّرُونَ إخْوانُ الشَّياطِينِ، فَلْيَحْذَرِ المَرْءُ مِن عَمَلٍ هو مِن شَأْنِ إخْوانِ الشَّياطِينِ، ولْيَحْذَرْ أنْ يَنْقَلِبَ مِن إخْوانِ الشَّياطِينِ، وبِهَذا يَتَبَيَّنُ أنَّ في الكَلامِ إيجازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فَتَصِيرُ مِنَ المُبَذِّرِينَ؛ إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى المَحْذُوفِ أنَّ المَرْءَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مِن المُبَذِّرِينَ عِنْدَما يُبَذِّرُ تَبْذِيرَةً أوْ تَبْذِيرَتَيْنِ.
ثُمَّ أكَّدَ التَّحْذِيرَ بِجُمْلَةِ ﴿وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾، وهَذا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِن أنْ يُفْضِيَ التَّبْذِيرُ بِصاحِبِهِ إلى الكُفْرِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ التَّخَلُّقِ بِالطَّبائِعِ الشَّيْطانِيَّةِ، فَيَذْهَبُ بِتَدَهْوُرٍ في مَهاوِي الضَّلالَةِ حَتّى يَبْلُغَ بِهِ إلى الكُفْرِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، ويَجُوزُ حَمْلُ الكُفْرِ هُنا عَلى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَيَكُونُ أقْرَبَ دَرَجاتٍ إلى حالِ التَّخَلُّقِ بِالتَّبْذِيرِ؛ لِأنَّ التَّبْذِيرَ صَرْفُ المالِ في غَيْرِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهو كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ بِالمالِ، فالتَّخَلُّقُ بِهِ يُفْضِي إلى التَّخَلُّقِ والِاعْتِيادِ لِكُفْرانِ النِّعَمِ.
وعَلى الوَجْهَيْنِ فالكَلامُ جارٍ عَلى ما يُعْرَفُ في المَنطِقِ بِقِياسِ المُساواةِ، إذْ كانَ المُبَذِّرُ مُؤاخِيًا لِلشَّيْطانِ، وكانَ الشَّيْطانُ كَفُورًا، فَكانَ المُبَذِّرُ كَفُورًا بِالمَآلِ أوْ بِالدَّرَجَةِ القَرِيبَةِ.
(p-٨٢)وقَدْ كانَ التَّبْذِيرُ مِن خُلُقِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، ولِذَلِكَ يَتَمَدَّحُونَ بِصِفَةِ المِتْلافِ والمُهْلِكِ المالَ، فَكانَ عِنْدَهُمُ المَيْسِرُ مِن أسْبابِ الإتْلافِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ مِن التَّلَبُّسِ بِصِفاتِ أهْلِ الكُفْرِ، وهي مَنِ المَذامِّ، وأدَّبَهم بِآدابِ الحِكْمَةِ والكَمالِ.
{"ayahs_start":26,"ayahs":["وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِیرًا","إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤا۟ إِخۡوَ ٰنَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا"],"ayah":"إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤا۟ إِخۡوَ ٰنَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق