الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٥-٢٧] ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكم إنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإنَّهُ كانَ لِلأوّابِينَ غَفُورًا﴾ ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٧] . ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما في نُفُوسِكُمْ﴾ أيْ: ضَمائِرِكِمْ مِن قَصْدِ البِرِّ إلى الوالِدَيْنِ والعُقُوقِ: ﴿إنْ تَكُونُوا صالِحِينَ﴾ أيْ: قاصِدِينَ لِلصَّلاحِ والبِرِّ دُونَ العُقُوقِ: ﴿فَإنَّهُ كانَ لِلأوّابِينَ﴾ أيِ: التَّوّابِينَ الرَّجّاعِينَ إلَيْهِ تَعالى بِالنَّدَمِ عَمّا فَرَطَ مِنهم، والِاسْتِقامَةِ عَلى المَأْمُورِ: ﴿غَفُورًا﴾ أيْ: لَهم ما اكْتَسَبُوا. ولا يَخْفى ما في صَدْرِ الآيَةِ مِنَ الوَعْدِ لِمَن أضْمَرَ البَرَّ. والوَعِيدِ لِمَن أضْمَرَ الكَراهَةَ والِاسْتِثْقالَ والعُقُوقَ. قِيلَ: الآيَةُ اسْتِئْنافٌ يَقْتَضِيهِ مَقامُ التَّأْكِيدِ والتَّشْدِيدِ. كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَقُومُ بِحَقِّهِما وقَدْ تَبْدُرُ بَوادِرُ ؟ فَقِيلَ: إذا بَنَيْتُمُ الأمْرَ عَلى الأساسِ، وكانَ المُسْتَمِرُّ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَتْ بادِرَةٌ مِن غَيْرِ قَصْدٍ إلى المَساءَةِ، فَلُطْفُ اللَّهِ يَحْجِزُ دُونَ عَذابِهِ. ويَجُوزُ - كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - أنَّ يَكُونَ هَذا عامًّا لِكُلِّ مَن فَرَطَتْ مِنهُ جِنايَةٌ ثُمَّ تابَ مِنها. ويَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الجانِي عَلى أبَوَيْهِ، التّائِبُ مِن جِنايَتِهِ؛ لِوُرُودِهِ عَلى أثَرِهِ. ثُمَّ وصّى تَعالى بِغَيْرِ الوالِدَيْنِ مِنَ الأقارِبِ، بَعْدَ الوَصِيَّةِ بِهِما، (p-٣٩٢١)بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: ٢٦] أيْ: مِن صِلَتِهِ وحُسْنِ المُعاشَرَةِ والبِرِّ لَهُ بِالإنْفاقِ عَلَيْهِ. قالَ المَهايِمِيُّ: لَمْ يَقُلِ (القَرِيبَ) لِأنَّ المُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلى الكامِلِ. والإضافَةُ لَمّا كانَتْ لِأدْنى المُلابَسَةِ، صَدَّقَ (ذُو القُرْبى) عَلى كُلِّ مَن لَهُ قُرابَةٌ ما: ﴿والمِسْكِينَ﴾ [الإسراء: ٢٦] أيِ: الفَقِيرَ مِنَ الأباعِدِ. وفي الأقارِبِ مَعَ الصَّدَقَةِ صِلَةُ الرَّحِمِ ﴿وابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: ٢٦] أيِ: المُسافِرَ المُنْقَطَعَ بِهِ. أيْ: أعِنْهُ وقَوِّهِ عَلى قَطْعِ سَفَرِهِ. ويَدْخُلُ فِيهِ ما يُعْطاهُ مِن حُمُولَةٍ أوْ مَعُونَةٍ أوْ ضِيافَةٍ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن حَقِّهِ: ﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦] أيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، بِالإنْفاقِ في مُحَرَّمٍ أوْ مَكْرُوهٍ، أوْ عَلى مَن لا يَسْتَحِقُّ، فَتَحْسَبُهُ إحْسانًا إلى نَفْسِكَ أوْ غَيْرِكَ. أفادَهُ المَهايِمِيُّ. وفِي (الكَشّافُ): كانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَنْحَرُ إبِلَها وتَتَياسَرُ عَلَيْها، وتُبَذِّرُ أمْوالَها في الفَخْرِ والسُّمْعَةِ، وتَذْكُرُ ذَلِكَ في أشْعارِها. فَأمَرَ اللَّهُ بِالنَّفَقَةِ في وُجُوهِها، مِمّا يَقْرُبُ مِنهُ ويَزْلُفُ. ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] أيْ: أمْثالُهم في كُفْرانِ نِعْمَةِ المالِ بِصَرْفِهِ فِيما لا يَنْبَغِي. وهَذا غايَةُ المَذَمَّةِ؛ لِأنَّ لا شَرَّ مِنَ الشَّيْطانِ. أوْ هم إخْوانُهم أتْباعُهم في المُصادَقَةِ والإطاعَةِ. كَما يُطِيعُ الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ والتّابِعُ مَتْبُوعَهُ، أوْ هم قُرَناؤُهم في النّارِ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ. والجُمْلَةُ تَعْلِيلُ المَنهِيِّ عَنْهُ عَنِ التَّبْذِيرِ، بِبَيانِ أنَّهُ يَجْعَلُ صاحِبَهُ مَقْرُونًا مَعَهم. وقَوْلُهُ: ﴿وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٧] مِن تَتِمَّةِ التَّعْلِيلِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: أيْ: مُبالِغًا في كُفْرانِ نِعْمَتِهِ تَعالى؛ لِأنَّ شَأْنَهُ أنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ ما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ القُوى، أيْ: مُبالِغًا في كُفْرانِ نِعْمَتِهِ تَعالى؛ لِأنَّ شَأْنَهُ أنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ ما أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ القُوى إلى غَيْرِ ما خُلِقَتْ لَهُ مِن أنْواعِ المَعاصِي، والإفْسادِ في الأرْضِ، وإضْلالِ النّاسِ، وحَمْلِهِمْ عَلى الكُفْرِ بِاللَّهِ، وكُفْرانِ نِعَمِهِ الفائِضَةِ عَلَيْهِمْ، وصَرْفِها إلى غَيْرِ ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ. وتَخْصِيصُ هَذا الوَصْفِ بِالذِّكْرِ، مِن بَيْنِ سائِرِ أوْصافِهِ القَبِيحَةِ؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ التَّبْذِيرَ، الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ صَرْفِ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى إلى غَيْرِ مَصْرِفِها، مِن بابِ الكُفْرانِ، المُقابِلِ لِلشُّكْرِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ صَرْفِها إلى ما خُلِقَتْ هي لَهُ. والتَّعَرُّضُ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ لِلْإشْعارِ بِكَمالِ عُتُوِّهِ. فَإنَّ (p-٣٩٢٢)كُفْرانَ نِعْمَةِ الرَّبِّ، مَعَ كَوْنِ الرُّبُوبِيَّةِ مِن أقْوى الدَّواعِي إلى شُكْرِها، غايَةَ الكُفْرانِ ونِهايَةَ الضَّلالِ والطُّغْيانِ. انْتَهى. وقَدِ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن مَنَعَ إعْطاءَ المالِ كُلِّهِ في سَبِيلِ الخَيْرِ، ومَن مَنَعَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مالِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب