﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ جُمْلَةُ (﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وإنْ تَعْجَبْ﴾ [الرعد: ٥])؛ لِأنَّ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ حِكايَةٌ لِغَرِيبِ أحْوالِهِمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ والِاسْتِخْفافِ بِالوَعِيدِ. فابْتَدَأ بِذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِ الآخِرَةِ لِإنْكارِهِمُ البَعْثَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ تَكْذِيبَهم بِوَعِيدِ الدُّنْيا لِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ . وفي الِاسْتِخْفافِ بِوَعِيدِ نُزُولِ العَذابِ وعَدِّهِمْ إيّاهُ مُسْتَحِيلًا في حالِ أنَّهم شاهَدُوا آثارَ العَذابِ النّازِلِ (p-٩٢)بِالأُمَمِ قَبْلَهم، وما ذَلِكَ إلّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى الَّتِي سَبَقَتِ الكَلامَ لِلِاسْتِدْلالِ عَلَيْها والتَّفْرِيعِ عَنْها، فَهم يَسْتَعْجِلُونَ بِنُزُولِهِ بِهِمُ اسْتِخْفافًا واسْتِهْزاءً كَقَوْلِهِمْ ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، وقَوْلِهِمْ ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ [الإسراء: ٩٢] .
والباءُ في (بِالسَّيِّئَةِ) لِتَعْدِيَةِ الفِعْلِ إلى ما لَمْ يَكُنْ يَتَعَدّى إلَيْهِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] في سُورَةِ الأنْعامِ.
والسَّيِّئَةُ: الحالَةُ السَّيِّئَةُ. وهي هُنا المُصِيبَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَن تَحُلُّ بِهِ. والحَسَنَةُ ضِدُّها، أيْ أنَّهم سَألُوا مِنَ الآياتِ ما فِيهِ عَذابٌ بِسُوءٍ، كَقَوْلِهِمْ ﴿إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ [الأنفال: ٣٢] دُونَ أنْ يَسْألُوا آيَةً مِنَ الحَسَناتِ.
فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ حِكايَةً لِبَعْضِ أحْوالِ سُؤالِهِمُ الظّانِّينَ أنَّهُ تَعْجِيزٌ، والدّالِّينَ بِهِ عَلى التَّهَكُّمِ بِالعَذابِ.
وقَبْلِيَّةُ السَّيِّئَةِ قَبْلِيَّةٌ اعْتِبارِيَّةٌ، أيْ مُخْتارِينَ السَّيِّئَةَ دُونَ الحَسَنَةِ. وسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ [النمل: ٤٦] في سُورَةِ النَّمْلِ فانْظُرْهُ.
وجُمْلَةُ (﴿وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ﴾) في مَوْضِعِ الحالِ. وهو مَحَلُّ زِيادَةِ التَّعْجِيبِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْذُرُونَ فِيهِ لَوْ كانُوا لَمْ يَرَوْا آثارَ الأُمَمَ المُعَذَّبَةِ مِثْلَ عادٍ وثَمُودَ.
والمَثُلاتُ بِفَتْحِ المِيمِ وضَمِّ المُثَلَّثَةِ: جَمْعُ مَثُلَةٍ بِفَتْحِ المِيمِ وضَمِّ الثّاءِ كَسَمُرَةٍ، وبِضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ الثّاءِ كَعُرْفَةٍ: وهي العُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكُونُ مِثالًا تُمَثَّلُ بِهِ العُقُوباتُ.
وجُمْلَةُ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ﴾)، وهَذا كَشْفٌ لِغُرُورِهِمْ بِتَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم لِأنَّهم لَمّا (p-٩٣)اسْتَهْزَءُوا بِالنَّبِيءِ ﷺ وتَعَرَّضُوا لِسُؤالِ حُلُولِ العَذابِ بِهِمْ ورَأوْا أنَّهُ لَمْ يُعَجَّلْ لَهم حُلُولُهُ اعْتَرَتْهم ضَراوَةٌ بِالتَّكْذِيبِ وحَسِبُوا تَأْخِيرَ العَذابِ عَجْزًا مِنَ المُتَوَعِّدِ وكَذَّبُوا النَّبِيءَ ﷺ وهم يَجْهَلُونَ أنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبادَهُ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ، فالمَغْفِرَةُ هُنا مُسْتَعْمَلَةٌ في المَغْفِرَةِ المُوَقَّتَةِ، وهي التَّجاوُزُ عَنْ ضَراوَةِ تَكْذِيبِهِمْ، وتَأْخِيرُ العَذابِ إلى أجَلٍ، كَما قالَ تَعالى ولَئِنْ أخَّرْنا عَنْهُمُ العَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ﴿ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهم وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [هود: ٨] .
وقَرِينَةُ ذَلِكَ أنَّ الكَلامَ جارٍ عَلى عَذابِ الدُّنْيا وهو الَّذِي يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ كَما قالَ تَعالى ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥]، أيْ عَذابِ الدُّنْيا، وهو الجُوعُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قُرَيْشٌ بَعْدَ أنْ كانَ يُطْعِمُهم مِن جُوعٍ و(عَلى) في قَوْلِهِ (عَلى ظُلْمِهِمْ) بِمَعْنى مَعَ.
وسِياقُ الآيَةِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَغْفِرَةِ هُنا التَّجاوُزُ عَنِ المُشْرِكِينَ في الدُّنْيا بِتَأْخِيرِ العِقابِ لَهم إلى أجَلٍ أرادَهُ اللَّهُ أوْ إلى يَوْمِ الحِسابِ، وأنَّ المُرادَ بِالعِقابِ في قَوْلِهِ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ ضِدُّ تِلْكَ المَغْفِرَةِ وهو العِقابُ المُؤَجَّلُ في الدُّنْيا أوْ عِقابُ يَوْمِ الحِسابِ، فَمَحْمَلُ الظُّلْمِ عَلى ما هو المَشْهُورُ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ مِن إطْلاقِهِ عَلى الشِّرْكِ.
ويَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ الظُّلْمُ عَلى ارْتِكابِ الذُّنُوبِ بِقَرِينَةِ السِّياقِ كَإطْلاقِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] فَلا تَعارُضَ أصْلًا بَيْنَ هَذا المَحْمَلِ وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] كَما هو ظاهِرٌ.
وفائِدَةُ هَذِهِ العِلاوَةِ إظْهارُ شِدَّةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبادِهِ في الدُّنْيا كَما قالَ ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخِّرُهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [فاطر: ٤٥] .
(p-٩٤)وجُمْلَةُ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ احْتِراسٌ لِئَلّا يَحْسَبُوا أنَّ المَغْفِرَةَ المَذْكُورَةَ مَغْفِرَةٌ دائِمَةٌ تَعْرِيضًا بِأنَّ العِقابَ حالٌّ بِهِمْ مِن بَعْدُ.
{"ayah":"وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّیِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَـٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةࣲ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}